في الثامن عشر من يوليو 2025م، منح المجلس الأوروبي تفويضاً لبدء مفاوضات ثنائية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بهدف إبرام اتفاقيات شراكة استراتيجية شاملة، ويهدف هذا القرار إلى تأسيس إطار تعاون «طموح وحديث وفعال» - على حد وصف البيان - الأمر الذي يعزز العلاقات بين الجانبين في عدة مجالات تشمل السياسة الخارجية والأمن، والتجارة والاستثمار، والطاقة والمناخ، والتحول الرقمي، والتعليم والثقافة.
ومع أهمية ذلك القرار إلا أنه يثير العديد من التساؤلات من بينها :هل ستكون تلك الاتفاقيات الثنائية بديلاً لإطار الشراكة الشاملة بين الجانبين، والتي من أهدافها توقيع اتفاقية تجارة حرة منذ بدء المفاوضات بين الجانبين عام 1988م وحتى الآن؟ وما القيمة المضافة التي يمكن للاتحاد الأوروبي تقديمها ضمن تلك الشراكة، سواءً بشكل ثنائي أو حال التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة شاملة؟ وما التحديات التي تواجه تطور تلك الشراكة بشكل عام؟
وبدايةً يمكن التأكيد بأن قرار دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بدء الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي منذ عقودٍ مضت قد انطلق من عدة مزايا مهمة يتسم بها الاتحاد الأوروبي، مقارنةً بغيره من التكتلات الأخرى؛ منها القرب الجغرافي، وتأسس تلك الشراكة على قاعدة الكل مقابل الكل، بالإضافة إلى اتساق نهج الجانبين تجاه كيفية حل الصراعات الإقليمية والدولية وذلك من خلال الوسائل السلمية.
توجت تلك الشراكة بإعلان الاتحاد الأوروبي «وثيقة الشراكة الاستراتيجية مع الخليج» في مايو عام 2022م، والتي احتوت على الكثير من مجالات التعاون، فضلاً عن انعقاد أول قمة خليجية-أوروبية في بروكسيل في أكتوبر 2024م، بالإضافة إلى انعقاد حوارين حول الأمن الإقليمي بين الجانبين في شهري يناير وأبريل من عام 2025م؛ وجميعها آليات مهمة اتخذت شكلاً مؤسسياً لمسار تلك الشراكة، بين طرفين لديهما حرص كبير على تطويرها والانتقال بها نحو آفاق أرحب.
ومع أهمية تلك الأطر، وبافتراض نجاح دول الخليج في إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي، في تقديري أن توقيع اتفاقية شاملة للتجارة الحرة بين دول الخليج والاتحاد الأوروبي يعد هدفا مهما لثلاثة أسباب، أولها: أنه من الأفضل لدول الخليج أن تكون شراكتها مع الاتحاد الأوروبي جماعية، حيث يعزز ذلك من القدرات التفاوضية لدول الخليج مع المنظمة الأوروبية المهمة وثانيها: الدور المتنامي الذي يؤديه الاتحاد الأوروبي تجاه تهديدات الأمن الإقليمي، منها تهديدات الأمن البحري، حيث لدى الاتحاد الآن ثلاث بعثات للأمن البحري، في أبوظبي والقرن الإفريقي والبحر الأحمر؛ وثالثها: أن بعض دول الخليج العربي لديها شراكات مع حلف شمال الأطلسي «الناتو» ضمن مبادرة إسطنبول، وهناك 23 دولة أوروبية تتداخل عضويتها بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ولا شك أن شراكات دول الخليج العربي الدولية مع الأطراف المختلفة تحقق لها ما يمكن أن نطلق عليه «القيمة المضافة»، والتي لا تقتصر على الأبعاد الأمنية والعسكرية فحسب -رغم أهميتها- فبعض دول الاتحاد الأوروبي لم تكن بعيدة عن المشاركة في جهود مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي، سواءً خلال حرب الناقلات ضمن الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات، أو خلال حرب تحرير دولة الكويت عام 1991م. صحيحٌ أن صدور قرارات جماعية من الاتحاد الأوروبي حول مثل تلك المشاركات يواجه بعض القيود أحياناً، وهو ما حدث خلال بعض الأزمات، لكن في نهاية المطاف كانت هناك مشاركات أوروبية مهمة، بالإضافة إلى إمكانية مناقشة كيفية استفادة دول الخليج العربي من الاستراتيجيات التي أصدرها الاتحاد الأوروبي حول الذكاء الاصطناعي والأمن البحري، وكذلك ما يتعلق بقضايا التغير المناخي والبيئة، لأنها تعد خارطة طريق جماعية للتعامل مع تلك القضايا التي تعد تحديات لدول الخليج العربي في الوقت ذاته، بل يمكن أن يكون هناك تنسيق بين الجانبين في المحافل الدولية التي تستهدف مناقشة تلك القضايا، من بينها جهود بعض دول العالم لصياغة اتفاقية دولية أو تأسيس منظمة دولية معنية بحوكمة الذكاء الاصطناعي.
ومع أهمية تطور الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي - التي اتخذت أشكالاً مؤسسية عديدة وتشهد اجتماعات منتظمة، بل وأسفرت عن نتائج مهمة على الصعد الرسمية والشعبية، مما يعكس إصراراً من الجانبين على استمرار الشراكة وتطورها - إلا أن الأمر لا يخلو من عقبات أو بالأحرى تحديات، أهمها في تقديري أنه لم يعد هناك رفاهية الانتظار، فهناك تنافس دولي على منطقة الخليج العربي، وهي أكثر مناطق العالم التي استقبلت مبادرات وشراكات من أطراف دولية، ومن ثم يفرض ذلك على الاتحاد الأوروبي ليس فقط سرعة إبرام تلك الاتفاقيات، سواءً بشكلٍ فردي أو كمنطقة تجارة حرة بل يجب أن تتضمن مزايا لدول الخليج العربي، والتي تقوم جميعها بتنفيذ رؤى اقتصادية طموحة من بين أهدافها جذب الاستثمارات الأجنبية، من ناحية ليس بالضرورة أن تكون أولويات الجانبين واحدة خاصةً فيما يتعلق بالأمن الإقليمي، أو بالأحرى أن تتطابق سبل مقاربة التهديدات، ولكن على الأقل يتم وضع قائمة بالتهديدات التي تمثل بعضها مخاطر مشتركة، ومنها على سبيل المثال استمرار الصراعات الإقليمية في اليمن وسوريا ولبنان، وعدم إيجاد حل للقضية الفلسطينية، لأن المزيد من تهديدات الأمن الإقليمي يعني تهديداً مشتركاً، حيث توجد قضايا تتقاطع عندها مصالح الطرفين بوضوح، في مقدمتها الأمن البحري والانتشار النووي وإساءة استخدام المليشيات للتكنولوجيا العسكرية، وهو ما يفرض ليس فقط التوافق حول تلك القضايا بل الاستعداد لمواجهة تهديداتها في الوقت الراهن وعلى المدى البعيد.
وفي تصوري شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات نوعية نحو مأسسة الشراكة الخليجية-الأوروبية، لكن ترجمة تلك المؤسسات إلى واقع تحتاج إلى جهود عديدة، بغض النظر عن رؤية الطرفين لتنفيذ الشراكة بشكل ثنائي أو ضمن إطار جماعي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية في «مركز دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك