في أغلب بيوتنا، هناك امرأة «شايلة البيت على أكتافها»، كما نقول في كلامنا الدارج، بصدق هذه حقيقة، حتى لو كان حولها من يساعد. وضع مألوف لنا؛ سواء كانت أمًا تلاحق أبناءها قبل المدرسة، أو جدة تفضّي وقتها وتترك ارتباطاتها لتستقبل أحفادها، وربما تجهز لهم الغداء بيدها بعد عودتهم من المدرسة.
ووسط كل ذلك، قد تكون هذه المرأة متعددة الأدوار، موظفة تنجز عملها في الوقت المحدد، أو طالبة جامعية تسابق المحاضرات كي لا تفوتها الحصة. تعود منهكة، لكنها تقول في سرها: الحمد لله، أنجزت ما عليّ. التعب بالنسبة لها صار رفيقا يوميا أكثر من كونه استثناء. هذا الدور ليس ترفا، بل أساس يحافظ على البيت متماسكا وقويا، حتى وسط إرهاصات الحياة.
مع إعلان المجلس الأعلى للمرأة عن الخطة الوطنية للنهوض بالمرأة البحرينية 2025–2026، بدا جليا العزم الجاد لوضع هذا الجهد اليومي في صلب التخطيط الرسمي. ومن المميز، أنه يحظى بمتابعة كريمة من صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة رئيسة المجلس الأعلى للمرأة، التي اعتاد البحرينيون أن يروا بصمتها في مشاريع المرأة والأسرة، فحضورها لا يقتصر على الجانب الرمزي، بل يمتد إلى متابعة مستمرة تضيف على العمل الرسمي بعدا إنسانيا واضحا.
وليس هذا حديثا بلا امتداد، إنما إقرار بأن ما تقوم به النساء كجزء من قوة الاقتصاد وأمان المجتمع. التمكين هنا، كما أفهمه ويفهمه الكثيرون، لا يتمثل في وظيفة أو منصب فحسب، إنما في بيئة تجعل المرأة توازن بين أدوارها المختلفة دون أن تخسر صحتها أو حياتها.
الخطة، حددت أربعة مسارات رئيسية، أراها شاملة من حيث الفكرة، استقرار الأسرة، تعزيز وجود المرأة في مواقع صنع القرار، الموازنات المستجيبة لاحتياجات المرأة، وبرامج التوعية. الجميل في هذه المسارات أنها ليست كلاما نظريا، إنما تغييرات ملموسة، يمكن أن نراها ونعيشها إذا نُفذت المسارات بالشكل المطلوب.
لفهم الأثر الحقيقي، تأملوا هذه الأمثلة، لا كقائمة مغلقة، بل كأمثلة من حياتنا اليومية على ما يمكن أن تعنيه هذه المسارات حين تتحول إلى واقع نعيشه، وتصبح تفاصيل صغيرة تصنع تحولا ملحوظا في أيامنا العادية.
استقرار الاسرة يعني أن تجد الأم، بعد يوم عمل طويل، وقتا لتجلس مع أبنائها وتراجع واجباتهم وهي مطمئنة البال. وقد يكون هناك قريب أو أحد أفراد العائلة يتولى متابعة الأطفال في غياب الوالدين. مثل هذا الاستقرار لا يتشكل وحده، بل يحتاج إلى شبكة دعم تتنوع بين ما تتيحه القوانين وما يقدمه المجتمع من مساندة حقيقية.
كما أن بعض التحديات التي لا تزال تؤثر في تماسك بعض الأسرة البحرينية، نحن على ثقة بأنها ستجد طريقها إلى الحل، بتكاتف الجهود واستمرار العمل بروح تسعى إلى تعزيز مصلحة المجتمع. ومن أبرز هذه القضايا، ما يتعلق بالتشريعات الخاصة بالطلاق، والمعلقات في المحاكم، والنفقة والحضانة، والتي يستحسن تطويرها بما يراعي حقوق المرأة والطفل، ويُسهم في تخفيف الضغوط داخل البيت الأسري، بما يعزز فرص استمراره بروابط صحية ومتزنة. كذلك فإن استحداث وثيقة زواج حديثة، تتماشى مع متطلبات العصر وتراعي خصوصية المجتمع، من شأنه أن ينعكس إيجابًا على جودة الحياة الأسرية، ويُرسّخ البيئة المتزنة.
وضمن ما تحقق على أرض الواقع، تجدر الإشارة إلى القرارات التي أتاحت لأبناء البحرينية المقترنة من غير بحريني الحصول على حقوق أساسية وملموسة، شملت التعليم والصحة والإقامة، وهي مكتسبات مهمة تعزز إحساسهم بالبيت والانتماء. ويبقى الأمل قائما في أن تتسع هذه المكتسبات بخطوات إضافية تسهّل تفاصيل حياتهم اليومية، وتدعم سلامهم الداخلي على المدى البعيد.
وفي جانب مشاركة المرأة في مواقع صنع القرار، يبرز أثر خبرتها التي تتشكل من تفاعلها اليومي مع محيطها. فهي تراقب كيف تستخدم الأسر المرافق العامة، وتختبر بنفسها سهولة الوصول إلى الخدمات أو صعوبتها، وتلحظ الفروق الصغيرة التي قد لا تظهر في التقارير الرسمية.
هذه الخبرة الحياتية، حين تُترجم إلى رأي أو مقترح داخل أي مجلس أو لجنة، تمنح القرارات بعدا عمليا أقرب لنبض الناس، وتجعل السياسات أكثر قربا للواقع. فالقرارات التي تُبنى على رؤية من يعيش التفاصيل، في غالب الأحيان تكون أقدر على ملامسة الحاجة الحقيقية وإحداث الأثر الفعلي.
حين تُوضع الموازنات بعين الاعتبار لاحتياجات المرأة، قد ينعكس ذلك على أشياء لا يلتفت لها أحد، لكنها تريح قلبها وتوفر وقتها. قد يعني الأمر، عبر تخطيط مالي يراعي توزيع الخدمات والسكن، أن تبقى الأسرة قريبة من محيطها الاجتماعي، أو أن تجد المرأة وسيلة نقل آمنة وملائمة لظروف عملها، أو أن تتوافر حضانة بأسعار معقولة قرب مكان العمل، فلا يضيع وقتها بين الطرق ولا يتشتت تركيزها بين مسؤوليات متباعدة.
ولإكمال المشهد، تضم الخطة أيضا مجالين لا يقلان أهمية؛ المشاركة الاقتصادية وجودة الحياة. وبطبيعة الحال فهما يفتحان مساحات أكبر لدور المرأة، سواء عبر فرص عمل أكثر تنوعا، أو خدمات تجعل حياتها اليومية أكثر سلاسة وكرامة. هذه المسارات، حتى إن غابت في بعض الأوقات عن صدارة النقاش، فهي قادرة على إحداث أثر عميق يتراكم بمرور الوقت.
وبالنسبة إلى برامج التوعية، نراها تبدأ من ورش عملية تفاعلية في المراكز الاجتماعية، تعلّم الفتيات مهارات إدارة الحياة الزوجية بأسلوب واقعي. ويمكن أن تمتد إلى دورات تمنح النساء المقبلات على سوق العمل ثقة أكبر بأنفسهن. وهناك لقاءات صغيرة مع سيدات أعمال، أو مبادرات لتعليم الأمهات أساسيات التكنولوجيا ومواكبة تطورات الذكاء الاصطناعي، وهي خطوات قد تفتح أمامهن فرصا وتترك أثرا يبقى.
نجاح الخطة يحتاج إلى أكثر من قرارات رسمية، يتطلب تعاون الجميع؛ من صاحب العمل الذي يراعي ظروف موظفاته، إلى الأسرة الكبيرة التي تمد يد العون وقت الحاجة، والمدارس التي تتعاون مع الأمهات بدل تبادل اللوم. حتى الأحاديث الجانبية في مجالسنا الثقافية أو تلك التي تشهد حراكا اجتماعيا، قد تفتح بابا لدعم جديد.
بمرور الوقت، قد نرى في كل منطقة مركزا صغيرا للاستشارات الأسرية، أو شابات يدِرن فعاليات ناجحة في مجالات مختلفة. تدريجيا، تصبح مشاركة المرأة في المجالس أمرا مألوفا لا يثير التعجب، ويترسخ وجودها في مواقع القرار والعمل، بينما تظل حاضرة في البيت والمجالس والأسواق. عندها، لن تبدو المبادرات النسائية خطوة خارج المألوف، بل امتدادًا طبيعيا لحياة الناس.
وما نعيشه اليوم قد يكون البداية، الأمر ليس بعيدا، فكم من فكرة بدت صغيرة ثم صارت واقعا نعيشه، إذا التقت النوايا والجهود، يمكن أن تتحول طاقة المرأة البحرينية بعون الله إلى قوة يومية تحرك مسيرة الوطن للأمام.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك