العدد : ١٧٢٩٧ - الجمعة ٠١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٧ - الجمعة ٠١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

ثورة يوليو في التاريخ

بقلم: د. عصام عبدالفتاح

الاثنين ٢٨ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

ثمة‭ ‬خطأ‭ ‬كبير‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬عندما‭ ‬يقرأون‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬ليشكلوا‭ ‬آراءهم‭ ‬حولها‭ ‬ويصدروا‭ ‬أحكامهم‭ ‬فيها‭ ‬وهو‭ ‬خطأ‭ ‬يتحرز‭ ‬منه‭ ‬المؤرخون‭ ‬عندما‭ ‬يدرسون‭ ‬الوثائق‭ ‬ويحللون‭ ‬نصوصها‭ ‬لفهم‭ ‬مجريات‭ ‬الأحداث‭ ‬واستجلاء‭ ‬دلالاتها‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬سياقاتها‭ ‬المختلفة،‭ ‬إنه‭ ‬خطأ‭ ‬‮«‬الإسقاط‮»‬‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬الباحث‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬ماضية‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬مفاهيم‭ ‬ومقولات‭ ‬معاصرة‭ ‬وثيقة‭ ‬الصلة‭ ‬بفضائه‭ ‬الفكري‭ ‬المعاصر‭.‬

‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬يسميه‭ ‬علماء‭ ‬الدلالة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭: ‬‮«‬زلة‭ ‬المستقبل‭ ‬السابق‮»‬‭. ‬فمثلا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يرى‭ ‬مؤرخون‭ ‬أن‭ ‬استحضار‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬عربي‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬‮١٩‬‭ ‬يعد‭ ‬خطأ‭ ‬تاريخيا‭ ‬فادحا‭. ‬لأن‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬تشكل‭ ‬لديها‭ ‬بعد‭ ‬الوعي‭ ‬بذاتها‭ ‬‮«‬كشعب‭ ‬عربي‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬بزوغ‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬وحدث‭ ‬ذلك‭ ‬تدريجيا‭ ‬بسبب‭ ‬اتصال‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬بالحضارة‭ ‬الغربية‭. ‬

‭ ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬آلية‭ ‬الإسقاط‭ ‬الذاتي‭ ‬على‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬هي‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬يعترض‭ ‬القراءة‭ ‬الموضوعية‭ ‬للماضي،‭ ‬لكنها‭ ‬تفسر‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭ ‬اختلاف‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬أحكامهم‭ ‬على‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬خلال‭ ‬العصر‭ ‬الواحد‭ ‬أو‭ ‬العصور‭ ‬المختلفة‭.‬

وقد‭ ‬درس‭ ‬‮«‬أرسطو‮»‬‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬أحكام‭ ‬الأشخاص‭ ‬على‭ ‬الأشياء‭ ‬تحت‭ ‬اصطلاح‭ ‬‮«‬Topoï‮»‬‭ ‬أي‭ ‬المواضع‭ ‬المشتركة‭. ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬تعد‭ ‬بمثابة‭ ‬إطارات‭ ‬ذهنية‭ ‬تتبلور‭ ‬فيها‭ ‬الأحكام‭ ‬الذاتية‭. ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬تتغير‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬نمو‭ ‬الإنسان‭ ‬فأحكامه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬المراهقة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬أحكامه‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬النضج‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تتغير‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الشيخوخة‭. ‬ومن‭ ‬أقوى‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬تغير‭ ‬القيم‭ ‬عامل‭ ‬المصلحة‭ ‬والمنفعة‭.‬

لننظر‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬أحكام‭ ‬يصدرها‭ ‬نقاد‭ ‬ومفكرون‭ ‬على‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬‮١٩٥٢‬‭. ‬ينعت‭ ‬بعضهم‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬‮«‬بالانقلاب‮»‬‭ ‬لكي‭ ‬ينزع‭ ‬عنها‭ ‬صفتي‭ ‬‮«‬الحركة‭ ‬الشعبية‮»‬‭ ‬و‮«‬الشرعية‮»‬‭ ‬ويرفض‭ ‬وصفها‭ ‬بثورة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أيدها‭ ‬الشعب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وتلاحم‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬قاموا‭ ‬بها‭. ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬سدد‭ ‬سهام‭ ‬عدائيته‭ ‬بضراوة‭ ‬للثورة‭ ‬وارتبطت‭ ‬أحكامه‭ ‬بما‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬مصالحه‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬أضرار‭ ‬جمة‭ ‬كأن‭ ‬ملكيته‭ ‬لأرض‭ ‬زراعية‭ ‬قد‭ ‬انتزعت‭ ‬منه‭ ‬إثر‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي‭ ‬فأورد‭ ‬حججا‭ ‬تبين‭ ‬مثالب‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي،‭ ‬كما‭ ‬تأكدت‭ ‬مصداقيتها‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬سببا‭ ‬لما‭ ‬حل‭ ‬بالأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬ومحصولاتها‭ ‬من‭ ‬سلبيات‭ ‬جراء‭ ‬تقطيع‭ ‬الأراضي‭ ‬وتفتت‭ ‬قيمتها‭.‬

وثمة‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬وجود‭ ‬أخطاء‭ ‬في‭ ‬التقديرات‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬وقوع‭ ‬هزيمة‭ ‬أعام‭ ‬1967‭. ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬‮«‬عملا‭ ‬متسرعا‮»‬‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لحق‭ ‬بالجنيه‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬التأميم‭ ‬بتراجع‭ ‬قيمته‭ ‬الشرائية،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ملاحظات‭ ‬نقدية‭ ‬يمكن‭ ‬توجيهها‭ ‬تجاه‭ ‬أي‭ ‬تجربة‭ ‬تاريخية‭.‬

وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬الفريق‭ ‬السابق‭ ‬ثمة‭ ‬أحكام‭ ‬مغايرة‭ ‬تماما‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬أحداث‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬ونتائجها،‭ ‬وهي‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬ومقولات‭ ‬جوهرية‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الثورة‭. ‬فمصر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بمقدور‭ ‬قواها‭ ‬الوطنية‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تحررها‭ ‬من‭ ‬الوصاية‭ ‬البريطانية‭ ‬لتمنحها‭ ‬استقلالها،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬المناخ‭ ‬السياسي‭ ‬الفاسد‭ ‬وقتئذ‭ ‬قوة‭ ‬وطنية‭ ‬مؤهلة‭ ‬لإحداث‭ ‬التغيير‭ ‬الثوري‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬سوى‭ ‬قوة‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬لضعف‭ ‬أحزابها‭ ‬السياسية‭ ‬وتصادم‭ ‬مصالحها‭ ‬وفق‭ ‬إيديولوجياتها‭ ‬المتعارضة‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬في‭ ‬‮٢٦‬‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬‮١٩٥٦‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬مفر‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رفض‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬والبيت‭ ‬الأبيض‭ ‬الأمريكي‭ ‬تمويل‭ ‬مشروع‭ ‬بناء‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭.‬

وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬المصري‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تابعا‭ ‬للاحتكارات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الأجنبية‭ ‬وتسيطر‭ ‬عليه‭ ‬قلة‭ ‬معدودة‭ ‬وكانت‭ ‬نسبة‭ ‬البطالة‭ ‬بين‭ ‬المصريين‭ ‬حوالي‭ ‬‮٤٦‬‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬وآخر‭ ‬ميزانية‭ ‬للدولة‭ ‬عام‭ ‬‮١٩٥٢‬‭ ‬أظهرت‭ ‬عجزا‭ ‬قدره‭ ‬‮٣٩‬‭ ‬مليون‭ ‬جنيه،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬نسبة‭ ‬مخصصة‭ ‬لمشروعات‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬مطلقا‭.‬

وبلغت‭ ‬نسبة‭ ‬الفقر‭ ‬والأمية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮٩٠‬‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬كما‭ ‬بلغت‭ ‬نسبة‭ ‬المصابين‭ ‬بالبلهارسيا‭ ‬‮٤٥‬‭ ‬بالمائة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدور‭ ‬الأغلبية‭ ‬الكاسحة‭ ‬من‭ ‬المصريين‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬الأمية‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬التعليم‭ ‬فجاءت‭ ‬الثورة‭ ‬لتقرر‭ ‬مجانية‭ ‬التعليم‭ ‬لهم‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬صفوفهم‭ ‬رموز‭ ‬فكرية‭ ‬وسياسية‭ ‬بارزة‭ ‬بفضل‭ ‬التعليم‭ ‬المجاني‭. ‬

هكذا‭ ‬سيظل‭ ‬اختلاف‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الثورات‭ ‬الكبرى‭ ‬قانونا‭ ‬حتميا‭ ‬لاتصاله‭ ‬الوثيق‭ ‬بطبيعة‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيمه‭ ‬التي‭ ‬تتشكل‭ ‬وفق‭ ‬موقعه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والاقتصادي‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي

‭ ‬بكلية‭ ‬الٱداب‭ ‬‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا