العدد : ١٧٣٥٧ - الثلاثاء ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٥٧ - الثلاثاء ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

مقالات

قبعة الوعي.. معيار كفاءة الأداء المؤسسي

بقلم: عبير محمد دهام

الاثنين ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬تجربة‭ ‬وإيمان‭ ‬بأن‭ ‬تطوير‭ ‬المؤسسات‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬التزام‭ ‬كل‭ ‬موظف‭ ‬بمسؤولياته‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬تحسين‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭. ‬فكل‭ ‬فرد‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬متكاملة،‭ ‬وعندما‭ ‬يتحلى‭ ‬بالوعي‭ ‬والانضباط،‭ ‬تتجه‭ ‬المؤسسات‭ ‬بخطى‭ ‬ثابتة‭ ‬نحو‭ ‬أداء‭ ‬أفضل‭ ‬وبيئة‭ ‬أكثر‭ ‬تعاوناً‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الانطباع‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬تتركه‭ ‬مقار‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬زائريها‭ ‬يمثل‭ ‬مرآة‭ ‬لمدى‭ ‬جديتها‭ ‬وكفاءتها‭.‬

في‭ ‬إحدى‭ ‬المرات،‭ ‬دخل‭ ‬زائر‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬فوجد‭ ‬مكتب‭ ‬الاستقبال‭ ‬غارقا‭ ‬في‭ ‬الأوراق‭ ‬والملصقات،‭ ‬وعلى‭ ‬الطاولة‭ ‬ورقة‭ ‬تحمل‭ ‬عبارة‭ ‬غاضبة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالعمل‭. ‬لم‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬أحد،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬خرج‭ ‬بصورة‭ ‬ذهنية‭ ‬كاملة‭ ‬خلال‭ ‬لحظات‭.. ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬البسيطة‭ ‬تكشف‭ ‬أن‭ ‬المظهر‭ ‬الخارجي‭ ‬للمؤسسة،‭ ‬من‭ ‬الاستقبال‭ ‬حتى‭ ‬المكاتب‭ ‬الداخلية،‭ ‬إما‭ ‬يعزز‭ ‬الثقة‭ ‬أو‭ ‬يترك‭ ‬انطباعاً‭ ‬سلبياً،‭ ‬وأن‭ ‬الانتباه‭ ‬للتفاصيل‭ ‬اليومية‭ ‬يظل‭ ‬جزءاً‭ ‬أساسياً‭ ‬من‭ ‬السمعة‭ ‬المؤسسية‭. ‬

فالمراجع‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬لوائح‭ ‬الجودة‭ ‬أو‭ ‬الخطط‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬لكنه‭ ‬يلاحظ‭ ‬ببساطة‭ ‬مدى‭ ‬نظافة‭ ‬المكان،‭ ‬ترتيب‭ ‬المكاتب،‭ ‬أسلوب‭ ‬الترحيب،‭ ‬وحتى‭ ‬لغة‭ ‬الجسد‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬موظف‭ ‬الاستقبال‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬رسائل‭ ‬قوية‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬المؤسسة‭ ‬وانضباطها‭.‬

القيم‭ ‬المؤسسية‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بما‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬اللوائح،‭ ‬وإنما‭ ‬تنعكس‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬اليومية‭. ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬الانضباط‭ ‬والشفافية‭ ‬في‭ ‬بيئتها‭ ‬ترسخ‭ ‬مكانتها،‭ ‬بينما‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬الشعارات‭ ‬وتغيب‭ ‬عن‭ ‬التطبيق‭ ‬تفقد‭ ‬مصداقيتها‭ ‬سريعاً‭. ‬ولهذا‭ ‬اتجهت‭ ‬جهات‭ ‬عديدة‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬بيئات‭ ‬عمل‭ ‬مفتوحة‭ ‬تشجع‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬وتزيل‭ ‬الحواجز،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬سياسات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬المكتب‭ ‬النظيف‭ - ‬Clean‭ ‬Desk‭ ‬Policy‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تلزم‭ ‬الموظفين‭ ‬بترك‭ ‬أماكنهم‭ ‬مرتبة‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الدوام‭. ‬هذه‭ ‬الممارسة‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الناحية‭ ‬الشكلية،‭ ‬بل‭ ‬تضمن‭ ‬أيضاً‭ ‬حماية‭ ‬المعلومات،‭ ‬وتمنح‭ ‬انطباع‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬والالتزام‭.‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬هناك‭ ‬ممارسات‭ ‬تضعف‭ ‬الثقافة‭ ‬المؤسسية،‭ ‬مثل‭ ‬تحويل‭ ‬المكتب‭ ‬إلى‭ ‬مساحة‭ ‬شخصية‭ ‬مفرطة،‭ ‬أو‭ ‬إغلاقه‭ ‬دون‭ ‬مبرر،‭ ‬أو‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬لمجرد‭ ‬الراحة‭. ‬هذه‭ ‬التصرفات‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬بسيطة‭ ‬لكنها‭ ‬تحمل‭ ‬رسائل‭ ‬سلبية‭ ‬عن‭ ‬غياب‭ ‬الانضباط‭. ‬أما‭ ‬الثقافة‭ ‬الصحية‭ ‬فتقوم‭ ‬على‭ ‬توازن‭ ‬بين‭ ‬خصوصية‭ ‬يفرضها‭ ‬العمل‭ ‬أحياناً‭ ‬وانفتاح‭ ‬يسهل‭ ‬التعاون‭ ‬ويعزز‭ ‬روح‭ ‬الفريق‭. ‬ولتجسيد‭ ‬هذا‭ ‬التوازن،‭ ‬يمكن‭ ‬وضع‭ ‬إرشادات‭ ‬واضحة‭ ‬لاستخدام‭ ‬المكاتب‭ ‬المشتركة،‭ ‬وتخصيص‭ ‬مساحات‭ ‬للتخزين‭ ‬الشخصي،‭ ‬مع‭ ‬متابعة‭ ‬دورية‭ ‬تضمن‭ ‬استمرارية‭ ‬التطبيق‭ ‬وعدم‭ ‬التراخي‭.‬

وهناك‭ ‬أيضاً‭ ‬سلوكيات‭ ‬صغيرة‭ ‬لكنها‭ ‬مؤثرة،‭ ‬كالموظف‭ ‬الذي‭ ‬يطفئ‭ ‬أجهزته‭ ‬قبل‭ ‬مغادرته،‭ ‬أو‭ ‬يغلق‭ ‬الأضواء،‭ ‬أو‭ ‬يرتب‭ ‬مكتبه‭ ‬بعناية‭. ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬البسيطة‭ ‬لا‭ ‬تمر‭ ‬مرور‭ ‬الكرام،‭ ‬فهي‭ ‬رسائل‭ ‬صامتة‭ ‬تكشف‭ ‬وعيا‭ ‬وانتماء‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يبرز‭ ‬دور‭ ‬القيادة‭.. ‬فالقائد‭ ‬الناجح‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بإصدار‭ ‬التعليمات‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬بل‭ ‬يكون‭ ‬حاضرا‭ ‬بين‭ ‬موظفيه،‭ ‬يلاحظ‭ ‬ويتابع‭ ‬ويستمع‭. ‬مرور‭ ‬المدير‭ ‬بين‭ ‬المكاتب‭ ‬ليس‭ ‬تفتيشا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬رسالة‭ ‬دعم‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الجهد‭ ‬محل‭ ‬تقدير،‭ ‬وأن‭ ‬التفاصيل‭ ‬اليومية‭ ‬تصنع‭ ‬الفارق‭. ‬ويمكن‭ ‬للقيادة‭ ‬أن‭ ‬تضيف‭ ‬قيمة‭ ‬أكبر‭ ‬عندما‭ ‬تربط‭ ‬هذه‭ ‬الجولات‭ ‬بالتوجيه‭ ‬الإيجابي،‭ ‬وتثني‭ ‬على‭ ‬الممارسات‭ ‬الصحيحة،‭ ‬وتقدم‭ ‬النصيحة‭ ‬في‭ ‬وقتها‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬انتظار‭ ‬التقارير‭ ‬المكتوبة‭.‬

الصورة‭ ‬الكلية‭ ‬لا‭ ‬تبنى‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬الأفراد‭ ‬وحدهم‭.. ‬فإدارات‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬والإدارات‭ ‬المساندة‭ ‬تضطلع‭ ‬بدور‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬معايير‭ ‬موحدة‭ ‬لشكل‭ ‬المكاتب‭ ‬الأمامية‭ ‬والإدارية،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬التصميم‭ ‬والألوان‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬التنظيم‭. ‬هذه‭ ‬الضوابط‭ ‬تمنع‭ ‬الفوضى،‭ ‬وتعكس‭ ‬الهوية‭ ‬المؤسسية،‭ ‬وتبني‭ ‬لغة‭ ‬بصرية‭ ‬وسلوكية‭ ‬واحدة‭ ‬تعزز‭ ‬مكانة‭ ‬المؤسسة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬ومن‭ ‬المفيد‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬تُعمم‭ ‬الأدلة‭ ‬الإجرائية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬توضح‭ ‬للموظفين‭ ‬كيفية‭ ‬ترتيب‭ ‬المكاتب،‭ ‬وإدارة‭ ‬الأصول،‭ ‬واستخدام‭ ‬الأدوات‭ ‬المكتبية‭ ‬بطريقة‭ ‬منظمة،‭ ‬فالتبسيط‭ ‬يضمن‭ ‬الالتزام‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬قبعة‭ ‬الوعي‭ ‬ليست‭ ‬رمزاً‭ ‬شكلياً،‭ ‬بل‭ ‬التزام‭ ‬ومسؤولية‭ ‬يحملها‭ ‬كل‭ ‬موظف‭. ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬فرد،‭ ‬فلا‭ ‬ينتظر‭ ‬أوامر‭ ‬أو‭ ‬تعليمات‭. ‬وبعد‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬موظف‭ ‬أن‭ ‬يبادر‭ ‬بنفسه‭.. ‬يرتب‭ ‬مكتبه،‭ ‬يغلق‭ ‬أجهزته،‭ ‬ويتحقق‭ ‬من‭ ‬حفظ‭ ‬أصول‭ ‬مؤسسته‭ ‬بأمانة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭.. ‬فالاهتمام‭ ‬بهذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬البسيطة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يرسخ‭ ‬الانضباط،‭ ‬ويعزز‭ ‬الثقة،‭ ‬ويصنع‭ ‬الفارق‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬كفاءة‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭.‬

{‭ ‬مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا