أكتب هذا المقال من واقع تجربة وإيمان بأن تطوير المؤسسات يبدأ من التزام كل موظف بمسؤولياته وحرصه على تحسين بيئة العمل. فكل فرد هو أساس في منظومة متكاملة، وعندما يتحلى بالوعي والانضباط، تتجه المؤسسات بخطى ثابتة نحو أداء أفضل وبيئة أكثر تعاوناً. ومن هنا فإن الانطباع الأول الذي تتركه مقار العمل على زائريها يمثل مرآة لمدى جديتها وكفاءتها.
في إحدى المرات، دخل زائر إلى مؤسسة فوجد مكتب الاستقبال غارقا في الأوراق والملصقات، وعلى الطاولة ورقة تحمل عبارة غاضبة لا علاقة لها بالعمل. لم يتحدث مع أحد، ومع ذلك خرج بصورة ذهنية كاملة خلال لحظات.. هذه التجربة البسيطة تكشف أن المظهر الخارجي للمؤسسة، من الاستقبال حتى المكاتب الداخلية، إما يعزز الثقة أو يترك انطباعاً سلبياً، وأن الانتباه للتفاصيل اليومية يظل جزءاً أساسياً من السمعة المؤسسية.
فالمراجع لا يرى لوائح الجودة أو الخطط الاستراتيجية لكنه يلاحظ ببساطة مدى نظافة المكان، ترتيب المكاتب، أسلوب الترحيب، وحتى لغة الجسد التي يستخدمها موظف الاستقبال. كل هذه التفاصيل الصغيرة تتحول إلى رسائل قوية تعبر عن وعي المؤسسة وانضباطها.
القيم المؤسسية لا تقاس بما يكتب في اللوائح، وإنما تنعكس في الممارسة اليومية. المؤسسات التي تجسد الانضباط والشفافية في بيئتها ترسخ مكانتها، بينما تلك التي ترفع الشعارات وتغيب عن التطبيق تفقد مصداقيتها سريعاً. ولهذا اتجهت جهات عديدة حول العالم إلى تبني بيئات عمل مفتوحة تشجع على التفاعل وتزيل الحواجز، إلى جانب سياسات مثل «المكتب النظيف - Clean Desk Policy» التي تلزم الموظفين بترك أماكنهم مرتبة وخالية من الأوراق في نهاية الدوام. هذه الممارسة لا تقتصر على الناحية الشكلية، بل تضمن أيضاً حماية المعلومات، وتمنح انطباع بالمسؤولية والالتزام.
وفي المقابل، هناك ممارسات تضعف الثقافة المؤسسية، مثل تحويل المكتب إلى مساحة شخصية مفرطة، أو إغلاقه دون مبرر، أو الاستحواذ على مكان لمجرد الراحة. هذه التصرفات قد تبدو بسيطة لكنها تحمل رسائل سلبية عن غياب الانضباط. أما الثقافة الصحية فتقوم على توازن بين خصوصية يفرضها العمل أحياناً وانفتاح يسهل التعاون ويعزز روح الفريق. ولتجسيد هذا التوازن، يمكن وضع إرشادات واضحة لاستخدام المكاتب المشتركة، وتخصيص مساحات للتخزين الشخصي، مع متابعة دورية تضمن استمرارية التطبيق وعدم التراخي.
وهناك أيضاً سلوكيات صغيرة لكنها مؤثرة، كالموظف الذي يطفئ أجهزته قبل مغادرته، أو يغلق الأضواء، أو يرتب مكتبه بعناية. هذه الأفعال البسيطة لا تمر مرور الكرام، فهي رسائل صامتة تكشف وعيا وانتماء. وفي هذا الإطار يبرز دور القيادة.. فالقائد الناجح لا يكتفي بإصدار التعليمات من بعيد، بل يكون حاضرا بين موظفيه، يلاحظ ويتابع ويستمع. مرور المدير بين المكاتب ليس تفتيشا بقدر ما هو رسالة دعم تؤكد أن الجهد محل تقدير، وأن التفاصيل اليومية تصنع الفارق. ويمكن للقيادة أن تضيف قيمة أكبر عندما تربط هذه الجولات بالتوجيه الإيجابي، وتثني على الممارسات الصحيحة، وتقدم النصيحة في وقتها بدلاً من انتظار التقارير المكتوبة.
الصورة الكلية لا تبنى من جهود الأفراد وحدهم.. فإدارات الموارد البشرية والإدارات المساندة تضطلع بدور أساسي في وضع معايير موحدة لشكل المكاتب الأمامية والإدارية، بدءاً من التصميم والألوان وصولاً إلى أسلوب التنظيم. هذه الضوابط تمنع الفوضى، وتعكس الهوية المؤسسية، وتبني لغة بصرية وسلوكية واحدة تعزز مكانة المؤسسة في المجتمع. ومن المفيد هنا أن تُعمم الأدلة الإجرائية البسيطة التي توضح للموظفين كيفية ترتيب المكاتب، وإدارة الأصول، واستخدام الأدوات المكتبية بطريقة منظمة، فالتبسيط يضمن الالتزام.
في النهاية، قبعة الوعي ليست رمزاً شكلياً، بل التزام ومسؤولية يحملها كل موظف. التغيير الحقيقي يبدأ من داخل كل فرد، فلا ينتظر أوامر أو تعليمات. وبعد قراءة هذا المقال، على كل موظف أن يبادر بنفسه.. يرتب مكتبه، يغلق أجهزته، ويتحقق من حفظ أصول مؤسسته بأمانة قبل أن يغادر.. فالاهتمام بهذه التفاصيل البسيطة هو ما يرسخ الانضباط، ويعزز الثقة، ويصنع الفارق الكبير في كفاءة الأداء المؤسسي.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك