العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

الثقافي

الأدب البحريني.. الوطن والحب في قصص جدحفصية للأديب والمترجم مهدي عبدالله

{ بقلم: رعد موسى الجبوري

السبت ٠٩ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

الأدب‭ ‬البحريني‭ ‬غني‭ ‬ففيه‭ ‬كتّاب‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بهم‭. ‬والبحرين‭ ‬غنية‭ ‬بالمحافل‭ ‬الأدبية‭ ‬والثقافية‭. ‬فسبق‭ ‬أن‭ ‬استضافت‭ ‬أسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬القاص‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬حول‭ ‬قصصه‭ (‬قصص‭ ‬جد‭ ‬حفصية‭) ‬مساء‭ ‬الأحد‭ ‬21‭ ‬يوليو‭ ‬2024‭. ‬وفي‭ ‬ختام‭ ‬الندوة‭ ‬قدم‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬إدارة‭ ‬الأسرة‭ ‬الدكتور‭ ‬راشد‭ ‬نجم‭ ‬شهادة‭ ‬تقديرية‭ ‬للكاتب،‭ ‬ثم‭ ‬استضاف‭ ‬مركز‭ ‬تمكين‭ ‬شباب‭ ‬جد‭ ‬حفص‭ ‬الكاتب‭ ‬ليقدم‭ ‬ايضا‭ ‬عن‭ ‬قصصه‭.‬

أسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬الزنج‭. ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬البديع‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬المنامة‭ ‬تظهر‭ ‬اشارة‭ ‬دلالية‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬سهم‭ ‬أزرق‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬جد‭ ‬حفص‭. ‬وإذا‭ ‬استدرت‭ ‬يسارا‭ ‬متبعا‭ ‬اتجاه‭ ‬الإشارة‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬البلدة‭ ‬وثم‭ ‬تجد‭ ‬على‭ ‬يسارك‭ ‬مبنى‭ ‬مركز‭ ‬تمكين‭ ‬شباب‭ ‬جد‭ ‬حفص،‭ ‬وهناك‭ ‬قدم‭ ‬الكاتب‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬‮«‬قصص‭ ‬جد‭ ‬حفصية‮»‬‭.‬

وهكذا‭ ‬تم‭ ‬تقديم‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الفضاء‭ ‬المكاني‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬الأحداث‭. ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬المكان‭ ‬افتراضيا‭ ‬بل‭ ‬واقعيا‭ ‬ملموسا‭. ‬ولم‭ ‬يجهد‭ ‬الكاتب‭ ‬بتقديم‭ ‬وصف‭ ‬تفصيلي‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬قصصه‭. ‬فعنوان‭ ‬المجموعة‭ ‬كان‭ ‬كافيا‭ ‬لوصف‭ ‬المكان‭ ‬وها‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المكان‭. ‬فكان‭ ‬المكان‭ ‬كموقع‭ ‬للحدث‭ ‬حاضرا‭ ‬دوما‭ ‬ويشكل‭ ‬الإطار‭ ‬الملموس‭ ‬لما‭ ‬جرى‭ ‬من‭ ‬أحداث‭. ‬شخصيات‭ ‬القصص‭ ‬طورت‭ ‬علاقات‭ ‬عاطفية‭ ‬خاصة‭ ‬بالمكان‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬يمثل‭ ‬تسلسلا‭ ‬زمنيا‭ ‬للأحداث،‭ ‬ولكن‭ ‬المكان‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬السائد‭. ‬

يلفت‭ ‬باختين‭ ‬انتباهنا‭ ‬بمفهومه‭ ‬‮«‬الكرونوتوب‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تمثيلهما‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬عن‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬ارتباط‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭. ‬ووفقاً‭ ‬لباختين،‭ ‬فإن‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬يشكلان‭ ‬عنصراً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬الرسمي‭ ‬للنوع‭ ‬الأدبي‭ ‬للسرد‭. ‬ولكن‭ ‬تم‭ ‬تطوير‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الفئات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬أيضًا‭ ‬داخل‭ ‬نظرية‭ ‬السرد،‭ ‬التي‭ ‬توضح‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ‬عنصر‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬العالم‭ ‬السردي،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬وظيفته‭ ‬كإعداد،‭ ‬يلعب‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬الحبكة،‭ ‬وتوصيف‭ ‬الشخصيات،‭ ‬والتفاوض‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬القيم‭ ‬ففي‭ ‬العالم‭ ‬الخيالي‭ ‬

تلعب‭ ‬مفاهيم‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬دورًا‭ ‬محوريًا‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬السرد‭ ‬وتؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬كيفية‭ ‬بناء‭ ‬القصص‭ ‬وإدراكها‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستخدام‭ ‬المتعمد‭ ‬للتسلسلات‭ ‬الزمنية‭ ‬والأوصاف‭ ‬المكانية،‭ ‬يخلق‭ ‬القاص‭ ‬عوالم‭ ‬فريدة‭ ‬ويأخذ‭ ‬القراء‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عميقة‭ ‬وعاطفية‭. ‬وعلينا‭ ‬ان‭ ‬نتذكر‭: ‬إن‭ ‬الاستخدام‭ ‬الماهر‭ ‬للزمان‭ ‬والمكان‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬للسرد‭ ‬المشوق‭ ‬والحيوي‭.‬

يتناول‭ ‬القصاصون‭ ‬والكتاب‭ ‬تجربة‭ ‬المكان‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭. ‬ولكن‭ ‬المكان‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬الوطن‭ (‬الذي‭ ‬تمثله‭ ‬البلدة‭) ‬للقاص‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭. ‬ومهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬له‭ ‬ارتباط‭ ‬وعشق‭ ‬خاص‭ ‬لهذا‭ ‬المكان‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬الارتباط‭ ‬الإيجابي‭ ‬بالوطن‭ ‬أمراً‭ ‬مسلماً‭ ‬به‭ ‬عند‭ ‬جميع‭ ‬الكتاب‭ ‬فهناك‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬الدنيا‭ ‬دار‭ ‬فناء‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬زوال‭ ‬وهذه‭ ‬الارض‭ ‬ليست‭ ‬موطننا‭. ‬ولكن‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬يبقى‭ ‬متمسكا‭ ‬بجد‭ ‬حفص‭ ‬وذكرياته‭ ‬وأهله‭ ‬فهي‭ ‬علاقته‭ ‬بالوطن‭ ‬الكبير‭ ‬البحرين‭. ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬يؤكد‭ ‬وجود‭ ‬أماكن‭ ‬يحافظ‭ ‬الإنسان‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬رابطة‭ ‬عاطفية‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭ ‬لأن‭ ‬تجارب‭ ‬الحياة‭ ‬الأساسية‭ ‬قد‭ ‬حدثت‭ ‬هناك‭ ‬وستبقى‭ ‬مهمة‭ ‬ولا‭ ‬تمحى‭ ‬وستستمر‭ ‬تشكل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬هويته‭ ‬الشخصية‭.‬

الوطن‭ ‬بصمة‭ ‬فردية‭ ‬وتستمر‭ ‬تشكلنا‭ ‬طوال‭ ‬حياتنا‭ ‬لأن‭ ‬الوعي‭ ‬بتطورنا‭ ‬الشخصي‭ ‬فيها‭ ‬متشابك‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬ينفصم‭ ‬مع‭ ‬تجربتنا‭ ‬للعالم‭. ‬وبالتالي‭ ‬فمسألة‭ ‬الوطن‭ ‬ترتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬بالتطور‭ ‬الفردي‭ ‬والأساس‭ ‬العاطفي‭ ‬لهوية‭ ‬الفرد‭. ‬لقد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬السكان‭ ‬يتحركون‭ ‬للداخل‭ ‬والخارج‭ ‬ويولدون‭ ‬ويموتون‭. ‬وكانت‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬النقل‭ ‬المكانية‭ ‬والزمانية‭. ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تعرف‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنازل‭ ‬والبيوت‭ ‬والدكاكين‭ ‬ومن‭ ‬سكنها،‭ ‬بعضهم‭ ‬عرفه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬طفلاً،‭ ‬وتمكن‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬رؤية‭ ‬البالغين‭ ‬الان‭ ‬كأطفال‭ ‬وسرد‭ ‬قصصهم‭ ‬وقصص‭ ‬عن‭ ‬والديهم‭ ‬الذين‭ ‬فارقو‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬فكان‭ ‬الوطن‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬ذاكرة‭ ‬عابرة‭ ‬للأجيال‭ ‬محددة‭ ‬مكانيًا‭ ‬بجد‭ ‬حفص‭ ‬وبوضوح‭ ‬وتشمل‭ ‬السياق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للقرى‭ ‬والمدينة،‭ ‬حيث‭ ‬يتمكن‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬ذكريات‭ ‬مدهشة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زاوية‭ ‬فيها‭. ‬فالوطن‭ ‬ظاهرة‭ ‬رنينية‭ ‬ترن،‭ ‬وهو‭ ‬المساحة‭ ‬المحددة‭ ‬بوضوح‭ ‬والتي‭ ‬يتأرجح‭ ‬فيها‭ ‬بندول‭ ‬الذكريات‭ ‬اللاإرادية‭. ‬فالوطن‭ ‬هو‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تسبح‭ ‬فيه‭ ‬الذاكرة‭ ‬وتعرف‭ ‬طريقها‭.‬

ومهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬لا‭ ‬يختزل‭ ‬الوطن‭ ‬بالفضاء‭ ‬والمساحات‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الوطن‮»‬‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬المكان‭. ‬فقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬كلمة‭ ‬امتصت،‭ ‬مثل‭ ‬الإسفنج،‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬والاهتزازات‭ ‬الثقافية‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يروي‭ ‬لنا‭ ‬قصص‭ ‬جد‭ ‬حفصية‭.‬

قد‭ ‬يعتبر‭ ‬البعض‭ ‬كلمة‭ ‬الوطن‭ ‬كلمة‭ ‬للاستهلاك‭ ‬والمجاملة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مأرب‭ ‬شخصية‭. ‬لكنها‭ ‬واضحة‭ ‬عند‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬وهي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هويته‭ ‬ومكونه‭ ‬العاطفي‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه‭. ‬فالوطن‭ ‬هو‭ ‬قصص‭ ‬الحب‭ ‬والبيئة‭ ‬وقصص‭ ‬الكفاح‭ ‬اليومي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭. ‬

وهكذا‭ ‬تشكل‭ ‬المفهوم‭ ‬ثقافياً‭ ‬وتجسد‭ ‬فردياً،‭ ‬وأصبح‭ ‬يشكل‭ ‬رابطاً‭ ‬مهماً‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬المجموعة‭.‬

حيث‭ ‬يسود‭ ‬الاستقرار‭ ‬الطبيعي‭ ‬طويل‭ ‬الأمد،‭ ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬تتعرض‭ ‬الاستمرارية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬لأي‭ ‬انقطاع‭ ‬مؤلم،‭ ‬فإن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الوطن‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬مباشرلا‭ ‬تكون‭ ‬ضرورية‭ ‬حقاً،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يملكه‭ ‬المرء‭ ‬ويحتضنه‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قضية‭. ‬يضع‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬بطرح‭ ‬النقيض‭ ‬ففي‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬المنفى‮»‬‭ ‬يأتي‭ ‬المغترب‭ ‬وكله‭ ‬حنين‭ ‬الى‭ ‬وطن‭ ‬استقر‭ ‬وتجمد‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬واحتفظ‭ ‬به‭ ‬بقفله‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬كما‭ ‬تحفظ‭ ‬الكنوز‭ ‬في‭ ‬الصناديق‭ ‬المؤمنة‭.. ‬يتوق‭ ‬في‭ ‬احيان‭ ‬كثيرة‭ ‬الى‭ ‬احضان‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تفيأ‭ ‬ظلالها‭ ‬وحفظت‭ ‬أقدامه‭ ‬طرقاتها‭ ‬وتشربت‭ ‬عروقه‭ ‬ترابها‭ ‬ويهفو‭ ‬كلما‭ ‬لاحت‭ ‬الفرصة‭ ‬لأن‭ ‬يملأ‭ ‬عينه‭ ‬وفؤاده‭ ‬بصحبة‭ ‬الوجوه‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬شاطرها‭ ‬اللعب،‭ ‬والعراك،‭ ‬والحب،‭ ‬والكراهية،‭ ‬ورسمت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأمس‭... ‬ولكن‭ ‬المغترب‭ ‬يدرك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬أنه‭ ‬وهم‭ ‬اما‭ ‬الحقيقة‭ ‬فهو‭ ‬الآن‭ ‬غريب‭ ‬شعر‭ ‬بأنه‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭. ‬سحب‭ ‬قدميه‭ ‬بهدوء‭ ‬وغادر‭ ‬المكان‭ ‬وهو‭ ‬مطأطئ‭ ‬الرأس،‭ ‬لكنه‭ ‬مصمم‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬شيء‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الوطن‭ ‬مفهوم‭ ‬تأملي‭ ‬يفترض‭ ‬المقارنة‭ ‬والاختلاف‭ ‬والمسافة‭. ‬إنه‭ ‬مؤشر‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬غير‭ ‬واقعي،‭ ‬أو‭ ‬منسحبًا‭ ‬أو‭ ‬مفقودًا،‭ ‬ولا‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬والوعي‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجدلية‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالخسارة‭ ‬ومن‭ ‬الحنين‭ ‬والشوق‭.‬

ويلج‭ ‬القاص‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬عالم‭ ‬الحب‭ ‬بمعناه‭ ‬الواسع‭ ‬الحب‭ ‬بين‭ ‬الزوجين‭ ‬وحب‭ ‬الأولاد‭ ‬فيبدأ‭ ‬عرضه‭ ‬بقصة‭ ‬‮«‬اختبار‮»‬‭ ‬بزقزقة‭ ‬العصافير‭ ‬وتنتهي‭ ‬بمشاعر‭ ‬حب‭ ‬عميق‭ ‬حينما‭ ‬التقت‭ ‬عينه‭ ‬بعينها،‭ ‬اختلطت‭ ‬مشاعر‭ ‬الحب‭ ‬والخوف‭. ‬كان‭ ‬شوقه‭ ‬شديدا‭ ‬لضمها‭ ‬إلى‭ ‬صدره‭ ‬وتقبيلها‭.‬

ويتبعها‭ ‬بقصة‭ ‬‮«‬أشواك‭ ‬التين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬اثقلته‭ ‬هموم‭ ‬الحياة‭ ‬والمتطلبات‭ ‬المالية‭.. ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬ينحن‭ ‬ويستمر‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬الى‭ ‬المستقبل‭ ‬بأمل‭ ‬لا‭ ‬أريدها‭ ‬تتجرع‭ ‬الآلام‭ ‬وهي‭ ‬زهرة‭ ‬طرية‭. ‬سأبذل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أملك‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬سعادتها‭. ‬وفي‭ ‬الحاج‭ ‬حسن‭ ‬حب‭ ‬الأب‭ ‬للولد‭ ‬الذي‭ ‬غاب‭ ‬ولن‭ ‬يعود‭ ‬ولكنه‭ ‬الحب‭ ‬ينبعث‭ ‬بولادة‭ ‬جديدة‭.. ‬فيجيب‭ ‬الحاج‭ ‬حسن‭.. ‬عن‭ ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬اخترت‭ ‬له‭ ‬اسما؟‭ ‬ويقول‭: ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬اسم‭ ‬آخر؟

ومهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬لا‭ ‬يجيب‭ ‬على‭ ‬الأسئلة‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬يطرحها‭ ‬أيضا‭ ‬وأحيانا‭ ‬بشكل‭ ‬مستتر‭ ‬مما‭ ‬يستفز‭ ‬عقل‭ ‬وضمير‭ ‬القارئ‭...‬ففي‭ ‬‮«‬ثمن‭ ‬الموت‮»‬‭.. ‬يقول‭ ‬ليدفعنا‭ ‬للتساؤل‭: ‬كم‭ ‬هو‭ ‬ثمن‭ ‬الانسان؟‭ ‬أنا‭ ‬الموقعة‭ ‬ادناه،‭ ‬السيدة‭ ‬فاطمة‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد،‭ ‬تسلمت‭ ‬مبلغ‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار‭ ‬بحريني،‭ ‬وذلك‭ ‬تعويضا‭ ‬من‭ ‬شركة‭ ‬التأمين‭ ‬عن‭ ‬وفاة‭ ‬ولدي‭ ‬علي‭ ‬حسين‭ ‬جاسم‭ ‬البالغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬سيارة‭ ‬بتاريخ‭ ‬22‭/‬8‭/‬1988‭.‬

الحب‭ ‬الأمومي‭ ‬هو‭ ‬شعور‭ ‬يشكل‭ ‬رابطًا‭ ‬بين‭ ‬الصور‭ ‬البيولوجية‭ ‬والعائلية‭ ‬والتوقعات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والهوية‭. ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الشرقية‭ ‬تُنسب‭ ‬إلى‭ ‬الأم‭ ‬البيولوجية‭ ‬خصائص‭ ‬معينة،‭ ‬تُفهم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تفاني‭ ‬وعطاء‭ ‬وتضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الطفل‭. ‬ونجد‭ ‬هذا‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬المرأة‭ ‬عند‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬في‭ ‬قصصه‭ ‬هذه‭. ‬ولكننا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬عديدة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يلزم‭ ‬الأنوثة‭ ‬حصريًا‭ ‬بصفات‭ ‬عاطفية‭ ‬معينة‭ ‬مثل‭ ‬الأمومة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬ان‭ ‬العواطف‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬العائلة‭ ‬تشمل‭ ‬الآباء‭ ‬أيضا،‭ ‬فلا‭ ‬يتم‭ ‬استبعاد‭ ‬الآباء‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬الرفاهية‭ ‬العاطفية‭ ‬للأطفال‭ ‬ولم‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬خطابا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مهمة‭ ‬أنثوية‭ ‬فقط‭. ‬وبهذا‭ ‬يحقق‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬مطالب‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬حب‭ ‬الوالدين‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الادبي‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬انفراد‭ ‬الانوثة‭ ‬بحب‭ ‬الأبناء‭. ‬ونجد‭ ‬عند‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬ايضا‭ ‬طرحا‭ ‬يدعونا‭ ‬للتساؤل‭ ‬واعادة‭ ‬صياغة‭ ‬مفهوم‭ ‬الرجولة‭. ‬ففي‭ ‬‮«‬خسوف‭ ‬القمر‮»‬‭ ‬يكتب‭: ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بالداخل‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬النقص‭ ‬أشبه‭ ‬بالعيب‭ ‬لعدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إنجاب‭ ‬طفل‭ ‬ذكر،‭ ‬وربما‭ ‬اعتبر‭ ‬ذلك‭ ‬خدشا‭ ‬لرجولته‭ ‬وفحولته‭... ‬ويصدمنا‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬بنتيجة‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬فيكتب‭: ‬نعم،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تحققت‭ ‬الامنية،‭ ‬لكن‭ ‬المرأة‭ ‬رحلت‭ ‬دون‭ ‬رجعة‭. ‬

الحب‭ ‬والوطن‭ ‬عند‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالبيئة،‭ ‬البيئة‭ ‬الطبيعية‭ ‬المحيطة‭ ‬مصدر‭ ‬حياة‭ ‬وعيش‭ ‬ورزق‭ ‬البشر،‭ ‬فيكتب‭ ‬في‭ ‬‮«‬الزمن‭ ‬الأصفر‮»‬‭.. ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬حزين‭ ‬ذهبت‭ ‬لوداع‭ ‬البستان‭ ‬المنكوب‭. ‬قدمت‭ ‬الجرافة‭ ‬الملعونة،‭ ‬أنشبت‭ ‬انيابها‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الأرض‭ ‬واجتثت‭ ‬النخلة‭ ‬تلو‭ ‬النخلة‭ ‬من‭ ‬جذورها‭. ‬حينها‭ ‬أحسست‭ ‬بشراييني‭ ‬تنقطع‭. ‬ناديت‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬توسلت‭ ‬اليه‭ ‬ثم‭ ‬سقطت‭ ‬مغشيا‭ ‬علي‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬اصبت‭ ‬بالشلل‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬أي‭ ‬عمل‭.  ‬

يعكس‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالله‭ ‬في‭ ‬قصصه‭ ‬مفهوم‭ ‬ملموسا‭ ‬للوطن‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الخيال،‭ ‬فالوطن‭ ‬ليس‭ ‬جغرافيا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بشر‭ ‬يتفاعلون‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬المحيطة‭ ‬ويتكيفون‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬ويقيمون‭ ‬علاقات‭ ‬الحب‭ ‬ويغتربون‭ ‬ويولدون‭ ‬ويموتون‭ ‬فيه‭ ‬منهم‭ ‬يؤدي‭ ‬الوفاء‭ ‬وفيهم‭ ‬من‭ ‬ينفر‭ ‬ويغش‭ ‬وفيه‭ ‬من‭ ‬يعاني‭ ‬الوحدة‭ ‬وفيه‭ ‬من‭ ‬يعطي‭ ‬الألفة‭ ‬ويمنح‭ ‬الحنان‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا