العدد : ١٧٣٣٥ - الاثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٥ - الاثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

مقالات

الكتابة إبداع فكري والتزام أخلاقي

بقلم: سميرة بن رجب

السبت ٠٦ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬أغلب‭ ‬فرص‭ ‬لقاءات‭ ‬الصدفة،‭ ‬يسألني‭ ‬قرائي‭ ‬الأسئلة‭ ‬الآتية‭: ‬1‭- ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬كالسابق‭ ‬عموداً‭ ‬صحفياً‭ ‬منتظماً؟‭ ‬2‭- ‬لماذا‭ ‬مُقِلّة‭ ‬في‭ ‬الكتابة؟‭ ‬3‭- ‬لماذا‭ ‬غابت‭ ‬مشاركاتي‭ ‬على‭ ‬منصة‭  ‬X‭(‬تويتر‭ ‬سابقاً‭)‬؟‭... ‬إلى‭ ‬هؤلاء،‭ ‬وإلى‭ ‬غيرهم،‭ ‬أكتب‭ ‬هنا،‭ ‬ردي‭ ‬مدعوماً‭ ‬ببعض‭ ‬أعراف‭ ‬ومعايير‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬أعمدة‭ ‬الرأي‭ ‬وعمل‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية،‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬خفايا‭ ‬إجراءات‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ادعاءات‭ ‬بأنها‭ ‬منابر‭ ‬حرة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬والنشر‭.‬

عن‭ ‬السؤال‭ ‬الأول،‭ ‬أبدأ‭ ‬بالآتي‭... ‬كان‭ ‬توقفي‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬بسبب‭ ‬تسلَمي‭ ‬منصب‭ ‬وزيرة‭ ‬بالسلطة‭ ‬التنفيذية،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬قواعد‭ ‬مزاولة‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬هو‭ ‬التفرغ،‭ ‬والاستقلالية؛‭ ‬أي‭ ‬عدم‭ ‬التزام‭ ‬الكاتب‭ ‬الصحفي‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬المناصب‭ ‬الإدارية‭ ‬والتنفيذية‭ ‬الحكومية‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬الحكومية،‭ ‬تحقيقاً‭ ‬لهدف‭ ‬الاستقلالية‭ ‬في‭ ‬الرأي،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الصحافة،‭ ‬حرصاً‭ ‬على‭ ‬تفادي‭ ‬استخدام‭ ‬المنصة‭ ‬الإعلامية‭ ‬في‭ ‬أغراض‭ ‬تضر‭ ‬بالرأي‭ ‬العام،‭ ‬وحفاظاً‭ ‬على‭ ‬قيمتها‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭ ‬المهمة،‭ ‬ومصداقية‭ ‬الصحافة‭ ‬كمراقب‭ ‬لكل‭ ‬السلطات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬

وللمزيد‭ ‬من‭ ‬التنوير‭ ‬حول‭ ‬قيمة‭ ‬وأهمية‭ ‬عمود‭ ‬الرأي،‭ ‬ننوه‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المعايير‭ ‬والشروط‭ ‬الواجب‭ ‬توافرها‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬كاتب‭ ‬عمود‭ ‬الرأي،‭ ‬بجانب‭ ‬معيار‭ ‬الاستقلالية،‭ ‬هو‭ ‬النضج‭ ‬المعرفي‭ ‬والمجتمعي،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬تلتزم‭ ‬به‭ ‬الصحف‭ ‬التي‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬سمعتها‭ ‬وثقة‭ ‬القارئ‭ ‬بها‭. ‬وللنضج‭ ‬المعرفي‭ ‬والمجتمعي‭ ‬عدة‭ ‬أبعاد،‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬البعد‭ ‬الثقافي‭ ‬والموضوعي،‭ ‬الذي‭ ‬يكتسبه‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬سنوات‭ ‬التعليم‭ ‬ومعترك‭ ‬الحياة،‭ ‬ومن‭ ‬تجارب‭ ‬الأحداث‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬التاريخ،‭ ‬وبامتلاك‭ ‬بنية‭ ‬فكرية‭ ‬ثقافية‭ ‬وفلسفية‭ ‬ونقدية،‭ ‬وبُعد‭ ‬أخلاقي‭ ‬يُدعم‭ ‬مسيرة‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬الالتزام‭ ‬بالموضوعية‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الحقيقة‭ ‬مؤلمة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬القيَمي‭ ‬الذي‭ ‬يتحقق‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬هدف‭ ‬توسيع‭ ‬الأفق‭ ‬الفكري‭ ‬للمجتمع‭. ‬

إن‭ ‬معيار‭ ‬النضج‭ ‬المعرفي‭ ‬والمجتمعي‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬بناؤه‭ ‬تراكمياً،‭ ‬مع‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬بعمق‭ ‬وسعة‭ ‬الاطلاع‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬الفكر،‭ ‬المحلي‭ ‬والعالمي،‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الأدب‭ ‬والتراث‭ ‬والفن‭ ‬والشعر‭ ‬والفلسفة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬والسياسة،‭ ‬والعلوم،‭ ‬هو‭ ‬المعيار‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬شرط‭ ‬عنصر‭ ‬العمر‭ ‬كأساس‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬كاتب‭ ‬عمود‭ ‬الرأي،‭ ‬وتُستبعد‭ ‬عنه‭ ‬الفئات‭ ‬العمرية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

تلعب‭ ‬أعمدة‭ ‬الرأي،‭ ‬دورًا‭ ‬محوريًا‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة،‭ ‬منها‭ ‬الفكري‭ ‬والنقدي‭ ‬واللغوي،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬التشكيل‭ ‬الثقافي‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وفاعلاً‭ ‬مؤثراً‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬بنيته‭ ‬الحضارية‭. ‬

فكرياً،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتميّز‭ ‬كاتب‭ ‬العمود‭ ‬بأفق‭ ‬معرفي‭ ‬متقدم،‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬تحليلات‭ ‬عميقة‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أدلة‭ ‬وحجج‭ ‬منطقية،‭ ‬تُشجّع‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬والتحليل‭ ‬النقدي‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬التَلَقّي‭ ‬السلبي،‭ ‬ما‭ ‬يوَسّع‭ ‬آفاق‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويُعلّم‭ ‬احترام‭ ‬الاختلاف‭. ‬وعلى‭ ‬العكس،‭ ‬إذا تحوّلت‭ ‬الأعمدة‭ ‬إلى‭ ‬منصات‭ ‬للخطاب‭ ‬التحريضي‭ ‬أو‭ ‬التسطيح‭ ‬الفكري،‭ ‬فإنها‭ ‬تنشر‭ ‬فكراً‭ ‬موتوراً‭ ‬متطرفاً‭ ‬شعبوياً،‭ ‬وتدعم‭ ‬التفاهة‭.‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬النقدي،‭ ‬تثير‭ ‬أعمدة‭ ‬الرأي‭ ‬الموضوعية،‭ ‬الجيدة،‭ ‬أسئلة‭ ‬وتحديات‭ ‬تُناقَش‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬مما‭ ‬ينمّي‭ ‬قدرة‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬النقاش‭ ‬والحوار،‭ ‬ويحرّض‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والاطلاع،‭ ‬ويعزل‭ ‬الفكر‭ ‬الشعبوي‭ ‬الغوغائي‭ ‬الذي‭ ‬ينشر‭ ‬الفوضى‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار‭... ‬أما‭ ‬الانحياز‭ ‬والإعلام‭ ‬المؤطّر‭ ‬الذي‭ ‬يقدّم‭ ‬الأفكار‭ ‬الانتقائية‭ ‬أو‭ ‬المغلوطة‭ ‬يكون‭ ‬سبباً‭ ‬رئيسياً‭ ‬في‭ ‬إرباك‭ ‬القارئ،‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وفي‭ ‬إضعاف‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬النقدي‭ ‬السليم،‭ ‬فيصبح‭ ‬هدفاً‭ ‬سهلاً‭ ‬لأي‭ ‬اختراق‭ ‬فكري‭ ‬يستهدفه‭.‬

أما‭ ‬لغوياً‭ ‬فإن‭ ‬الأعمدة‭ ‬المكتوبة‭ ‬بلغة‭ ‬راقية‭ ‬وسليمة‭ ‬تُسهم‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬اللغة‭ ‬لدى‭ ‬القراء،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬انتشار‭ ‬اللهجات‭ ‬العامية‭ ‬واللغة‭ ‬الركيكة‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كُتّاب‭ ‬الأعمدة‭ ‬المؤثّرين‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يُقلّدهم‭ ‬القراء،‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬إيجابًا‭ ‬أو‭ ‬سلباً‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬اللغوية‭ ‬بحسب‭ ‬جودة‭ ‬اللغة‭ ‬المستخدمة‭... ‬وهنا‭ ‬دعوة‭ ‬للباحثين‭ ‬في‭ ‬أسباب‭ ‬التدهور‭ ‬اللغوي‭ ‬بمجتمعاتنا‭ ‬أن‭ ‬يجعلوا‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬الصحافة،‭ ‬وبالأخص‭ ‬لغة‭ ‬كُتّاب‭ ‬الرأي،‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الأخرى،‭ ‬ضمن‭ ‬عيّنات‭ ‬بحوثهم‭ ‬العلمية،‭ ‬حيث‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬مادة‭ ‬علمية‭ ‬دسمة‭ ‬تُدعم‭ ‬إشكالية‭ ‬البحث‭.‬

عادة‭ ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬للمجتمعات‭ ‬عن‭ ‬مستويات‭ ‬أداء‭ ‬الصحافة‭ ‬وأقلام‭ ‬الرأي‭ ‬فيها،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المستوى‭ ‬الفكري‭ ‬والحواري‭ ‬والنقدي‭ ‬واللغوي‭ ‬للأفراد؛‭ ‬إذ‭ ‬يُعتبر‭ ‬تدني‭ ‬قدرات‭ ‬الناس‭ ‬النقدية‭ ‬والفكرية‭ ‬والحوارية‭ ‬مؤشراً‭ ‬على‭ ‬تدني‭ ‬الصحافة،‭ ‬وبالأخص‭ ‬أعمدة‭ ‬الرأي‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أهدافها‭ ‬صناعة‭ ‬الفكر‭ ‬والرأي‭ ‬العام،‭ ‬وبناء‭ ‬منظومات‭ ‬أخلاقية‭ ‬وفلسفية‭ ‬ولغوية‭ ‬تدعم‭ ‬موضوعية‭ ‬الحوار‭ ‬والنقاش‭ ‬العلمي‭ ‬المتزن؛‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬إعفاء‭ ‬التعليم‭ ‬عن‭ ‬دوره‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬بنية‭ ‬المجتمع‭ ‬الفكرية‭ ‬والعلمية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يعد‭ ‬الركيزة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمع‭.‬

لذلك،‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬توقفي‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬التزاماً‭ ‬مهنياً‭ ‬وأخلاقياً‭ ‬بأصول‭ ‬وأعراف‭ ‬مهنة‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام،‭ ‬واحتراماً‭ ‬لعقل‭ ‬القارئ،‭ ‬ولمصداقية‭ ‬الصحيفة،‭ ‬وإسهاماً‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مجتمع‭ ‬محصن‭ ‬فكرياً،‭ ‬ضد‭ ‬الغوغاء،‭ ‬الشعبوية،‭ ‬والاختراقات‭ ‬الآيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬تُعد‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬الاسلحة‭ ‬اللامادية‭.‬

السؤال‭ ‬الثاني،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مهماً‭ ‬لتوضيح‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الإعلام‭... ‬وهنا‭ ‬أؤكد‭ ‬أنني‭ ‬تركت‭ ‬مزاولة‭ ‬الكتابة‭ ‬الدورية‭ ‬المنتظمة‭ ‬في‭ ‬عمود‭ ‬الرأي،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أتوقف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة،‭ ‬بل‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬مقالات‭ ‬الرأي‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬استراتيجية‭ ‬تضم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والتحليل‭ ‬والاستنتاج‭. ‬ومقال‭ ‬الرأي‭ ‬هو‭ ‬منبر‭ ‬فكري‭ ‬غير‭ ‬منتظم‭ ‬لصوت‭ ‬خبير‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬استراتيجية،‭ ‬يُعَبّر‭ ‬عن‭ ‬رأي‭ ‬في‮ ‬قضية‭ ‬محددة‭ ‬وجدلية،‭ ‬وفي‭ ‬مساحة‭ ‬كتابية‭ ‬أكبر،‭ ‬ما‭ ‬يوفر‭ ‬فرصة‭ ‬أكبر‭ ‬للاستطراد‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬فكري‭ ‬مدعوم‭ ‬بالأدلة‭ ‬والإثباتات‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الاستنتاج‭.‬

وفي‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬يأخذني‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬أمر‭ ‬مهم‭ ‬آخر‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬الأسباب‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬إقلال‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬مزاولة‭ ‬عمله‭ ‬الكتابي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة،‭ ‬من‭ ‬صحفيين‭ ‬أو‭ ‬روائيين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭. ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬ذات‭ ‬علاقة‭ ‬بأحداث‭ ‬حياتهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬أو‭ ‬بأحداث‭ ‬المجتمع‭ ‬عامة،‭ ‬وبقوة‭ ‬التفاعل‭ ‬الذهني‭ ‬والنفسي‭ ‬معها،‭ ‬ما‭ ‬يضغط‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬قدرات‭ ‬الكاتب‭ ‬الفكرية‭ ‬والأخلاقية‭... ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالتحديات‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يواجهها‭ ‬الأشخاص‭ ‬في‭ ‬مهن‭ ‬إبداعية‭ ‬وعقلية‭ ‬وفكرية‭ ‬مكثفة‭ ‬مثل‭ ‬الكتابة‭ ‬والصحافة‭ ‬والمسرح‭ ‬والسينما،‭ ‬وهي‭ ‬مهن‭ ‬تتطلب‭ ‬حساسية‭ ‬عالية،‭ ‬وتفكيرًا‭ ‬عميقًا،‭ ‬وشفافية،‭ ‬وتفاعلًا‭ ‬مع‭ ‬الجوانب‭ ‬القاتمة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬والفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬العميق‭ ‬والمتواصل‭ ‬أحياناً‭ ‬أخرى‭. ‬هذه‭ ‬العوامل،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الخصوصيات،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إرهاق‭ ‬عاطفي‭ ‬ويأس،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محفزًا‭ ‬لظهور،‭ ‬أو‭ ‬تفاقم،‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬المبدع‭ ‬تدفعه‭ ‬للابتعاد‭ ‬وعدم‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬معارك‭ ‬إبداعية‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يسخّر‭ ‬وقته‭ ‬وجهده‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬تحديات‭ ‬البناء‭ ‬الفكري‭ ‬والبحث‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭. ‬ولربما‭ ‬تكون‭ ‬الحالة‭ ‬أكثر‭ ‬شدة‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬الكاتب‭ ‬أكثر‭ ‬شفافية‭ ‬ووعياً‭ ‬بما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬جميعها‭. ‬

وهنا‭ ‬أؤمن‭ ‬بأن‭ ‬لكل‭ ‬كاتب،‭ ‬أو‭ ‬مشتغل‭ ‬بالفكر‭ ‬والإبداع،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬حصنه‭ ‬الذاتي‭ ‬الذي‭ ‬يلجأ‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التحديات‭ ‬الكبرى؛‭ ‬هو‭ ‬الحصن‭ ‬الداخلي،‭ ‬الملجأ،‭ ‬إما‭ ‬لحماية‭ ‬الذات‭ ‬الإبداعية،‭ ‬والثوابت‭ ‬القيمية،‭ ‬وإما‭ ‬للعزلة،‭ ‬وإما‭ ‬لمفارقة‭ ‬الحياة‭ (‬كما‭ ‬فعل‭ ‬إرنست‭ ‬همنغواي‭)... ‬هو‭ ‬كمٌّ‭ ‬من‭ ‬التفاعلات‭ ‬التي‭ ‬تتوارد‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬التغيير‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬المجتمع،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬الانقلابات‭ ‬النفسية‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬ميّز‭ ‬الله‭ ‬به‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬مخلوقاته‭... ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬الإبداع‭ ‬إلى‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬ويحافظ‭ ‬على‭ ‬التنوع‭  ‬للإبقاء‭ ‬على‭ ‬التنوع،‭ ‬ويجعل‭ ‬الكينونة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬باقية‭ ‬إلى‭ ‬الأزل‭.‬

أما‭ ‬السؤال‭ ‬الأخير،‭ ‬حول‭ ‬الإقلال‭ ‬من‭ ‬الظهور‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وبالأخص‭ ‬منصتي‭ (‬X‭) ‬والفيسبوك،‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬اتواصل‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬متابعيني،‭ ‬فإن‭ ‬الحديث‭ ‬فيه‭ ‬يطول،‭ ‬ولكن‭ ‬سأختصر‭ ‬بقدر‭ ‬المستطاع‭.. ‬

تعرضت‭ ‬حساباتي‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للحظر‭ ‬الخوارزمي،‭ ‬خلال‭ ‬السنتين‭ ‬الأخيرتين‭... ‬فما‭ ‬هو‭ ‬الحظر‭ ‬الخوارزمي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭!!!‬

الحظر‭ ‬الخوارزمي،‭ ‬ويطلق‭ ‬عليه‭ ‬أيضًا‭ ‬‮«‬الحظر‭ ‬الخفي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬التقييد‭ ‬غير‭ ‬المرئي‮»‬‭ (‬Shadow‭ ‬Banning‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬ممارسة‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لتقليل‭ ‬ظهور‭ ‬أو‭ ‬وصول‭ ‬محتوى‭ ‬مستخدم‭ ‬معين من‭ ‬دون‭ ‬إخطاره‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬بأنه‭ ‬مُعاقَب؛‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬أنت‭ ‬كـمستخدم‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يعمل‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭ ‬يمكنك‭ ‬النشر،‭ ‬ومشاهدة‭ ‬منشوراتك،‭ ‬ويراك‭ ‬متابعوك،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الواقع،‮ ‬يتم‭ ‬إخفاء‭ ‬منشوراتك‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬أو‭ ‬جعلها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للاكتشاف للجمهور‭ ‬الأوسع،‭ ‬للمستخدمين‭ ‬الذين‭ ‬يتابعونك‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يتابعونك‭.‬

عندما‭ ‬يتم‭ ‬‮«‬حظرك‭ ‬خوارزميًا‮»‬،‭ ‬قد‭ ‬تلاحظ‭ ‬بعض‭ ‬العلامات،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تربط‭ ‬ذلك‭ ‬بأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الحظر،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬العلامات‭ ‬انخفاض‭ ‬حاد‭ ‬ومفاجئ‭ ‬في‭ ‬التفاعل،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬‮«‬Like,‭ ‬Comments,‭ ‬Shares‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬منشورك‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المتابعين‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‭... ‬وأيضاً‭ ‬تلاحظ‭ ‬اختفاء‭ ‬الهاشتاقات،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬منشوراتك‭ ‬في‭ ‬نتائج‭ ‬البحث‭ ‬عند‭ ‬استخدام‭ ‬الهاشتاقات‭ ‬التي‭ ‬تضيفها،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭. ‬بل‭ ‬منشوراتك‭ ‬تختفي‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬الاستكشاف‭ (‬Explore‭ ‬page‭) ‬على‭ ‬الانستجرام،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وأيضاً‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬اقتراح‭ ‬حسابك‭ ‬للمستخدمين‭ ‬الجدد،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬محتواك‭ ‬ذا‭ ‬صلة‭. ‬وبالنتيجة‭ ‬يصبح‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬حساباتك‭ ‬محدودا‭ ‬جداً،‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬معدوم‭... ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬حساباتي‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬اتلقى‭ ‬أي‭ ‬إشعار‭ ‬أو‭ ‬تحذير‭ ‬من‭ ‬المنصة‭ ‬يفيد‭ ‬بأي‭ ‬حظر‭.‬

بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الحظر‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬على‭ ‬غزة،‭ ‬وحصل‭ ‬ايضاً‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعلم‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬معاقبتنا‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭. ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬استفسرت‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الإجابة‭ ‬إنه‭ ‬أمر‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامه‭ ‬‮«‬لقمع‭ ‬آراء‭ ‬أو‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬معينة‭ ‬بشكل‭ ‬تعسفي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إتاحة‭ ‬فرصة‭ ‬استئناف‮»‬‭.‬

وأخيراً،‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬أوفيت‭ ‬بعهدي‭ ‬في‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬التساؤلات،‭ ‬وأن‭ ‬تصل‭ ‬كلماتي‭ ‬هذه‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬القراء،‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‭.‬

 

sr@sameerarajab‭.‬net

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا