لسنوات، اعتدنا أن يبدأ الاهتمام بالصحة بعد أن يظهر الوجع. ننتظر الأعراض، ثم نتحرك. حتى الطب نفسه، لفترة طويلة، لم يكن يلتفت كثيرا إلى ما قبل التشخيص. لكن شيئا ما تغير.
في إنجلترا، بدأت ملامح تفكير جديد تظهر بوضوح. لم ينتظروا المرض، بل قرروا أن يبدؤوا مبكرًا، من لحظة الميلاد، وربما قبلها. لم يعد الطب لديهم ردّ فعل، بل محاولة للحيلولة دون أن يبدأ الألم أصلاً. هذا التوجه، رغم حداثته، لا يبدو عابرًا. كأنه بداية مرحلة جديدة في التعامل مع الصحة، تنطلق من هناك، لكنها تلهم غيرها. لأن الوعي، في النهاية، لا يعرف حدودًا.
كان يُظن أن فحصا بسيطا بعد الولادة يكفي. «وخزة الكعب»، كما تُسمى، حيث تؤخذ قطرتان من دم الرضيع، وتُفحص لعدد محدود من الأمراض الوراثية. هذه الخطوة أنقذت الكثير، لكنها لم تكن كافية دائما. بعض الأطفال بدوا أصحاء في البداية، لكن داخل أجسادهم، كان شيء ما يعمل بصمت.
قبل أسابيع، أعلنت إنجلترا مشروع لفحص الجينوم الكامل لكل طفل يولد هناك. المشروع بدأ بتجربة على مائة ألف طفل. الهدف أن يشمل جميع المواليد خلال العقد المقبل. أكثر ما استوقفني لم يكن الرقم، بل الفكرة. أن تُقرأ صفحة الطفل الوراثية قبل أن تنقلب إلى مأساة.
في دول أخرى مثل أمريكا والدنمارك وأستراليا، وُجدت تجارب مماثلة، لكنها بقيت محدودة. أما في إنجلترا، فالأمر بدا أكبر من تجربة عابرة. المشروع هناك خُطّط له ليكون سياسة صحية طويلة الأمد، تشمل نحو مائتي مرض وراثي، بحسب ما ورد في بعض التقارير.
في البحرين، ولله الحمد، بدأنا نتحرّك في الاتجاه الصحيح. البرنامج الوطني للجينوم خطوة على هذا الطريق. وجوده لا يعني أننا وصلنا تمامًا، لكنه يدل على وعي بدأ يتشكّل بهدوء، على فهم أعمق بأن الصحة لا تبدأ حين نُصاب، بل حين نعرف.
حين قرأت عن المشروع الإنجليزي، قفز إلى ذهني وجه تلك الموظفة الهادئة التي كانت تعمل معنا. كانت أختها تعاني من السكلر، وكنا نعيش معها فصول القلق كلما دخلت المستشفى. لم تكن تشكو، لكن عينيها كانت تقول كل شيء. كانت تتساءل أحيانا: لو عرفنا مبكرا، هل كان يمكن أن نتجنب هذا المصير؟ هذا السؤال بالذات بقي معي، وربما لهذا استوقفتني فكرة أن يبدأ الطب قبل أن يبدأ الألم.
كنت أظن أن هذه الفحوصات باهظة، لكن تبين أن كلفتها أقل مما توقعت. والمفارقة أن الاستثمار فيها، رغم كلفته الأولية، يُوفر لاحقا، على النظام الصحي وعلى العائلات، حين تُكتشف المشكلة مبكرا يتغير العلاج ويتغير معه تقبل المرض وربما مصيره.
الملف الجيني للطفل لا يكشف فقط عن الأمراض، بل يفتح نافذة على ما قد يحدث لاحقا. وهنا تأتي الحساسية. لأن هذه المعرفة قد تطمئن، لكنها أحيانا تُقلق أكثر. ولهذا، التعامل معها يحتاج وعيا، لا اندفاعا. احتراما للخصوصية، ووضوحا في الأهداف، وحدودًا لما يُقال ومتى يُقال.
ربما لهذا اختاروا في إنجلترا أن يسيروا بخطى محسوبة. لم يُفتح الباب على مصراعيه، بل وُضعت القوانين أولا. خصوصية البيانات، حق الطفل وأسرته في المعرفة التدريجية، حماية الكرامة، كل ذلك كان جزءًا من التصور العام. المشروع هناك لا يستعجل، لكنه يمضي بثبات.
ربما لا يكفي أن تكون الفحوصات متاحة فقط، بل أن تُفهم أيضا. لهذا، تبدو التوعية منذ المدرسة أمرا لا يقل أهمية عن التشخيص. أن يعرف الطفل، حين يكبر، أن بعض الأمراض لا تأتي صدفة، وأن الوقاية ليست دائما حقنة أو دواء، بل أحيانا، معلومة. هذا النوع من الفهم لا يُزرع في لحظة، بل يتشكل بالتدريج، من خلال مناهج تربط العلم بالحياة، وتقدم الصحة كمسؤولية مشتركة. أن نُربي جيلا لا يخاف من معرفة تركيبته الجينية، بل يستوعب معناها، ويتعامل معها كباب للاحتياط لا للخوف.. تلك، ربما، أول خطوة نحو مجتمع أكثر وعيا وأقل وجعا. ما يستحق التأمل في مثل هذه التجارب ليس حجمها، بل نُضجها. طريقة تفكيرها. استعدادها لأن تطرح الأسئلة قبل أن يظهر الوجع. الوقاية لا تعد أمنية طيبة نأملها، بل مسؤولية حقيقية. وحين نعطي ابناءنا فرصة المعرفة المبكرة، لا نُغير مصيرهم فحسب، بل نمنحهم بداية مختلفة.. بداية تُجنبهم ألما ليس بالضرورة قد يحدث.
rajaabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك