لقد ظلت إسرائيل تسعى بكل السبل وبكل عدوانية إلى تنفيذ خطط تهدف إلى تشكيل مستقبل فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط على نطاق أوسع، وترسم رؤيتها لما بعد حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
ولا شك أن هذا التكرار الغريب والأحدث لهذه الاستراتيجية العدوانية يقترح تجزئة كامل الضفة الغربية المحتلة إلى ما يسمى «إمارات»، بدءًا بـما يسمى «إمارة الخليل».
لقد ظهر هذا التحول غير المتوقع في بحث إسرائيل المطول عن قيادة فلسطينية بديلة لأول مرة في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، المؤيدة بشدة لإسرائيل، وسرعان ما تصدرت عناوين جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية.
يتضمن التقرير تفاصيل رسالة من شخص وصفته صحيفة وول ستريت جورنال بأنه «زعيم أقوى عشيرة في الخليل». لقد وُجّهت الرسالة من الشيخ وديع الجعبري إلى نير بركات، رئيس بلدية القدس الإسرائيلي السابق، داعيةً إلى «التعاون مع إسرائيل» باسم «التعايش».
هذا «التعايش»، بحسب «زعيم العشيرة»، سيتجسد في «إمارة الخليل». هذه «الإمارة» ستعترف بدولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، مقابل اعتراف متبادل بـ«إمارة الخليل كممثلة للسكان العرب في قضاء الخليل».
قد تبدو القصة مزعجة ومُحيّرة، ذلك أن الخطاب الفلسطيني، بغض النظر عن انتماءاته الجغرافية أو السياسية، لم يرَ قطّ مفهومًا سخيفًا مثل مفهوم «إمارات» الضفة الغربية الموحدة.
ومن مظاهر العبث الأخرى أن الهوية الوطنية الفلسطينية واعتزازها بصمود شعبها الثابت، وخاصة في قطاع غزة، بلغا ذروة غير مسبوقة. إن طرح مثل هذه البدائل العشائرية للقيادة الفلسطينية الشرعية يبدو خاطئًا ومصيره الفشل الذريع.
لقد تجلى يأس إسرائيل بشكل واضح. ففي قطاع غزة، لا تستطيع هزيمة حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى التي قاومت الاستيلاء الإسرائيلي على القطاع مدة 21 شهرًا، وقد انهارت كل محاولات هندسة قيادة فلسطينية بديلة هناك تمامًا.
ولا شك أن هذا الفشل الذريع قد دفع إسرائيل إلى تسليح وتمويل عصابة إجرامية كانت تعمل قبل تاريخ 7 أكتوبر 2023 في قطاع غزة. هذه العصابة تعمل بقيادة ياسر أبو شباب.
لقد تورطت هذه العصابة في سلسلة من الأعمال العنيفة، منها سرقة المساعدات الإنسانية لإدامة المجاعة في غزة، وارتكاب أعمال عنف مرتبطة بتوزيع المساعدات، من بين جرائم شنيعة أخرى.
وعلى غرار زعيم عشيرة الخليل، لا تتمتع عصابة أبو شباب الإجرامية بأي شرعية أو دعم شعبي بين الفلسطينيين. ولكن لماذا تلجأ إسرائيل إلى مثل هذه الشخصيات المشينة، في حين أن السلطة الفلسطينية، المنخرطة بالفعل في «تنسيق أمني» مع إسرائيل في الضفة الغربية، مستعدة ظاهريًا للتعاون؟
يكمن الجواب في رفض الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية القاطع الاعتراف بالفلسطينيين كشعب. وبالتالي، فإن وجود كيان وطني فلسطيني متعاون سيُشكل معضلة شائكة من وجهة نظر إسرائيلية.
وفي حين أن حكومة بنيامين نتنياهو ليست أول قيادة إسرائيلية تستكشف البدائل القائمة على العشائر بين الفلسطينيين، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائه المتطرفين عازمون بشكل استثنائي على تفكيك أي مطالبة فلسطينية بوضع الوطن.
وقد صرّح بذلك صراحةً وعلى الملأ وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إذ إنه أعلن في باريس، في شهر مارس 2023، زاعمًا أن الدولة الفلسطينية مجرد «اختراع».
وهكذا، ورغم استعداد السلطة الفلسطينية للتعاون مع إسرائيل في السيطرة على قطاع غزة، لا تزال إسرائيل تشعر بالقلق المتزايد. إن تمكين السلطة الفلسطينية كنموذج وطني يتعارض جوهريًا مع أهداف إسرائيل الشاملة المتمثلة في حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في إقامة دولة، وبالتالي، حقه في إقامة دولة ذات سيادة.
ورغم أن إسرائيل قد فشلت باستمرار في إقامة ودعم قيادة فلسطينية بديلة خاصة بها، فإن جهودها المتكررة أثبتت في كل الأحوال أنها مدمرة وعنيفة ومضرة بالفلسطينيين.
وقبل حدوث نكبة عام 1948، بذلت الحركة الصهيونية، إلى جانب السلطات البريطانية المستعمرة لفلسطين، جهودًا حثيثة لتقويض الهيئة العربية العليا، وهي هيئة وطنية تضم عدة أحزاب سياسية، وقد حققت ذلك من خلال تمكين العشائر المتعاونة معها، على أمل إضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية.
وعندما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967، عادت إلى نفس سياسة «فرّق تسد». على سبيل المثال، أنشأت إسرائيل قوة شرطة فلسطينية بقيادة مباشرة من الإدارات العسكرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى إنشاء شبكة سرية من المتعاونين.
وفي أعقاب الانتصار الساحق الذي حققه المرشحون الوطنيون في انتخابات عام 1976 في فلسطين المحتلة، ردت إسرائيل بشن حملة قمع ضد السياسيين المنتمين إلى منظمة التحرير الفلسطينية، واعتقال بعضهم وترحيلهم واغتيالهم.
بعد عامين، وفي عام 1978، أطلقت إسرائيل مشروع «روابط القرى» ضمن استراتيجيتها الرامية إلى تفكيك الهوية الفلسطينية، حيث اختارت بعناية شخصيات تقليدية مطيعة، واعتبرتهم الممثلين الشرعيين للفلسطينيين.
وكان هؤلاء الأفراد المسلحون والمحميون والممولون من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي قد تم تعيينهم لتمثيل عائلاتهم في الخليل وبيت لحم ورام الله وغزة وأماكن أخرى. لقد استنكرهم الفلسطينيون فورًا باعتبارهم متعاونين، وقُوطِعوا على نطاق واسع ووجدوا أنفسهم منبوذين اجتماعيًا.
وفي نهاية المطاف، اتضح أن إسرائيل لم يكن أمامها خيار سوى التعامل المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية. وتُوِّج هذا باتفاقات أوسلو عام 1993، وما تلاها من تشكيل السلطة الفلسطينية.
ولكن المشكلة الأساسية ظلت قائمة في وجه الحكومات الإسرائيلية إذ يظل إصرار السلطة الفلسطينية على إقامة دولة فلسطينية بمثابة لعنة على إسرائيل التي تحولت بشكل كبير نحو اليمين.
لا شك أن هذا المعطى يُفسر إصرار حكومة نتنياهو الراسخ على عدم وجود أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة في أي سيناريو «لليوم التالي». وبينما قد تخدم السلطة الفلسطينية مصلحة إسرائيل في احتواء القطاع المتمرد، فإن انتصارًا كهذا سيُعيد حتمًا النقاش حول الدولة الفلسطينية – وهو مفهومٌ يؤرق معظم الإسرائيليين ويقض مضجعهم.
لا شك أنه لا عصابة أبو شباب ولا إمارة الخليل ستحكم الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية. إلا أن إصرار إسرائيل على اختلاق هذه البدائل يؤكد عزمها التاريخي على حرمان الفلسطينيين من أي شعور بالانتماء الوطني.
إن أوهام إسرائيل المُستمرة بالسيطرة تمنى دائما بالفشل الذريع. ورغم جراحهم العميقة، فإن الفلسطينيين أكثر توحدًا من أي وقت مضى، وقد رسخت مقاومتهم الدؤوبة وتضحياتهم التي لا تُحصى هويتهم الجماعية وانتماءهم الوطني.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك