في تجربة مثيرة للاهتمام، في واحدة من الدول الصديقة، ذهبت مع أحد الأخوة الأصدقاء الذي يعمل مستشارا إداريا لمؤسسة من أجل الاستشارة الإدارية وما إلى ذلك، وقال لي الصديق: فقط راقب، ولا تتحدث إلا إن طلب منك المسؤول الذي سوف نذهب لزيارته. وافقت، فذهبنا.
جلسنا في مكتب فخم للمسؤول، تعرفنا، ثم بدأ يتحدث بكل ثقة وهو نافخ صدره إلى أعلى درجات الانتفاخ. قال من ضمن كلامه «أنا مضطر إلى الاستعانة بشركتكم بهدف تقييم وضع مؤسساتنا، فهل هي تحتاج إلى تغيير أم لا؟ وهذا هو طلب مجلس الإدارة، على الرغم من أني راض عن عمل المؤسسة، ولا أرغب في أي نوع من التغيير، فالأمور مستقرة ومستتبة».
وبعد حوالي نصف ساعة من النقاش والحوار، قال صديقي للمسؤول: «أنا أتفهم وضعك، فأنت تريد تقريرا صوريا حتى تثبت لمجلس الإدارة أن المؤسسة لا تحتاج إلى تغيير، حسنا سنعمل تحت إمرتك بكل السبل الممكنة».
خرجنا ومسؤول المؤسسة راض تمامًا عن أداء صديقي، ولكني لم أكن راضيًا، فقلت: «لماذا جرت الأمور على هذا النحو؟ وكيف ترضى أن تجاريه إلى هذه الدرجة؟»، فابتسم صديقي وقال: «كلهم في البداية لا يريدون إلا التقارير والأمور الصورية، ولكن عندما نقدم تقريرنا عن أوضاع المؤسسة، سيفاجأون ويراجعوننا مباشرة حتى نسهم في التغيير المؤسسي، بطريقة منهجية ومؤسسية، لا عليك».
عمومًا، بعد حوالي شهر من عمل إجراء دراسات مسحية وما إلى ذلك تبين أن المؤسسة – فعلاً – تحتاج إلى تغيير، وربما بصورة كبيرة، فقلت لصاحبي: والآن ماذا؟
ضحك وقال: لا شيء، سنقدم له التقرير، وكذلك نسخة منه إلى مجلس الإدارة، وعليهم اتخاذ القرار، إما نعم للتغيير وإما لا.
انتظرنا شهرا آخر، وبعدها جاء خطاب من مجلس الإدارة، إنهم يرون أنه آن الأوان للتغيير، وأن المؤسسة بانتظار صاحبي وشركته لوضع خطة متكاملة للتغيير، وهكذا بدأنا.
لا أريد أن أتحدث عن هذه التجربة، ولكن دعوني أتحدث من خلالها عن بعض المؤشرات التي تدعو المؤسسات إلى السعي للتغيير، بمعنى آخر كيف نعرف أن المؤسسة التي نحن نديرها تحتاج إلى تغيير، سواء كانت مؤسسة من القطاع العام أو الخاص؟ بمعنى ما المؤشرات أو الإشارات التي تدل على أن المؤسسة بحاجة إلى وضع خطة للتغيير، سواء كان ذلك لتحسين الأداء، أو للتكيف مع التغيرات في البيئة الخارجية، أو معالجة مشكلات داخلية، وهذه المؤشرات هي:
ضعف جودة الخدمات المقدمة للمواطنين أو ما يعرف بتراجع الأداء العام: وفي القطاع العام يمكن أن يتضح ذلك في التأخر في إنجاز المعاملات أو تقديم الخدمات، وكذلك في الشكاوى المتكررة من المواطنين أو المستفيدين، بالإضافة إلى انخفاض في مؤشرات رضا الجمهور.
أما في القطاع الخاص فيمكن أن يتضح هذا المؤشر في انخفاض الإنتاجية أو جودة المنتجات والخدمات، وكذلك في تراجع في الأرباح أو الإيرادات، بالإضافة إلى زيادة في التكاليف من دون مبرر واضح.
عدم رضا العملاء: قلنا دائمًا إنه كان يستخدم هذا المصطلح منذ سنوات، ولكن اليوم يستخدم مصطلح جديد وهو (سعادة العميل)، إذ إن عمل المؤسسة سواء في القطاع العام أو الخاص يجب أن يتمحور حول العميل، لذلك تعد هذه النقطة مؤشرًا، ويتبين ذلك في ارتفاع في شكاوى العملاء أو انخفاض في معدلات رضاهم، وفقدان حصة سوقية في المؤسسات الخاصة لصالح المنافسين، بالإضافة إلى تقييمات سلبية متكررة على المنصات المختلفة. وعلى المؤسسات في القطاع العام أن تعيد تفكيرها في هذا المؤشر فلا توجد مؤسسة ليس لها عملاء.
البيروقراطية وتعقيد الإجراءات ومقاومة التغيير أو الجمود المؤسسي: لقد وجدنا أن هذا المؤشر يمكن أن يكون واضحًا في مؤسسات القطاع العام، ولكن هذا لا يعني أنه غير موجود في القطاع الخاص، وإن كان بنسبة أقل، لذلك فإن على المؤسسات أن تعيد النظر في الإجراءات الطويلة وغير الفعالة، إذ إن هذه الإجراءات تزعج المراجع والعميل، بالإضافة إلى تكرار الأعمال أو ازدواجية المهام بين الإدارات، ومن جهة أخرى الاعتماد المفرط على المعاملات الورقية وعدم التحول إلى المعاملات الرقمي. وربما من جانب آخر رفض الموظفين أو حتى القيادات لأي نوع التطوير أو التحديث، وهذا يعني غياب ثقافة الابتكار والتحسين المستمر، مما يؤدي إلى ضعف في تبني التقنيات الحديثة.
ضعف الروح المعنوية للموظفين: وهذا يكون واضحًا في ارتفاع معدل دوران الموظفين أو ما يعرف بالاستقالات، والإجازات المرضية والتغيب وما إلى ذلك، وكذلك انخفاض في مستوى الالتزام أو الحماس للعمل، بالإضافة إلى مقاومة التغيير أو ضعف التعاون بين أفراد فريق العمل، وهذا يحتاج من المؤسسة إلى إعادة النظر في كيفية إدارة المؤسسة والكفاءات الإدارية والمهنية، بالإضافة إلى موضوع الحوافز المالية والمعنوية، ويضاف إلى ذلك إعادة إلى النظر في الجوانب الاجتماعية التي من المفروض أن تكون ثقافة سارية في المؤسسة.
ضعف الكفاءة الإدارية والمالية: وربما هنا لا نتحدث عن المسؤول الإداري، فكل المؤسسات بها أعداد كبيرة من المسؤولين الإداريين، ولكننا نتحدث عن ذلك المسؤول الإداري القائد الذي لا يظهر إلا في بعض المؤسسات، فهو العملة النادرة، إذ أنه في حالة الأولى فإننا نشاهد كمًّا كبيرا من الهدر في الموارد أو ضعف الرقابة، وكذلك تأخر في تنفيذ الميزانيات أو المشاريع، بالإضافة إلى ضعف في تقييم الأداء المؤسسي أو الفردي. أما في حالة وجود المسؤول الإداري القائد، فإن كل هذه الأمور تختفي لأن هذا المسؤول القائد يستطيع بكل سهولة ويسر أن يعيد ترتيب المعادلات والأولويات لصالح المؤسسة والأفراد، فلا هدر ولا تأخر.
عدم مواكبة التوجهات الوطنية أو الاستراتيجيات العليا: في بعض الدول وجدنا أن الدولة تسير في اتجاه والمؤسسات الخاصة والعامة تسير في أتجاه آخر، ربما يتقاطعان في بعض الأماكن، ولكن بصورة عامة الجميع يسير في طريق متوازٍ، وهذا يعني بكل وضوح عدم توافق بين خطط المؤسسة مع رؤية الدولة، وهذا حتمًا يؤدي إلى ضعف في المساهمة بتحقيق الأهداف الوطنية أو مؤشرات الأداء الحكومية، العامة والخاصة.
عدم وضوح الرؤية أو الأهداف: في بعض المؤسسات وجدنا أن الإدارة العليا تضع أهدافا واستراتيجيات، ولكن هذه الأهداف والخطط عادة ما تكون غائبة عن الموظفين العاملين في المؤسسة، فهؤلاء لا يعرفون أي أهداف ولا شيء، فهم يعملون من أجل الراتب فقط، ومن جهة أخرى فإن بعض المؤسسات لا توجد لديها خطة استراتيجية واضحة، وهذا ما يسبب تضاربا في الأدوار والمسؤوليات، مما يؤدي إلى ضعف في اتخاذ القرار أو بطء في الاستجابة للتحديات.
مشكلات في العمليات الداخلية: كل الذي ذكر سابقًا يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى مشاكل داخلية في المؤسسة تتمثل في تكرار الأخطاء أو الأعطال، وضعف في التنسيق بين الإدارات والأقسام، وكذلك الاعتماد بشكل مفرط على إجراءات قديمة أو غير فعالة.
بعدما يتم تحديد هذه المشكلات، يستوجب على المؤسسة أن تفكر في التغيير، وربما التغيير في مثل هذه المؤسسات يجب أن يكون تغييرًا جذريًا، وليس تغييرًا سطحيًا، ويمكن تلخيص خطة التغيير في النقاط التالية:
أولاً: تحليل الوضع الراهن؛ ويتم ذلك بتقييم الأداء الحالي، ومراجعة مؤشرات الأداء، ورضا المستفيدين، وكذلك كفاءة العمليات، وهذا يعني تحديد نقاط الضعف، مثل البيروقراطية، ضعف التنسيق، مقاومة التغيير، وفي هذه الحالة يجب ألا ننسى جمع آراء الموظفين والمستفيدين عبر استبانات أو مقابلات.
ثانيًا: تحديد أهداف التغيير ووضع الخطة؛ سواء كنا نتحدث عن المؤسسات العامة أو الخاصة فإن الأهداف يمكن أن تتلخص في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وتقليل وقت إنجاز المعاملات، وكذلك تعزيز التحول الرقمي وتقليل الاعتماد على الورقيات، بالإضافة إلى رفع كفاءة الموظفين وتطوير بيئة العمل.
ثالثًا: تصميم خطة التغيير؛ يمكن أن تعد خطة التغيير من تلك النوعيات من الخطط التي توصف بأنها من السهل الممتنع، وهذا يعني أنه حينما نقرأها ونتداولها فهي سهلة، ولكن أن نحاول أن نضع مثلها فإننا يمكن أن نواجه صعوبة، إذ إنها ليست من السهولة حينما نرغب في تصميمها، وذلك بسبب أنه يجب النظر في الكثير من الاعتبارات والمتغيرات التي تأتي بسرعة وتختفي بسرعة أكبر منها، ولكن عمومًا عادة الخطط وخاصة في القطاع العام يمكن أن تشمل:
إعادة هندسة العمليات أو ما يعرف بالهندسة الإدارية.
التحول الرقمي، بمعنى اعتماد أنظمة إلكترونية وتطبيقات ذكية.
تطوير الموارد البشرية، وخاصة فما يختص بالتدريب، وتحفيز، وتقييم الأداء.
التواصل الداخلي والخارجي، وهذا يعني نشر ثقافة التغيير، وإشراك الموظفين في هذا الموضوع.
الحوكمة والرقابة، وضع مؤشرات متابعة وتقييم.
رابعًا: تنفيذ التغيير؛ بعد أن يتم وضع الخطة علينا أن نبدأ في التنفيذ الذي لا يمكن أن يبدأ إلا بالخطوات التالية: تشكيل فريق لقيادة التغيير، وتحديد جدول زمني واضح، وتنفيذ تدريجي بحسب الأولويات، ويجب توفير الدعم الفني والتدريبي.
خامسًا: المتابعة والتقييم؛ دائمًا نضع المتابعة والتقييم في ذيل قائمة الخطط والبرامج إلا أن هاتين العمليتين تعدان من الخطوات التي يجب أن تسير معنا منذ اللحظة الأولى لوضع الخطة أو أي برنامج، وهذه معلومة يجب التفكير فيها دائمًا إذ أنه من غير المجدي أن تأتي علمية التقييم في نهاية الخطة أو البرنامج. وعملية المتابعة والتقييم عادة ما تكون بقياس مؤشرات الأداء بعد التغيير، ومراجعة دورية للخطة وتعديلها بحسب الحاجة، بالإضافة إلى إشراك المستفيدين في تقييم النتائج.
عمومًا، عندما نجد أنفسنا أو مؤسستنا في وضع محرج علينا أن نعيد التفكير في عمليات التغيير، فهي تحتاج إلى منهجيات وليس إلى رغبات فقط.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك