يشهد العالم تحولًا متسارعًا في مواقف بعض الدول الغربية تجاه القضية الفلسطينية، حيث بدأت تتعالى الأصوات المطالِبة بالاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، في ظل تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والضفة.
على الرغم من اعتراف 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة بفلسطين كدولة مستقلة، إلا أن الوضع الراهن المؤيد لإسرائيل، والذي استمر لعقود بين حكومات الاقتصادات الغربية الرائدة، لا يزال قائمًا، مع عدم اعتراف أي عضو من مجموعة الدول السبع الكبرى، ولا أي عضو غربي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رسميًا بوجود دولة فلسطينية مستقلة.
وقد تسبب الدمار الشامل، والغزو، والاحتلال، والتضييق المتعمد على المساعدات الإنسانية لغزة من قبل تحالف بنيامين نتنياهو المتطرف، في تغيير هذه الديناميكية صيف عام 2025، وإن جاء ذلك بعد 23 شهرًا من إلحاق معاناة هائلة بملايين المدنيين الفلسطينيين. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نيته اعتراف باريس بفلسطين للمرة الثانية، وذلك في 24 يوليو 2025، على أن يتم ذلك خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، وتبعه رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر، الذي أعلن بعد خمسة أيام عزم حكومة المملكة المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما لم توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار وتحقيق حل الدولتين.
وعزز هذا الزخم المتزايد إعلان رئيس الوزراء الكندي مارك كارني في 30 يوليو عن خطط حكومته للاعتراف بالدولة الفلسطينية أثناء دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان وزير الخارجية الكندي من بين ممثلي 15 دولة غربية الذين أعربوا مؤخرًا عن رغبتهم الجماعية في اعتراف أوسع. وأوضح جان نويل بارو، وزير الخارجية الفرنسي، أن اللقاء كان بهدف دعوة أولئك الذين لم يفصحوا عن رغبتهم في الاعتراف بالدولة الفلسطينية للانضمام إلينا.
وقد أكدت ملاك بن سلامة دبدوب، محاضرة في القانون بجامعة رويال هولواي في لندن، أن هذا يمثل خروجًا كبيرًا عن الإجماع الغربي المستمر منذ عقود بشأن تأجيل أي اعتراف بدولة فلسطينية إلى ما بعد مفاوضات الوضع النهائي.
وعلى الرغم من أن التوقعات تشير إلى أن أستراليا ونيوزيلندا هما الأكثر ترجيحًا للالتزام بالاعتراف بفلسطين، إلا أنه من غير المرجح أن تحذو ألمانيا وإيطاليا، عضوا مجموعة السبع، حذوهما. ومن المتوقع أيضًا أن يكون دور الولايات المتحدة أكثر تأثيرًا في المستقبل، حيث رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي رفض سابقًا إعلانات باريس ولندن، على إعلان كارني بالتهديد بمفاوضات تجارية قد تجلب عواقب وخيمة على الاقتصاد الكندي.
ومن ثم، إذا انضمت المزيد من الدول الغربية إلى الإجماع الدولي في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فمن المتوقع أن تصعد واشنطن ضغوطها – نيابة عن حكومة إسرائيل – لمنع ذلك.
وبعيد أقل من أسبوع من التزام ماكرون للمرة الثانية، وبعد يوم واحد فقط من إعلان ستارمر، تحدث كارني إلى الصحفيين عن التزام بلاده الطويل بحل الدولتين، بالإضافة إلى نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر، لأن السلطة الفلسطينية قد التزمت بقيادة الإصلاح الذي تشتد الحاجة إليه.
وتمامًا كما استجاب ماكرون وستارمر للدعوات المتزايدة للتحرك من قبل برلمانيين وقانونيين ومسؤولين سابقين وحقوقيين، قبل وقت قصير من إعلان كارني، فقد حثه ما يقرب من 200 سفير ودبلوماسي كندي سابق على أن يحذو حذو نظرائه، مؤكدين أن مثل هذا الإجراء لن يعزز فقط التزامنا طويل الأمد بتقرير مصير الشعب الفلسطيني، ولكن أيضًا رفضنا التام لأي مخطط لتهجير أو طرد الفلسطينيين من قبل إسرائيل.
وفي حين أعلنت لندن عن عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية ما لم يتخذ ائتلاف نتنياهو المتطرف، كما وصف ستارمر، خطوات جوهرية نحو السلام في الشرق الأوسط، بما في ذلك وقف إطلاق النار في غزة وعدم ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، وثق أندرو روث، من صحيفة الجارديان، كيف تمحورت مطالب كندا حول الفلسطينيين أنفسهم، أي إجراء السلطة الفلسطينية انتخابات في عام 2026 تُحظر فيها حركة حماس، بالإضافة إلى الموافقة على إصلاحات ديمقراطية أخرى.
وعطفًا على كون كندا ثالث دولة غربية تلتزم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأسبوع ذاته، فمن البديهي أن يطرح السؤال نفسه: ما هي الدولة التالية التي ستقتدي بهذا النهج؟ وكم عدد الدول التي لا تعترف حاليًا بفلسطين، والتي ستفعل ذلك بحلول نهاية الجمعية العامة القادمة؟
ويمكن رؤية تلك الدول التي يُحتمل التزامها بالبيان الصادر في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الذي استمر ثلاثة أيام حول فلسطين، والذي عُقد أواخر يوليو 2025، وأشارت إليه وسائل الإعلام الغربية باسم نداء نيويورك. فإلى جانب فرنسا وإسبانيا وجمهورية أيرلندا والنرويج وسلوفينيا، التي اعترفت جميعها بالدولة الفلسطينية أو عبرت عن التزامها بذلك، انضمت حكومات أستراليا وفنلندا وأيسلندا ونيوزيلندا والبرتغال إلى كندا في التأكيد على التزامها الراسخ برؤية حل الدولتين، واستعدادها أو اعتبارها الإيجابي لإقامة علاقات رسمية.
وفي حالة أستراليا، كتب جاكوب غريبر من هيئة الإذاعة الأسترالية أن الأمر أصبح مسألة متى وكيف تعترف أستراليا بالدولة الفلسطينية، حيث ورد أن رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، يمهد الطريق لتحول تاريخي، وإن كان لا يزال مترددًا في الالتزام الكامل. وفي تقييمه، أن هذا التردد نابع من الحذر من أن تكون مثل هذه الخطوة ذات مغزى وليست مجرد رمزية.
وتأمل دونالد روثويل، أستاذ القانون الدولي في الجامعة الوطنية الأسترالية، في دلالة إشارة الزخم المحلي والدولي إلى أن الاعتراف الأسترالي بفلسطين أصبح أمرًا لا مفر منه الآن.
مع ذلك، يظل احتمال انضمام بعض الدول الأوروبية الأخرى للاعتراف بدولة فلسطين غير مؤكد. ففي حالتي ألمانيا وإيطاليا، ذكرت صحيفة التايمز أن ممثلي هاتين الدولتين في بروكسل لا يزالون يعارضون اقتراح المفوضية الأوروبية القاضي باستبعاد إسرائيل من برامج العلوم والبحث في الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن رفضهم تعليق الترتيبات التجارية التفضيلية معها. وقد جادلت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بأن اعتراف حكومتها رسميًا بشيء غير موجود سيكون أمرًا عكسيًا.
في المقابل، انتقد هنري دونوفان، من مجلة ذا سبيكتاتور، ما وصفه بـالانقلاب الأخلاقي للمستشار الألماني فريدريش ميرز، على خلفية رد فعله المتهاون تجاه تدمير إسرائيل لقطاع غزة. كما أظهرت تعليقات وزير الخارجية الألماني، يوهان فادفول، أن بلاده تعتبر الاعتراف بدولة فلسطينية هو نهاية العملية، لا بدايتها، مما يعكس رفض برلين التنسيق مع حلفائها الأوروبيين، حتى مع إقراره بأن مثل هذه العملية يجب أن تبدأ الآن.
وعند النظر في إمكانية استمرار الزخم المتصاعد للاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، يبقى موقف الولايات المتحدة عاملًا مؤثرًا بشدة، إذ من المتوقع أن تسعى إدارة ترامب إلى ممارسة نفوذ سياسي واقتصادي أكبر على حلفائها لمنعهم من الانضمام إلى هذا التوجه الدولي.
فعندما جدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعهده بالاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة، ردّ ترامب بسخرية، معتبرًا أن تصريحات ماكرون لا تهم، وأن دعوته لبقية الدول لاتخاذ موقف مماثل لا تحمل أي وزن. أما فيما يخص المملكة المتحدة، فقد أنكر ترامب أنه ناقش المسألة مع رئيس الوزراء كير ستارمر خلال لقائهما في اليوم السابق، وأكد أنه ليس لديه رأي بشأن قرار الحكومة البريطانية.
وبالنسبة إلى تغيير سياسة كندا، فقد هدد الرئيس الأمريكي بإلغاء المفاوضات التجارية الجارية مع حكومة كارني، وكتب على منصته تروث سوشيال أن إعلان أوتاوا يجعل من الصعب على واشنطن المضي قدمًا في اتفاقية تجارية جديدة. وتماشيًا مع ما يُعرف برسوم يوم التحرير الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على العالم، حدّدت واشنطن مهلة تنتهي في الأول من أغسطس لإبرام اتفاقيات اقتصادية جديدة، مما يضع كندا أمام تهديدات محتملة بفرض رسوم جمركية بنسبة 35% على صادراتها إلى السوق الأمريكية، وهي أكبر أسواقها الخارجية.
ومع ارتفاع تهديدات الرسوم لبعض الدول الأخرى إلى 50%، تساءل ويليام لورانس، الدبلوماسي الأمريكي السابق والأستاذ في الجامعة الأمريكية بواشنطن، قائلًا: ماذا لو تبنى العالم أجمع نفس المطالب التي قدمتها بريطانيا لإسرائيل؟ وأجاب بأن ذلك سيُحدث تأثيرًا فعليًا على ترامب. إلا أن النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي تفرضه واشنطن على شركائها قد يُبطئ الزخم الدولي الداعم للاعتراف بفلسطين.
وقد أبرزت صحيفة نيويورك تايمز كيف أن اعتراف كل من فرنسا والمملكة المتحدة بالدولة الفلسطينية سيجعل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في مجلس الأمن الدولي التي لا تعترف بها. وعلى الرغم من هذا الوضع الاستثنائي، والذي وصفه بول آدامز من بي بي سي بأنه أقلية من شخص واحد، فإن إدارة ترامب تتبناه بفخر، إذ أصبح امتدادًا مباشرًا للسياسة الخارجية الإسرائيلية.
وأظهر أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في الولايات المتحدة أن نسبة الدعم الشعبي لحرب إسرائيل قد انخفضت إلى 32% فقط، أي بتراجع يزيد على 10% منذ سبتمبر 2024. وحتى عدد من أعضاء الكونجرس المحسوبين على تيار ترامب اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى، بدأوا الآن بإدانة ما وصفوه بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. ورغم هذا التحول، لا يزال ترامب يكرر المزاعم غير المثبتة التي يطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفريقه من المتشددين، منها أن اعتراف الدول الغربية بالدولة الفلسطينية يُعد مكافأة لحماس.
كما تستمر وزارة الخارجية الأمريكية في إلقاء اللوم على حركة حماس، معتبرة أن عنادها ورفضها إلقاء السلاح هو السبب في فشل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة. ورغم أن ويليام لورانس عبّر عن أمله بأن الجميع يتحرك الآن في الاتجاه الصحيح، سواء في الضغط على إسرائيل أو على الولايات المتحدة، فإن البيت الأبيض لا يزال مُصرًا على تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، حتى لو تعارض ذلك مع تطلعات الناخبين الأمريكيين أنفسهم.
وفي سابقة ليست جديدة، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض، الفيتو، في مجلس الأمن لإسقاط مشروع قرار يمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وذلك في أبريل 2024. ومن المتوقع أن تُصعّد إدارة ترامب تحركاتها الرامية إلى منع أي اعتراف إضافي بالدولة الفلسطينية من قِبل الدول الغربية.
ومع ذلك، فإن تقييم المواقف السياسية داخل هذه الدول يجب ألا يغفل السياق الأشمل. وكما أشارت دبدوب، فإن الدول الثلاث، فرنسا، بريطانيا، وكندا، التي أعلنت نيتها الاعتراف بفلسطين لم تُرفق هذا الاعتراف بأي خطوات ملموسة، سواء بفرض عقوبات على حكومة نتنياهو، أو وقف صادرات السلاح لإسرائيل، أو قطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية معها.
وبحسب دبدوب، فإن هذا الغياب للإجراءات المصاحبة يُظهر خطر أن يتحول الاعتراف إلى مجرد رمزية سياسية لا تُحدث أي فارق فعلي بالنسبة للملايين من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة العنف والقمع الإسرائيلي المتواصل.
رغم الزخم المتزايد نحو الاعتراف بفلسطين، فإن غياب خطوات عملية مصاحبة يهدد بتحويل هذه الاعترافات إلى مجرّد رموز سياسية، ما يفرض تساؤلات حقيقية حول مدى التزام المجتمع الدولي بإنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك