العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

حين يبدأ الطب قبل أن يبدأ الألم

بقلم: نبيلة رجب

الأحد ١٠ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

لسنوات،‭ ‬اعتدنا‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالصحة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬الوجع‭. ‬ننتظر‭ ‬الأعراض،‭ ‬ثم‭ ‬نتحرك‭. ‬حتى‭ ‬الطب‭ ‬نفسه،‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يلتفت‭ ‬كثيرا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التشخيص‭. ‬لكن‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬تغير‭.‬

في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬بدأت‭ ‬ملامح‭ ‬تفكير‭ ‬جديد‭ ‬تظهر‭ ‬بوضوح‭. ‬لم‭ ‬ينتظروا‭ ‬المرض،‭ ‬بل‭ ‬قرروا‭ ‬أن‭ ‬يبدؤوا‭ ‬مبكرًا،‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الميلاد،‭ ‬وربما‭ ‬قبلها‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الطب‭ ‬لديهم‭ ‬ردّ‭ ‬فعل،‭ ‬بل‭ ‬محاولة‭ ‬للحيلولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الألم‭ ‬أصلاً‭. ‬هذا‭ ‬التوجه،‭ ‬رغم‭ ‬حداثته،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬عابرًا‭. ‬كأنه‭ ‬بداية‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الصحة،‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬هناك،‭ ‬لكنها‭ ‬تلهم‭ ‬غيرها‭. ‬لأن‭ ‬الوعي،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬حدودًا‭.‬

كان‭ ‬يُظن‭ ‬أن‭ ‬فحصا‭ ‬بسيطا‭ ‬بعد‭ ‬الولادة‭ ‬يكفي‭. ‬‮«‬وخزة‭ ‬الكعب‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬تُسمى،‭ ‬حيث‭ ‬تؤخذ‭ ‬قطرتان‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬الرضيع،‭ ‬وتُفحص‭ ‬لعدد‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الوراثية‭. ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬أنقذت‭ ‬الكثير،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كافية‭ ‬دائما‭. ‬بعض‭ ‬الأطفال‭ ‬بدوا‭ ‬أصحاء‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لكن‭ ‬داخل‭ ‬أجسادهم،‭ ‬كان‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬يعمل‭ ‬بصمت‭.‬

قبل‭ ‬أسابيع،‭ ‬أعلنت‭ ‬إنجلترا‭ ‬مشروع‭ ‬لفحص‭ ‬الجينوم‭ ‬الكامل‭ ‬لكل‭ ‬طفل‭ ‬يولد‭ ‬هناك‭. ‬المشروع‭ ‬بدأ‭ ‬بتجربة‭ ‬على‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬طفل‭. ‬الهدف‭ ‬أن‭ ‬يشمل‭ ‬جميع‭ ‬المواليد‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬المقبل‭. ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬استوقفني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الرقم،‭ ‬بل‭ ‬الفكرة‭. ‬أن‭ ‬تُقرأ‭ ‬صفحة‭ ‬الطفل‭ ‬الوراثية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنقلب‭ ‬إلى‭ ‬مأساة‭.‬

في‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬أمريكا‭ ‬والدنمارك‭ ‬وأستراليا،‭ ‬وُجدت‭ ‬تجارب‭ ‬مماثلة،‭ ‬لكنها‭ ‬بقيت‭ ‬محدودة‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬فالأمر‭ ‬بدا‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬عابرة‭. ‬المشروع‭ ‬هناك‭ ‬خُطّط‭ ‬له‭ ‬ليكون‭ ‬سياسة‭ ‬صحية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد،‭ ‬تشمل‭ ‬نحو‭ ‬مائتي‭ ‬مرض‭ ‬وراثي،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬التقارير‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬ولله‭ ‬الحمد،‭ ‬بدأنا‭ ‬نتحرّك‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭. ‬البرنامج‭ ‬الوطني‭ ‬للجينوم‭ ‬خطوة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭. ‬وجوده‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬وصلنا‭ ‬تمامًا،‭ ‬لكنه‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬بدأ‭ ‬يتشكّل‭ ‬بهدوء،‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬أعمق‭ ‬بأن‭ ‬الصحة‭ ‬لا‭ ‬تبدأ‭ ‬حين‭ ‬نُصاب،‭ ‬بل‭ ‬حين‭ ‬نعرف‭.‬

حين‭ ‬قرأت‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬قفز‭ ‬إلى‭ ‬ذهني‭ ‬وجه‭ ‬تلك‭ ‬الموظفة‭ ‬الهادئة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬معنا‭. ‬كانت‭ ‬أختها‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬السكلر،‭ ‬وكنا‭ ‬نعيش‭ ‬معها‭ ‬فصول‭ ‬القلق‭ ‬كلما‭ ‬دخلت‭ ‬المستشفى‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تشكو،‭ ‬لكن‭ ‬عينيها‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬كانت‭ ‬تتساءل‭ ‬أحيانا‭: ‬لو‭ ‬عرفنا‭ ‬مبكرا،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتجنب‭ ‬هذا‭ ‬المصير؟‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بالذات‭ ‬بقي‭ ‬معي،‭ ‬وربما‭ ‬لهذا‭ ‬استوقفتني‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الطب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الألم‭.‬

كنت‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الفحوصات‭ ‬باهظة،‭ ‬لكن‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬كلفتها‭ ‬أقل‭ ‬مما‭ ‬توقعت‭. ‬والمفارقة‭ ‬أن‭ ‬الاستثمار‭ ‬فيها،‭ ‬رغم‭ ‬كلفته‭ ‬الأولية،‭ ‬يُوفر‭ ‬لاحقا،‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الصحي‭ ‬وعلى‭ ‬العائلات،‭ ‬حين‭ ‬تُكتشف‭ ‬المشكلة‭ ‬مبكرا‭ ‬يتغير‭ ‬العلاج‭ ‬ويتغير‭ ‬معه‭ ‬تقبل‭ ‬المرض‭ ‬وربما‭ ‬مصيره‭.‬

الملف‭ ‬الجيني‭ ‬للطفل‭ ‬لا‭ ‬يكشف‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬الأمراض،‭ ‬بل‭ ‬يفتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬لاحقا‭. ‬وهنا‭ ‬تأتي‭ ‬الحساسية‭. ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬قد‭ ‬تطمئن،‭ ‬لكنها‭ ‬أحيانا‭ ‬تُقلق‭ ‬أكثر‭. ‬ولهذا،‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬يحتاج‭ ‬وعيا،‭ ‬لا‭ ‬اندفاعا‭. ‬احتراما‭ ‬للخصوصية،‭ ‬ووضوحا‭ ‬في‭ ‬الأهداف،‭ ‬وحدودًا‭ ‬لما‭ ‬يُقال‭ ‬ومتى‭ ‬يُقال‭.‬

ربما‭ ‬لهذا‭ ‬اختاروا‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭ ‬أن‭ ‬يسيروا‭ ‬بخطى‭ ‬محسوبة‭. ‬لم‭ ‬يُفتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه،‭ ‬بل‭ ‬وُضعت‭ ‬القوانين‭ ‬أولا‭. ‬خصوصية‭ ‬البيانات،‭ ‬حق‭ ‬الطفل‭ ‬وأسرته‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬التدريجية،‭ ‬حماية‭ ‬الكرامة،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التصور‭ ‬العام‭. ‬المشروع‭ ‬هناك‭ ‬لا‭ ‬يستعجل،‭ ‬لكنه‭ ‬يمضي‭ ‬بثبات‭.‬

ربما‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الفحوصات‭ ‬متاحة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تُفهم‭ ‬أيضا‭. ‬لهذا،‭ ‬تبدو‭ ‬التوعية‭ ‬منذ‭ ‬المدرسة‭ ‬أمرا‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬التشخيص‭. ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الطفل،‭ ‬حين‭ ‬يكبر،‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأمراض‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬صدفة،‭ ‬وأن‭ ‬الوقاية‭ ‬ليست‭ ‬دائما‭ ‬حقنة‭ ‬أو‭ ‬دواء،‭ ‬بل‭ ‬أحيانا،‭ ‬معلومة‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الفهم‭ ‬لا‭ ‬يُزرع‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬بل‭ ‬يتشكل‭ ‬بالتدريج،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مناهج‭ ‬تربط‭ ‬العلم‭ ‬بالحياة،‭ ‬وتقدم‭ ‬الصحة‭ ‬كمسؤولية‭ ‬مشتركة‭. ‬أن‭ ‬نُربي‭ ‬جيلا‭ ‬لا‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬تركيبته‭ ‬الجينية،‭ ‬بل‭ ‬يستوعب‭ ‬معناها،‭ ‬ويتعامل‭ ‬معها‭ ‬كباب‭ ‬للاحتياط‭ ‬لا‭ ‬للخوف‭.. ‬تلك،‭ ‬ربما،‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬مجتمع‭ ‬أكثر‭ ‬وعيا‭ ‬وأقل‭ ‬وجعا‭. ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬ليس‭ ‬حجمها،‭ ‬بل‭ ‬نُضجها‭. ‬طريقة‭ ‬تفكيرها‭. ‬استعدادها‭ ‬لأن‭ ‬تطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬الوجع‭. ‬الوقاية‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬أمنية‭ ‬طيبة‭ ‬نأملها،‭ ‬بل‭ ‬مسؤولية‭ ‬حقيقية‭. ‬وحين‭ ‬نعطي‭ ‬ابناءنا‭ ‬فرصة‭ ‬المعرفة‭ ‬المبكرة،‭ ‬لا‭ ‬نُغير‭ ‬مصيرهم‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬نمنحهم‭ ‬بداية‭ ‬مختلفة‭.. ‬بداية‭ ‬تُجنبهم‭ ‬ألما‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭.‬

‭ ‬rajaabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا