ثمة خطأ كبير يقع فيه بعض الباحثين عندما يقرأون الأحداث التاريخية ليشكلوا آراءهم حولها ويصدروا أحكامهم فيها وهو خطأ يتحرز منه المؤرخون عندما يدرسون الوثائق ويحللون نصوصها لفهم مجريات الأحداث واستجلاء دلالاتها العميقة في سياقاتها المختلفة، إنه خطأ «الإسقاط» أي أن يسقط الباحث على فترات ماضية من التاريخ مفاهيم ومقولات معاصرة وثيقة الصلة بفضائه الفكري المعاصر.
هذا الخطأ الكلاسيكي يسميه علماء الدلالة في أوروبا: «زلة المستقبل السابق». فمثلا في تاريخ العالم العربي يرى مؤرخون أن استحضار وجود «شعب عربي» قبل ظهور حركة النهضة العربية في القرن ١٩ يعد خطأ تاريخيا فادحا. لأن شعوب المنطقة لم يكن قد تشكل لديها بعد الوعي بذاتها «كشعب عربي» إلا بعد بزوغ حركة النهضة وحدث ذلك تدريجيا بسبب اتصال عصر النهضة بالحضارة الغربية.
والواقع أن آلية الإسقاط الذاتي على الحدث التاريخي هي أخطر ما يعترض القراءة الموضوعية للماضي، لكنها تفسر لنا في المجال الأدبي والفني اختلاف النقاد في أحكامهم على الأعمال الفنية خلال العصر الواحد أو العصور المختلفة.
وقد درس «أرسطو» القيم التي تتحكم في تشكيل أحكام الأشخاص على الأشياء تحت اصطلاح «Topoï» أي المواضع المشتركة. هذه القيم تعد بمثابة إطارات ذهنية تتبلور فيها الأحكام الذاتية. وكثيرا ما تتغير في مراحل نمو الإنسان فأحكامه في فترة المراهقة تختلف عن أحكامه في مرحلة النضج التي قد تتغير في مرحلة الشيخوخة. ومن أقوى العوامل التي تتحكم في تغير القيم عامل المصلحة والمنفعة.
لننظر مثلا في أحكام يصدرها نقاد ومفكرون على ثورة يوليو ١٩٥٢. ينعت بعضهم هذه الثورة «بالانقلاب» لكي ينزع عنها صفتي «الحركة الشعبية» و«الشرعية» ويرفض وصفها بثورة حتى لو أيدها الشعب بعد ذلك وتلاحم مع من قاموا بها. وهناك من سدد سهام عدائيته بضراوة للثورة وارتبطت أحكامه بما تعرضت له مصالحه الذاتية من أضرار جمة كأن ملكيته لأرض زراعية قد انتزعت منه إثر الإصلاح الزراعي فأورد حججا تبين مثالب الإصلاح الزراعي، كما تأكدت مصداقيتها في المستقبل فقد كان سببا لما حل بالأراضي الزراعية ومحصولاتها من سلبيات جراء تقطيع الأراضي وتفتت قيمتها.
وثمة من يرى وجود أخطاء في التقديرات السياسية والعسكرية أدت إلى وقوع هزيمة أعام 1967. وهناك من يرى في تأميم قناة السويس «عملا متسرعا» استنادا إلى ما لحق بالجنيه المصري من آثار خلال الأشهر الأربعة التي أعقبت التأميم بتراجع قيمته الشرائية، وغير ذلك من ملاحظات نقدية يمكن توجيهها تجاه أي تجربة تاريخية.
وعلى النقيض من الفريق السابق ثمة أحكام مغايرة تماما في تقييم أحداث ثورة يوليو ونتائجها، وهي بلا شك تستند إلى قيم ومقولات جوهرية مختلفة في الحكم على الثورة. فمصر ما كان بمقدور قواها الوطنية المسيطرة على الساحة فيها أن تحررها من الوصاية البريطانية لتمنحها استقلالها، كما لم يكن في المناخ السياسي الفاسد وقتئذ قوة وطنية مؤهلة لإحداث التغيير الثوري في تاريخها سوى قوة الجيش المصري لضعف أحزابها السياسية وتصادم مصالحها وفق إيديولوجياتها المتعارضة.
كما أن تأميم قناة السويس في ٢٦ يوليو عام ١٩٥٦ لم يكن هناك مفر منه بعد أن رفض البنك الدولي والبيت الأبيض الأمريكي تمويل مشروع بناء السد العالي على نهر النيل.
وفيما يتعلق بالاقتصاد المصري قبل ثورة يوليو، فقد كان تابعا للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية وتسيطر عليه قلة معدودة وكانت نسبة البطالة بين المصريين حوالي ٤٦ في المائة وآخر ميزانية للدولة عام ١٩٥٢ أظهرت عجزا قدره ٣٩ مليون جنيه، ولم تكن هناك أي نسبة مخصصة لمشروعات البنية التحتية مطلقا.
وبلغت نسبة الفقر والأمية أكثر من ٩٠ بالمائة من الشعب المصري كما بلغت نسبة المصابين بالبلهارسيا ٤٥ بالمائة. ولم يكن بمقدور الأغلبية الكاسحة من المصريين التي تعاني كلها من الأمية أن تحصل على التعليم فجاءت الثورة لتقرر مجانية التعليم لهم وخرجت من صفوفهم رموز فكرية وسياسية بارزة بفضل التعليم المجاني.
هكذا سيظل اختلاف البشر في الحكم على الثورات الكبرى قانونا حتميا لاتصاله الوثيق بطبيعة الإنسان وقيمه التي تتشكل وفق موقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الٱداب – جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك