في أغلب فرص لقاءات الصدفة، يسألني قرائي الأسئلة الآتية: 1- لماذا لا أكتب كالسابق عموداً صحفياً منتظماً؟ 2- لماذا مُقِلّة في الكتابة؟ 3- لماذا غابت مشاركاتي على منصة X(تويتر سابقاً)؟... إلى هؤلاء، وإلى غيرهم، أكتب هنا، ردي مدعوماً ببعض أعراف ومعايير العمل مع أعمدة الرأي وعمل الكتابة الصحفية، وبعض من خفايا إجراءات منصات التواصل الاجتماعي التي لطالما كان هناك ادعاءات بأنها منابر حرة للتعبير عن الرأي والنشر.
عن السؤال الأول، أبدأ بالآتي... كان توقفي عن الكتابة في عمود الرأي بسبب تسلَمي منصب وزيرة بالسلطة التنفيذية، حيث إن أحد أهم قواعد مزاولة الكتابة في عمود الرأي هو التفرغ، والاستقلالية؛ أي عدم التزام الكاتب الصحفي بالعمل في المناصب الإدارية والتنفيذية الحكومية أو غير الحكومية، تحقيقاً لهدف الاستقلالية في الرأي، وهذا أمر بالغ الأهمية في عالم الصحافة، حرصاً على تفادي استخدام المنصة الإعلامية في أغراض تضر بالرأي العام، وحفاظاً على قيمتها المادية والمعنوية المهمة، ومصداقية الصحافة كمراقب لكل السلطات في المجتمع.
وللمزيد من التنوير حول قيمة وأهمية عمود الرأي، ننوه هنا إلى أن من أهم المعايير والشروط الواجب توافرها أيضاً في كاتب عمود الرأي، بجانب معيار الاستقلالية، هو النضج المعرفي والمجتمعي، وهو أمر تلتزم به الصحف التي تحافظ على سمعتها وثقة القارئ بها. وللنضج المعرفي والمجتمعي عدة أبعاد، من أهمها البعد الثقافي والموضوعي، الذي يكتسبه الإنسان مع سنوات التعليم ومعترك الحياة، ومن تجارب الأحداث والاطلاع على التاريخ، وبامتلاك بنية فكرية ثقافية وفلسفية ونقدية، وبُعد أخلاقي يُدعم مسيرة الكاتب في الالتزام بالموضوعية مهما كانت الحقيقة مؤلمة، إضافة إلى البعد القيَمي الذي يتحقق من خلاله هدف توسيع الأفق الفكري للمجتمع.
إن معيار النضج المعرفي والمجتمعي الذي يتم بناؤه تراكمياً، مع التقدم في العمر، بعمق وسعة الاطلاع والتواصل مع شتى أنواع الفكر، المحلي والعالمي، في مجالات الأدب والتراث والفن والشعر والفلسفة والتاريخ، والسياسة، والعلوم، هو المعيار الذي يضع شرط عنصر العمر كأساس في اختيار كاتب عمود الرأي، وتُستبعد عنه الفئات العمرية الحديثة في الحياة.
تلعب أعمدة الرأي، دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمعي على مستويات متعددة، منها الفكري والنقدي واللغوي، ما يجعلها ذات تأثير مباشر على التشكيل الثقافي للمجتمع، وفاعلاً مؤثراً في تشكيل بنيته الحضارية.
فكرياً، يجب أن يتميّز كاتب العمود بأفق معرفي متقدم، يظهر في تحليلات عميقة تستند إلى أدلة وحجج منطقية، تُشجّع القارئ على التفكير والتحليل النقدي بدلًا من التَلَقّي السلبي، ما يوَسّع آفاق الفكر في المجتمع، ويُعلّم احترام الاختلاف. وعلى العكس، إذا تحوّلت الأعمدة إلى منصات للخطاب التحريضي أو التسطيح الفكري، فإنها تنشر فكراً موتوراً متطرفاً شعبوياً، وتدعم التفاهة.
على المستوى النقدي، تثير أعمدة الرأي الموضوعية، الجيدة، أسئلة وتحديات تُناقَش في الفضاء العام، مما ينمّي قدرة المجتمع على النقاش والحوار، ويحرّض على البحث والاطلاع، ويعزل الفكر الشعبوي الغوغائي الذي ينشر الفوضى وعدم الاستقرار... أما الانحياز والإعلام المؤطّر الذي يقدّم الأفكار الانتقائية أو المغلوطة يكون سبباً رئيسياً في إرباك القارئ، والمجتمع، وفي إضعاف قدرته على التمييز النقدي السليم، فيصبح هدفاً سهلاً لأي اختراق فكري يستهدفه.
أما لغوياً فإن الأعمدة المكتوبة بلغة راقية وسليمة تُسهم في تحسين اللغة لدى القراء، وخاصة في ظل انتشار اللهجات العامية واللغة الركيكة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ إضافة إلى أن كُتّاب الأعمدة المؤثّرين غالبًا ما يُقلّدهم القراء، ما ينعكس إيجابًا أو سلباً على الثقافة اللغوية بحسب جودة اللغة المستخدمة... وهنا دعوة للباحثين في أسباب التدهور اللغوي بمجتمعاتنا أن يجعلوا من لغة الصحافة، وبالأخص لغة كُتّاب الرأي، ووسائل الإعلام الأخرى، ضمن عيّنات بحوثهم العلمية، حيث تتوافر فيها مادة علمية دسمة تُدعم إشكالية البحث.
عادة ما يكشف المستوى الثقافي للمجتمعات عن مستويات أداء الصحافة وأقلام الرأي فيها، حيث يمكن قراءة ذلك من خلال المستوى الفكري والحواري والنقدي واللغوي للأفراد؛ إذ يُعتبر تدني قدرات الناس النقدية والفكرية والحوارية مؤشراً على تدني الصحافة، وبالأخص أعمدة الرأي التي من أهم أهدافها صناعة الفكر والرأي العام، وبناء منظومات أخلاقية وفلسفية ولغوية تدعم موضوعية الحوار والنقاش العلمي المتزن؛ وهذا لا يعني إعفاء التعليم عن دوره الرئيس في بناء بنية المجتمع الفكرية والعلمية والأخلاقية، بل هو يعد الركيزة الأولى في بناء الإنسان والمجتمع.
لذلك، كان ولا يزال توقفي عن كتابة عمود الرأي التزاماً مهنياً وأخلاقياً بأصول وأعراف مهنة الصحافة والإعلام، واحتراماً لعقل القارئ، ولمصداقية الصحيفة، وإسهاماً في بناء مجتمع محصن فكرياً، ضد الغوغاء، الشعبوية، والاختراقات الآيديولوجية التي تُعد من أخطر الاسلحة اللامادية.
السؤال الثاني، قد يكون مهماً لتوضيح المزيد من الأمور في عالم الإعلام... وهنا أؤكد أنني تركت مزاولة الكتابة الدورية المنتظمة في عمود الرأي، ولكن لم أتوقف عن الكتابة، بل حرصت على نشر مقالات الرأي الفكرية في قضايا استراتيجية تضم الكثير من المعرفة والتحليل والاستنتاج. ومقال الرأي هو منبر فكري غير منتظم لصوت خبير في قضية استراتيجية، يُعَبّر عن رأي في قضية محددة وجدلية، وفي مساحة كتابية أكبر، ما يوفر فرصة أكبر للاستطراد في عرض فكري مدعوم بالأدلة والإثباتات للوصول إلى الاستنتاج.
وفي الجانب الآخر يأخذني هذا السؤال إلى تفسير أمر مهم آخر حول بعض الأسباب الكامنة وراء إقلال البعض في مزاولة عمله الكتابي في عالم الكتابة، من صحفيين أو روائيين وغيرهم من المبدعين. هذه الأسباب غالباً ما تكون ذات علاقة بأحداث حياتهم الخاصة، أو بأحداث المجتمع عامة، وبقوة التفاعل الذهني والنفسي معها، ما يضغط على مستوى قدرات الكاتب الفكرية والأخلاقية... بل هي ذات علاقة مباشرة بالتحديات النفسية التي عادة ما يواجهها الأشخاص في مهن إبداعية وعقلية وفكرية مكثفة مثل الكتابة والصحافة والمسرح والسينما، وهي مهن تتطلب حساسية عالية، وتفكيرًا عميقًا، وشفافية، وتفاعلًا مع الجوانب القاتمة من الحياة أحيانًا، والفكر الفلسفي العميق والمتواصل أحياناً أخرى. هذه العوامل، وغيرها من الخصوصيات، يمكن أن تؤدي إلى إرهاق عاطفي ويأس، أو أن تكون محفزًا لظهور، أو تفاقم، حالة نفسية لدى الكاتب أو المبدع تدفعه للابتعاد وعدم الرغبة في خوض معارك إبداعية لا جدوى منها من وجهة نظره، عوضاً عن أن يسخّر وقته وجهده في مواجهة تحديات البناء الفكري والبحث والوصول إلى الحقيقة. ولربما تكون الحالة أكثر شدة عندما يكون الكاتب أكثر شفافية ووعياً بما يحيط به من هذه العوامل جميعها.
وهنا أؤمن بأن لكل كاتب، أو مشتغل بالفكر والإبداع، في هذا المجال أو ذاك، حصنه الذاتي الذي يلجأ إليه في مواجهة التحديات الكبرى؛ هو الحصن الداخلي، الملجأ، إما لحماية الذات الإبداعية، والثوابت القيمية، وإما للعزلة، وإما لمفارقة الحياة (كما فعل إرنست همنغواي)... هو كمٌّ من التفاعلات التي تتوارد في فترات التغيير الكبرى التي تجتاح المجتمع، أو في فترات الانقلابات النفسية العميقة التي تجتاح العقل الذي ميّز الله به الإنسان عن باقي مخلوقاته... وهذا ما يدفع الإبداع إلى الاستمرار في الإبداع، ويحافظ على التنوع للإبقاء على التنوع، ويجعل الكينونة البشرية التي خلقها الله باقية إلى الأزل.
أما السؤال الأخير، حول الإقلال من الظهور على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص منصتي (X) والفيسبوك، التي كنت اتواصل بها مع متابعيني، فإن الحديث فيه يطول، ولكن سأختصر بقدر المستطاع..
تعرضت حساباتي في وسائل التواصل الاجتماعي للحظر الخوارزمي، خلال السنتين الأخيرتين... فما هو الحظر الخوارزمي في عالم وسائل التواصل!!!
الحظر الخوارزمي، ويطلق عليه أيضًا «الحظر الخفي» أو «التقييد غير المرئي» (Shadow Banning)، هو ممارسة تقوم بها منصات التواصل الاجتماعي لتقليل ظهور أو وصول محتوى مستخدم معين من دون إخطاره بشكل صريح بأنه مُعاقَب؛ بمعنى آخر، أنت كـمستخدم تعتقد أن كل شيء يعمل بشكل طبيعي، يمكنك النشر، ومشاهدة منشوراتك، ويراك متابعوك، ولكن في الواقع، يتم إخفاء منشوراتك بشكل كبير أو جعلها غير قابلة للاكتشاف للجمهور الأوسع، للمستخدمين الذين يتابعونك أو لا يتابعونك.
عندما يتم «حظرك خوارزميًا»، قد تلاحظ بعض العلامات، من دون أن تربط ذلك بأي نوع من أنواع الحظر، ومن هذه العلامات انخفاض حاد ومفاجئ في التفاعل، أي لا تحصل على «Like, Comments, Shares»، لأن منشورك يتوقف عن الوصول إلى المتابعين أو غيرهم... وأيضاً تلاحظ اختفاء الهاشتاقات، أي لا تظهر منشوراتك في نتائج البحث عند استخدام الهاشتاقات التي تضيفها، حتى لو كانت ذات صلة. بل منشوراتك تختفي من صفحة الاستكشاف (Explore page) على الانستجرام، على سبيل المثال، وأيضاً لا يتم اقتراح حسابك للمستخدمين الجدد، حتى لو كان محتواك ذا صلة. وبالنتيجة يصبح التفاعل مع حساباتك محدودا جداً، أو شبه معدوم... وقد حصل كل هذا مع حساباتي على وسائل التواصل، من دون أن اتلقى أي إشعار أو تحذير من المنصة يفيد بأي حظر.
بدأ هذا الحظر مع بدايات حرب الإبادة على غزة، وحصل ايضاً مع آخرين، من دون أن نعلم أنه تم معاقبتنا أو أي سبب آخر. ولكن عندما استفسرت من الذكاء الاصطناعي عن أسباب ذلك كان من ضمن الإجابة إنه أمر يمكن استخدامه «لقمع آراء أو وجهات نظر معينة بشكل تعسفي من دون إتاحة فرصة استئناف».
وأخيراً، أرجو أن أكون قد أوفيت بعهدي في الرد على جميع التساؤلات، وأن تصل كلماتي هذه إلى كل القراء، مع كل الاحترام والتقدير.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك