الأدب البحريني غني ففيه كتّاب لا يستهان بهم. والبحرين غنية بالمحافل الأدبية والثقافية. فسبق أن استضافت أسرة الأدباء والكتاب القاص مهدي عبدالله في ندوة حول قصصه (قصص جد حفصية) مساء الأحد 21 يوليو 2024. وفي ختام الندوة قدم رئيس مجلس إدارة الأسرة الدكتور راشد نجم شهادة تقديرية للكاتب، ثم استضاف مركز تمكين شباب جد حفص الكاتب ليقدم ايضا عن قصصه.
أسرة الأدباء والكتاب تقع في الزنج. وبعد ان تسير على شارع البديع قادما من المنامة تظهر اشارة دلالية على شكل سهم أزرق مكتوب عليها جد حفص. وإذا استدرت يسارا متبعا اتجاه الإشارة تدخل إلى سوق البلدة وثم تجد على يسارك مبنى مركز تمكين شباب جد حفص، وهناك قدم الكاتب مهدي عبدالله «قصص جد حفصية».
وهكذا تم تقديم القصص في نفس الفضاء المكاني الذي وقعت فيه الأحداث. فلم يكن المكان افتراضيا بل واقعيا ملموسا. ولم يجهد الكاتب بتقديم وصف تفصيلي عن المكان في قصصه. فعنوان المجموعة كان كافيا لوصف المكان وها نحن في قلب المكان. فكان المكان كموقع للحدث حاضرا دوما ويشكل الإطار الملموس لما جرى من أحداث. شخصيات القصص طورت علاقات عاطفية خاصة بالمكان وبالرغم من أن السرد يمثل تسلسلا زمنيا للأحداث، ولكن المكان كان هو السائد.
يلفت باختين انتباهنا بمفهومه «الكرونوتوب» إلى حقيقة مفادها أن المكان والزمان في السرد لا يمكن تمثيلهما بشكل مستقل عن بعضهما البعض، بل هما في ارتباط لا ينفصل. ووفقاً لباختين، فإن المكان والزمان يشكلان عنصراً أساسياً في التعريف الرسمي للنوع الأدبي للسرد. ولكن تم تطوير العديد من الفئات والمفاهيم أيضًا داخل نظرية السرد، التي توضح أن المكان هو عنصر أساسي في خلق العالم السردي، ومن خلال وظيفته كإعداد، يلعب دورًا مهمًا في الحبكة، وتوصيف الشخصيات، والتفاوض على نظام القيم ففي العالم الخيالي
تلعب مفاهيم الزمان والمكان دورًا محوريًا في نظرية السرد وتؤثر بشكل كبير على كيفية بناء القصص وإدراكها. من خلال الاستخدام المتعمد للتسلسلات الزمنية والأوصاف المكانية، يخلق القاص عوالم فريدة ويأخذ القراء في رحلة عميقة وعاطفية. وعلينا ان نتذكر: إن الاستخدام الماهر للزمان والمكان هو الأساس للسرد المشوق والحيوي.
يتناول القصاصون والكتاب تجربة المكان بأشكال مختلفة. ولكن المكان هنا هو أيضا الوطن (الذي تمثله البلدة) للقاص مهدي عبدالله. ومهدي عبدالله له ارتباط وعشق خاص لهذا المكان. ولا يمكن اعتبار الارتباط الإيجابي بالوطن أمراً مسلماً به عند جميع الكتاب فهناك منهم من يعتقد أن الدنيا دار فناء وكل شيء إلى زوال وهذه الارض ليست موطننا. ولكن مهدي عبدالله يبقى متمسكا بجد حفص وذكرياته وأهله فهي علاقته بالوطن الكبير البحرين. مهدي عبدالله يؤكد وجود أماكن يحافظ الإنسان معها على رابطة عاطفية مدى الحياة لأن تجارب الحياة الأساسية قد حدثت هناك وستبقى مهمة ولا تمحى وستستمر تشكل جزءا من هويته الشخصية.
الوطن بصمة فردية وتستمر تشكلنا طوال حياتنا لأن الوعي بتطورنا الشخصي فيها متشابك بشكل لا ينفصم مع تجربتنا للعالم. وبالتالي فمسألة الوطن ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالتطور الفردي والأساس العاطفي لهوية الفرد. لقد عاش في نفس هذه المدينة سنوات عديدة من حياته وتمكن من رؤية السكان يتحركون للداخل والخارج ويولدون ويموتون. وكانت حياة الفرد في هذه المدينة جزءًا من نقطة النقل المكانية والزمانية. الوطن هو المكان الذي تعرف فيه على العديد من المنازل والبيوت والدكاكين ومن سكنها، بعضهم عرفه عندما كان طفلاً، وتمكن فيما بعد رؤية البالغين الان كأطفال وسرد قصصهم وقصص عن والديهم الذين فارقو هذا العالم. فكان الوطن عنده هو ذاكرة عابرة للأجيال محددة مكانيًا بجد حفص وبوضوح وتشمل السياق الاجتماعي للقرى والمدينة، حيث يتمكن أن يظهر ذكريات مدهشة في كل زاوية فيها. فالوطن ظاهرة رنينية ترن، وهو المساحة المحددة بوضوح والتي يتأرجح فيها بندول الذكريات اللاإرادية. فالوطن هو المكان الذي تسبح فيه الذاكرة وتعرف طريقها.
ومهدي عبدالله لا يختزل الوطن بالفضاء والمساحات. بل إن «الوطن» هو أكثر من مجرد المكان. فقبل كل شيء، الوطن هو كلمة امتصت، مثل الإسفنج، العديد من التقاليد والاهتزازات الثقافية والعلاقات الاجتماعية. وبهذا المعنى يروي لنا قصص جد حفصية.
قد يعتبر البعض كلمة الوطن كلمة للاستهلاك والمجاملة أو حتى للحصول على مأرب شخصية. لكنها واضحة عند مهدي عبدالله وهي جزء من هويته ومكونه العاطفي ولا يستطيع الاستغناء عنه. فالوطن هو قصص الحب والبيئة وقصص الكفاح اليومي من أجل لقمة العيش.
وهكذا تشكل المفهوم ثقافياً وتجسد فردياً، وأصبح يشكل رابطاً مهماً بينه وبين المجموعة.
حيث يسود الاستقرار الطبيعي طويل الأمد، وحيث لا تتعرض الاستمرارية الاجتماعية والسياسية والثقافية لأي انقطاع مؤلم، فإن كلمة «الوطن» بشكل مباشرلا تكون ضرورية حقاً، لأن ما يملكه المرء ويحتضنه في داخله لا يجب أن يكون قضية. يضع مهدي عبدالله هذا المفهوم بطرح النقيض ففي قصته «المنفى» يأتي المغترب وكله حنين الى وطن استقر وتجمد في ذاكرته واحتفظ به بقفله في ذهنه كما تحفظ الكنوز في الصناديق المؤمنة.. يتوق في احيان كثيرة الى احضان القرية التي تفيأ ظلالها وحفظت أقدامه طرقاتها وتشربت عروقه ترابها ويهفو كلما لاحت الفرصة لأن يملأ عينه وفؤاده بصحبة الوجوه التي طالما شاطرها اللعب، والعراك، والحب، والكراهية، ورسمت جزءا من ذاكرة الأمس... ولكن المغترب يدرك في النهاية أنه وهم اما الحقيقة فهو الآن غريب شعر بأنه غير مرغوب فيه. سحب قدميه بهدوء وغادر المكان وهو مطأطئ الرأس، لكنه مصمم على فعل شيء.
في هذه القصة ندرك أن الوطن مفهوم تأملي يفترض المقارنة والاختلاف والمسافة. إنه مؤشر إلى شيء أصبح في الغربة غير واقعي، أو منسحبًا أو مفقودًا، ولا يأتي إلى التعبير والوعي إلا في هذه الجدلية من الشعور بالخسارة ومن الحنين والشوق.
ويلج القاص مهدي عبدالله عالم الحب بمعناه الواسع الحب بين الزوجين وحب الأولاد فيبدأ عرضه بقصة «اختبار» بزقزقة العصافير وتنتهي بمشاعر حب عميق حينما التقت عينه بعينها، اختلطت مشاعر الحب والخوف. كان شوقه شديدا لضمها إلى صدره وتقبيلها.
ويتبعها بقصة «أشواك التين» التي تتحدث عن حب اثقلته هموم الحياة والمتطلبات المالية.. ولكنه لم ينحن ويستمر في النظر الى المستقبل بأمل لا أريدها تتجرع الآلام وهي زهرة طرية. سأبذل كل ما أملك في سبيل سعادتها. وفي الحاج حسن حب الأب للولد الذي غاب ولن يعود ولكنه الحب ينبعث بولادة جديدة.. فيجيب الحاج حسن.. عن السؤال: هل اخترت له اسما؟ ويقول: وهل هناك اسم آخر؟
ومهدي عبدالله لا يجيب على الأسئلة فقط بل يطرحها أيضا وأحيانا بشكل مستتر مما يستفز عقل وضمير القارئ...ففي «ثمن الموت».. يقول ليدفعنا للتساؤل: كم هو ثمن الانسان؟ أنا الموقعة ادناه، السيدة فاطمة عبدالله محمد، تسلمت مبلغ سبعة آلاف دينار بحريني، وذلك تعويضا من شركة التأمين عن وفاة ولدي علي حسين جاسم البالغ من العمر أربعة عشر عاما في حادث سيارة بتاريخ 22/8/1988.
الحب الأمومي هو شعور يشكل رابطًا بين الصور البيولوجية والعائلية والتوقعات الاجتماعية والهوية. في الثقافة الشرقية تُنسب إلى الأم البيولوجية خصائص معينة، تُفهم على أنها تفاني وعطاء وتضحية بالنفس من أجل الطفل. ونجد هذا ينعكس على فهم المرأة عند مهدي عبدالله في قصصه هذه. ولكننا نجد في أماكن عديدة أنه لا يلزم الأنوثة حصريًا بصفات عاطفية معينة مثل الأمومة الطبيعية، بل نجد ان العواطف والحرص على العائلة تشمل الآباء أيضا، فلا يتم استبعاد الآباء من المسؤولية عن الرفاهية العاطفية للأطفال ولم يقدم لنا خطابا على أنه مهمة أنثوية فقط. وبهذا يحقق مهدي عبدالله مطالب تدعو إلى ترسيخ حب الوالدين في الخطاب الادبي والتقليل من شأن انفراد الانوثة بحب الأبناء. ونجد عند مهدي عبدالله ايضا طرحا يدعونا للتساؤل واعادة صياغة مفهوم الرجولة. ففي «خسوف القمر» يكتب: ربما كان يشعر بالداخل بنوع من النقص أشبه بالعيب لعدم قدرته على إنجاب طفل ذكر، وربما اعتبر ذلك خدشا لرجولته وفحولته... ويصدمنا مهدي عبدالله بنتيجة هذا المفهوم فيكتب: نعم، في هذه المرة تحققت الامنية، لكن المرأة رحلت دون رجعة.
الحب والوطن عند مهدي عبدالله يذهب إلى علاقة الإنسان بالبيئة، البيئة الطبيعية المحيطة مصدر حياة وعيش ورزق البشر، فيكتب في «الزمن الأصفر».. وفي يوم حزين ذهبت لوداع البستان المنكوب. قدمت الجرافة الملعونة، أنشبت انيابها في عمق الأرض واجتثت النخلة تلو النخلة من جذورها. حينها أحسست بشراييني تنقطع. ناديت الرجل أن يكف عن هذا العمل، توسلت اليه ثم سقطت مغشيا علي. ومنذ ذلك الحين اصبت بالشلل ولم أعد قادرا على أداء أي عمل.
يعكس مهدي عبدالله في قصصه مفهوم ملموسا للوطن بعيد عن الخيال، فالوطن ليس جغرافيا فقط بل هو بشر يتفاعلون مع الطبيعة المحيطة ويتكيفون للعيش في هذه البيئة ويقيمون علاقات الحب ويغتربون ويولدون ويموتون فيه منهم يؤدي الوفاء وفيهم من ينفر ويغش وفيه من يعاني الوحدة وفيه من يعطي الألفة ويمنح الحنان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك