العدد : ١٧٣٣٦ - الثلاثاء ٠٩ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٦ - الثلاثاء ٠٩ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

مقالات

تقاعد الأذهان.. التحدي الصامت في الأداء المؤسسي

بقلم: عبير محمد دهام {

الثلاثاء ٠٩ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬جهاز‭ ‬بصمة‭ ‬مخصص‭ ‬للعقول‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬بصمة‭ ‬الحضور‭ ‬والانصراف‭ ‬لاكتشفت‭ ‬إدارات‭ ‬كثيرة‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬العقول‭ ‬لم‭ ‬تسجل‭ ‬دخولها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭. ‬الموظف‭ ‬حاضر‭ ‬بجسده‭ ‬يوقّع‭ ‬في‭ ‬سجلات‭ ‬الدوام‭ ‬ويحضر‭ ‬الاجتماعات‭ ‬وينفذ‭ ‬ما‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬لكنه‭ ‬ذهنياً‭ ‬خارج‭ ‬الخدمة‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬ممتدة‭.. ‬ولو‭ ‬أرسل‭ ‬النظام‭ ‬إشعارا‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬العقل‭ ‬غير‭ ‬متصل‭ ‬بالعمل‭ ‬منذ‭ ‬730‭ ‬يوما‮»‬‭ ‬لكان‭ ‬توصيف‭ ‬دقيق‭ ‬لحقيقة‭ ‬صامتة؛‭ ‬الأجساد‭ ‬موجودة‭ ‬لكن‭ ‬العقول‭ ‬غابت‭.‬

تقاعد‭ ‬الأذهان‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬انسحاب‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬قبل‭ ‬بلوغ‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬الرسمي‭.. ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬يتوقف‭ ‬الموظف‭ ‬عن‭ ‬التساؤل‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل‭ ‬أفضل‭ ‬ويكتفي‭ ‬بتكرار‭ ‬ما‭ ‬اعتاده‭ ‬دون‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التطوير‭ ‬أو‭ ‬الابتكار‭. ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬لا‭ ‬توثق‭ ‬في‭ ‬الملفات‭ ‬ولا‭ ‬تعلن‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬التكريم‭ ‬لكنها‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬التقاعد‭ ‬الجسدي‭ ‬لأنها‭ ‬تسلب‭ ‬المؤسسة‭ ‬عقلها‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتحرك‭ ‬شكلياً‭ ‬بلا‭ ‬فاعلية‭ ‬حقيقية‭.‬

هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬تنشأ‭ ‬فجأة‭ ‬بل‭ ‬تتراكم‭ ‬بصمت‭. ‬تبدأ‭ ‬عندما‭ ‬يشعر‭ ‬الموظف‭ ‬أن‭ ‬جهوده‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬مقترحاته‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬اهتماما،‭ ‬وتتأكد‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬المعيار‭ ‬هو‭ ‬عدد‭ ‬ساعات‭ ‬الحضور‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬الأفكار‭. ‬وتزداد‭ ‬خطورتها‭ ‬عندما‭ ‬تتحول‭ ‬بعض‭ ‬الممارسات‭ ‬المؤسسية‭ ‬إلى‭ ‬شكليات؛‭ ‬فالتدريب‭ ‬يُدار‭ ‬أحيانا‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬شيك‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يُصرف‭ ‬وينتهي،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬توافق‭ ‬محتواه‭ ‬مع‭ ‬المعرفة‭ ‬المطلوبة‭ ‬أو‭ ‬ملاءمته‭ ‬للتوقيت‭ ‬المناسب‭ ‬لكل‭ ‬موظف‭. ‬وكذلك‭ ‬التقييم‭ ‬السنوي‭ ‬الذي‭ ‬يُتعامل‭ ‬معه‭ ‬كقائمة‭ ‬تحقق‭ ‬شكليةCheck‭ ‬list‭ ‬تستكمل‭ ‬بنودها‭ ‬وتوقّع‭ ‬وترفع‭ ‬للملفات،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أداة‭ ‬لقياس‭ ‬الأداء‭ ‬وبناء‭ ‬خطط‭ ‬تطوير‭ ‬حقيقية‭. ‬أما‭ ‬الإدارة‭ ‬العليا،‭ ‬ففي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬تكتفي‭ ‬بإصدار‭ ‬قرارات‭ ‬تصحيحية‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬دون‭ ‬تلمس‭ ‬المؤشرات‭ ‬الميدانية،‭ ‬فتبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬طبيب‭ ‬يضع‭ ‬لزقة‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬خياطة‭ ‬دقيقة‭. ‬هذه‭ ‬المعالجات‭ ‬السطحية‭ ‬تمنح‭ ‬انطباعا‭ ‬بالتحرك،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تترك‭ ‬النزيف‭ ‬مستمرا‭.‬

المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬تقاعد‭ ‬الأذهان‭ ‬مسؤولية‭ ‬مشتركة‭. ‬الموظف‭ ‬ملزم‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬شغفه‭ ‬وتجديد‭ ‬أدواته‭ ‬وعدم‭ ‬الاستسلام‭ ‬للروتين‭. ‬إدارة‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬مطالبة‭ ‬بسياسات‭ ‬تصون‭ ‬العقول‭ ‬من‭ ‬الانطفاء،‭ ‬عبر‭ ‬تدريب‭ ‬نوعي‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفرص‭ ‬بعدالة‭ ‬وتقييم‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الإسهام‭ ‬الفكري‭ ‬والابتكار‭. ‬المؤسسة‭ ‬كمناخ‭ ‬عمل‭ ‬مطالبة‭ ‬بتهيئة‭ ‬بيئة‭ ‬تكسر‭ ‬الرتابة‭ ‬وتربط‭ ‬الفرد‭ ‬برسالة‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬الحضور‭ ‬اليومي‭. ‬أما‭ ‬القيادة‭ ‬العليا‭ ‬فهي‭ ‬صاحبة‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭.. ‬لأنها‭ ‬ترسم‭ ‬الاتجاه‭ ‬والثقافة‭ ‬العامة‭.‬

ومن‭ ‬العناصر‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬بقاء‭ ‬العقول‭ ‬متيقظة‭ ‬وتمنع‭ ‬انسحابها،‭ ‬وجود‭ ‬إدارة‭ ‬واعية‭ ‬للعلاقة‭ ‬الوظيفية‭ ‬بين‭ ‬الموظف‭ ‬والمؤسسة‭. ‬فالعلاقة‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬التوصيف‭ ‬الوظيفي‭ ‬أو‭ ‬الراتب،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬منظومة‭ ‬متكاملة‭ ‬من‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬والتقدير‭ ‬والثقة‭ ‬المتبادلة‭. ‬كلما‭ ‬شعر‭ ‬الموظف‭ ‬أن‭ ‬المؤسسة‭ ‬تستثمر‭ ‬في‭ ‬تطويره‭ ‬وتتيح‭ ‬له‭ ‬المشاركة‭ ‬العادلة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬وتقدّر‭ ‬إسهامه‭ ‬الفكري،‭ ‬زاد‭ ‬ارتباطه‭ ‬بها‭ ‬وارتفع‭ ‬مستوى‭ ‬التزامه‭ ‬الذهني‭. ‬أما‭ ‬غياب‭ ‬هذه‭ ‬الإدارة‭ ‬فيحوّل‭ ‬العلاقة‭ ‬إلى‭ ‬التزام‭ ‬شكلي،‭ ‬يضعف‭ ‬الانتماء‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬فرص‭ ‬انسحاب‭ ‬العقول‭ ‬وتقاعدها‭ ‬المبكر‭.‬

ولمواجهة‭ ‬هذا‭ ‬التحدي‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬التدريب‭ ‬التقليدي،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬تعزيز‭ ‬أنظمة‭ ‬حوكمة‭ ‬المهارات‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭. ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬تضمن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عملية‭ ‬تطوير‭ ‬القدرات‭ ‬والمعارف‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬إطار‭ ‬مؤسسي‭ ‬واضح،‭ ‬يُبنى‭ ‬على‭ ‬بيانات‭ ‬دقيقة‭ ‬ويُربط‭ ‬مباشرة‭ ‬بأهداف‭ ‬الأداء‭. ‬فحوكمة‭ ‬المهارات‭ ‬تعني‭ ‬وجود‭ ‬آليات‭ ‬لتشخيص‭ ‬الفجوات،‭ ‬وتخطيطا‭ ‬للتدريب‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬احتياجات‭ ‬فعلية‭ ‬ومتابعة‭ ‬لمدى‭ ‬انعكاس‭ ‬ما‭ ‬اكتسبه‭ ‬الموظف‭ ‬على‭ ‬جودة‭ ‬عمله‭. ‬كما‭ ‬تشمل‭ ‬إنشاء‭ ‬مسارات‭ ‬مهنية‭ ‬شفافة،‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفرص‭ ‬بعدالة‭ ‬وربط‭ ‬التقييم‭ ‬السنوي‭ ‬بمستوى‭ ‬الإسهام‭ ‬المعرفي‭ ‬والابتكار‭ ‬لا‭ ‬بمجرد‭ ‬الحضور‭. ‬إن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬حوكمة‭ ‬المهارات‭ ‬هو‭ ‬الضمان‭ ‬الحقيقي‭ ‬لبقاء‭ ‬العقول‭ ‬يقظة‭ ‬ولإعادة‭ ‬ربط‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬البشري‭ ‬باستدامة‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭.‬

الخلاصة‭ ‬أن‭ ‬تقاعد‭ ‬الأذهان‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬بضجيج،‭ ‬بل‭ ‬يتسلل‭ ‬في‭ ‬صمت‭.. ‬الموظف‭ ‬حاضر‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يسأل،‭ ‬موجود‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يقترح،‭ ‬يؤدي‭ ‬مهامه‭ ‬وكأن‭ ‬العقل‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬الميدان‭. ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬ثقافة‭ ‬عامة‭ ‬لكنه‭ ‬مؤشر‭ ‬مبكر‭ ‬على‭ ‬انسحاب‭ ‬العقول‭. ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬إدارات‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬تلتفت‭ ‬لهذه‭ ‬الإشارات‭ ‬وأغلقت‭ ‬أبوابها‭ ‬عنها،‭ ‬فاستمر‭ ‬النزف‭ ‬في‭ ‬الداخل‭. ‬التحدي‭ ‬الحقيقي‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬الظاهرة‭ ‬فقد‭ ‬باتت‭ ‬واضحة،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬وإعادة‭ ‬العقول‭ ‬إلى‭ ‬مسرح‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬حضورها‭ ‬معيار‭ ‬النجاح‭.‬

وما‭ ‬نصفه‭ ‬هنا‭ ‬بـتقاعد‭ ‬الأذهان‭ ‬ليس‭ ‬ملاحظة‭ ‬محلية،‭ ‬بل‭ ‬ظاهرة‭ ‬عالمية‭ ‬وثّقتها‭ ‬تقارير‭ ‬ودراسات‭ ‬دولية‭ ‬تشير‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلثي‭ ‬الموظفين‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬غير‭ ‬منخرطين‭ ‬فعليا‭ ‬في‭ ‬أعمالهم،‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬بخسائر‭ ‬اقتصادية‭ ‬هائلة‭. ‬وتم‭ ‬وصف‭ ‬الانسحاب‭ ‬الذهني‭ ‬والاكتفاء‭ ‬بالحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬الأداء‭ ‬‮«‬بالاستقالة‭ ‬الصامتة‮»‬‭.. ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬تحذّر‭ ‬تقارير‭ ‬منظمة‭ ‬التعاون‭ ‬والتنمية‭ ‬الاقتصادية‭ (‬OECD‭) ‬والبنك‭ ‬الدولي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬البشري‭ ‬هو‭ ‬الأصل‭ ‬الأكثر‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مؤسسة،‭ ‬وأن‭ ‬فقدان‭ ‬يقظة‭ ‬العقول‭ ‬يمثل‭ ‬تهديدا‭ ‬مباشرا‭ ‬لاستدامة‭ ‬الأداء‭.. ‬هذه‭ ‬الشواهد‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬تقاعد‭ ‬الأذهان‭ ‬تحد‭ ‬عالمي‭ ‬يستدعي‭ ‬وعيا‭ ‬مؤسسيا‭ ‬ومعالجة‭ ‬جذرية‭.‬

 

{ مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا