لو كان في المؤسسات جهاز بصمة مخصص للعقول كما هو الحال مع بصمة الحضور والانصراف لاكتشفت إدارات كثيرة أن بعض العقول لم تسجل دخولها منذ زمن. الموظف حاضر بجسده يوقّع في سجلات الدوام ويحضر الاجتماعات وينفذ ما يطلب منه لكنه ذهنياً خارج الخدمة منذ فترة ممتدة.. ولو أرسل النظام إشعارا يقول: «العقل غير متصل بالعمل منذ 730 يوما» لكان توصيف دقيق لحقيقة صامتة؛ الأجساد موجودة لكن العقول غابت.
تقاعد الأذهان هو حالة انسحاب العقل من المشاركة الفاعلة في العمل قبل بلوغ سن التقاعد الرسمي.. يحدث عندما يتوقف الموظف عن التساؤل والبحث عن بدائل أفضل ويكتفي بتكرار ما اعتاده دون رغبة في التطوير أو الابتكار. هذه الظاهرة لا توثق في الملفات ولا تعلن في حفلات التكريم لكنها أخطر من التقاعد الجسدي لأنها تسلب المؤسسة عقلها وهي لا تزال تتحرك شكلياً بلا فاعلية حقيقية.
هذه الحالة لا تنشأ فجأة بل تتراكم بصمت. تبدأ عندما يشعر الموظف أن جهوده غير مرئية أو أن مقترحاته لا تجد اهتماما، وتتأكد عندما يصبح المعيار هو عدد ساعات الحضور لا قيمة الأفكار. وتزداد خطورتها عندما تتحول بعض الممارسات المؤسسية إلى شكليات؛ فالتدريب يُدار أحيانا كجزء من شيك لا بد أن يُصرف وينتهي، من دون التحقق من توافق محتواه مع المعرفة المطلوبة أو ملاءمته للتوقيت المناسب لكل موظف. وكذلك التقييم السنوي الذي يُتعامل معه كقائمة تحقق شكليةCheck list تستكمل بنودها وتوقّع وترفع للملفات، بدلا من أن يكون أداة لقياس الأداء وبناء خطط تطوير حقيقية. أما الإدارة العليا، ففي بعض الأحيان تكتفي بإصدار قرارات تصحيحية من الأعلى دون تلمس المؤشرات الميدانية، فتبدو وكأنها طبيب يضع لزقة على جرح يحتاج إلى خياطة دقيقة. هذه المعالجات السطحية تمنح انطباعا بالتحرك، لكنها في الواقع تترك النزيف مستمرا.
المسؤولية عن تقاعد الأذهان مسؤولية مشتركة. الموظف ملزم بالحفاظ على شغفه وتجديد أدواته وعدم الاستسلام للروتين. إدارة الموارد البشرية مطالبة بسياسات تصون العقول من الانطفاء، عبر تدريب نوعي وتوزيع الفرص بعدالة وتقييم يعتمد على الإسهام الفكري والابتكار. المؤسسة كمناخ عمل مطالبة بتهيئة بيئة تكسر الرتابة وتربط الفرد برسالة أوسع من مجرد الحضور اليومي. أما القيادة العليا فهي صاحبة الدور الأكبر.. لأنها ترسم الاتجاه والثقافة العامة.
ومن العناصر الجوهرية التي تعزز بقاء العقول متيقظة وتمنع انسحابها، وجود إدارة واعية للعلاقة الوظيفية بين الموظف والمؤسسة. فالعلاقة هنا لا تقتصر على التوصيف الوظيفي أو الراتب، بل تشمل منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات والتقدير والثقة المتبادلة. كلما شعر الموظف أن المؤسسة تستثمر في تطويره وتتيح له المشاركة العادلة في صنع القرار وتقدّر إسهامه الفكري، زاد ارتباطه بها وارتفع مستوى التزامه الذهني. أما غياب هذه الإدارة فيحوّل العلاقة إلى التزام شكلي، يضعف الانتماء ويزيد من فرص انسحاب العقول وتقاعدها المبكر.
ولمواجهة هذا التحدي لا يكفي التركيز على السياسات العامة أو التدريب التقليدي، بل يصبح من الضروري تعزيز أنظمة حوكمة المهارات داخل المؤسسات. هذه الأنظمة تضمن أن تكون عملية تطوير القدرات والمعارف جزءا من إطار مؤسسي واضح، يُبنى على بيانات دقيقة ويُربط مباشرة بأهداف الأداء. فحوكمة المهارات تعني وجود آليات لتشخيص الفجوات، وتخطيطا للتدريب بناءً على احتياجات فعلية ومتابعة لمدى انعكاس ما اكتسبه الموظف على جودة عمله. كما تشمل إنشاء مسارات مهنية شفافة، وتوزيع الفرص بعدالة وربط التقييم السنوي بمستوى الإسهام المعرفي والابتكار لا بمجرد الحضور. إن الاستثمار في حوكمة المهارات هو الضمان الحقيقي لبقاء العقول يقظة ولإعادة ربط رأس المال البشري باستدامة الأداء المؤسسي.
الخلاصة أن تقاعد الأذهان لا يبدأ بضجيج، بل يتسلل في صمت.. الموظف حاضر لكنه لا يسأل، موجود لكنه لا يقترح، يؤدي مهامه وكأن العقل غاب عن الميدان. هذا الصمت ليس بالضرورة ثقافة عامة لكنه مؤشر مبكر على انسحاب العقول. المشكلة أن إدارات كثيرة لم تلتفت لهذه الإشارات وأغلقت أبوابها عنها، فاستمر النزف في الداخل. التحدي الحقيقي اليوم ليس في اكتشاف الظاهرة فقد باتت واضحة، وإنما في كسر هذا الصمت وإعادة العقول إلى مسرح الأداء المؤسسي حيث يكون حضورها معيار النجاح.
وما نصفه هنا بـتقاعد الأذهان ليس ملاحظة محلية، بل ظاهرة عالمية وثّقتها تقارير ودراسات دولية تشير فيها إلى أن أكثر من ثلثي الموظفين حول العالم غير منخرطين فعليا في أعمالهم، ما ينعكس بخسائر اقتصادية هائلة. وتم وصف الانسحاب الذهني والاكتفاء بالحد الأدنى من الأداء «بالاستقالة الصامتة».. وعلى المستوى الاستراتيجي، تحذّر تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) والبنك الدولي من أن رأس المال البشري هو الأصل الأكثر قيمة في أي مؤسسة، وأن فقدان يقظة العقول يمثل تهديدا مباشرا لاستدامة الأداء.. هذه الشواهد تؤكد أن تقاعد الأذهان تحد عالمي يستدعي وعيا مؤسسيا ومعالجة جذرية.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك