في التاسع من فبراير 2025 نشرتُ مقالاً من خلال هذه الصفحة بعنوان (الركون إلى الراحة ونموذج التعلم والنمو الشخصي)، وفي الحقيقة لقد حظي المقال بردود فعل جميلة وعديدة على مستوى الوطن العربي وخاصة عند المختصين في مجالات التنمية البشرية وتطوير الذات وما إلى ذلك.
وطلب مني عدد من الإخوة والأخوات المختصين استكمال المقال وذلك بالكتابة أو وضع دليل مصغر لكيفية الخروج من منطقة الراحة، ولكني أجلت الموضوع كل هذه الفترة نظرًا إلى كثرة الموضوعات وتنوعها، وبعضها يهتم بالشأن العربي وما إلى ذلك، ولكن اليوم قررت بالفعل أن استكمل هذه الدراسة وهذا الدليل المصغر، لنتحدث عن الكيفية العملية للخروج من منطقة الراحة.
لقد عرفنّا منطقة الراحة (comfort zone) في المقال السابقة على أنها حالة سلوكية يمارسها الإنسان بلا توتر أو خطر، بسبب اعتياده على ممارستها ضمن إطار روتيني محدد بعيدًا عن التغييرات التي قد تجلب الخطر النفسي لصاحبها. فهي الحالة التي تعطي المرء شعورًا بالراحة النفسية والأمان من جهة، ولكنها تبعده عن الطموح والسعي وراء أحلامه والتقدم والإبداع من جهة أخرى، ينتج عن هذا التكيّف الذهني شعور بالأمان والراحة.
وقلنا إنه يعتقد العلماء أن البقاء في منطقة الراحة يمكن أن يكون ناتجًا عن عوامل عدة مثل الخوف من التغيير، العادات المكتسبة، والتكرار اليومي للنشاطات المألوفة، إذ تشير تلك الأبحاث أن الخروج من هذه المنطقة يتطلب شجاعة وتفكيرًا إيجابيًا، مما يمكن أن يفتح فرصًا جديدة ويزيد من قدرة الشخص على التكيف مع التحديات والتغيير.
حسن، كيف نخرج من منطقة الراحة؟
من خلال دراستنا لهذا الموضوع وجدنا أن العلماء اعتمدوا على 12 خطوة وطريقة للخروج من هذه المنطقة، ونحن يمكننا أن نقول إنه من الجيد ممارسة كل هذه الخطوات، ولكنها ليست إلزامية، وإنما يمكن للمرء اعتماد بعض من تلك الخطوات وبعض الطرق، ولكن المهم أن يكون جادًا في ممارستها مواظبًا عليها، فالجلوس في منطقة الراحة فترة زمنية يحتاج من المرء الراغب في الخروج إلى قوة دفع كبيرة وإرادة حديدية، والصبر على التعب والإرهاق، فهي ليست عملية سهلة وإنما إن تمت ممارستها بالطريقة الصحيحة وأتت نتائجها بعد فترة زمنية فإنها حتمًا ستكون رائعة. لنبدأ:
تأجيل البدايات؛ دائمًا وأبدًا تكون الخطوة الأولى والبدايات مخيفة، فكلما رغبنا في العمل للخروج من منطقة الراحة يقول لك قلبك وربما عقلك «تريث قليلاً، فكر في الموضوع، فأنت لست مستعدًا»، فتؤجل الحركة، وتأجلت الخطوة الأولى، كلما أجلت الخطوة الأولى، زاد الخوف وصعُب الإنجاز.
إذًا، ما الحل الذي يمكن أن يسهم بطريقة أو بأخرى في المبادرة الأولى؟ لا يوجد حل إلا أن تتوكل على الله سبحانه وتعالى، وتكن شجاعًا وتبدأ فورًا.
البقاء في الروتين اليومي؛ الروتين اليومي من أجمل المتع والكسل الذي يمكن أن يعيشه الإنسان، فمن يود تغير روتينه اليومي، فالمرء يصحو في الصباح، يذهب إلى العمل، يعمل عدة ساعات، يعود إلى المنزل، يرتاح، يخرج لزيارة الأصدقاء، ثم يعود إلى المنزل وينام إلى اليوم الثاني، وفي نهاية الشهر يأخذ الراتب. والحياة جميلة تسير وفق خط واحد لا يتغير، تتكرر الأيام ويمضي العمر، ولا شيء جديد.
ولكن هذا الروتين وكل هذه الأنشطة التي لا تتغير تقتل في نفس الإنسان الحرية والتحرر، وانطلاق الفكر، حينئذ يصبح الروتين هو القيد الذي يقيد الإنسان فيه نفسه، فيقتل الإبداع ويمنع المرء من تجربة الأشياء الجديدة، وحينها يصبح التغيير البسيط قصة رعب لا يمكن تحملها.
لذلك يجب أن ينغرس في عقل الإنسان أن الروتين اليومي غلاف رقيق يحيط الإنسان، وهذا الغلاف يمكن أن يتمزق بحركة بسيطة.
الاعتماد على الخيار الآمن دائمًا؛ في بعض الأحيان نقع بين أمرين، أو نُجبر على أن نختار ما بين أمرين، فنقع في حيرة، أيهما نختار؟ ماذا تختار وظيفة إدارية، ولكنها مليئة بالمشاكل والبحث والجهد وعدد كبيرة من الموظفين المشاكسين، أم وظيفة موظف بسيط يقبع خلف مكتبه طوال اليوم ويقدم خدمات إلى الناس بكل هدوء؟ ماذا تختار زوجة غنية، ولكنها مشاكسة أم امرأة هادئة، ولكنها فقيرة؟
أنت الآن أمام خيارين؛ هل تختار أم ستذهب إلى إنسان آخر يساعدك في الاختيار، أين تذهب؟
ولكن في حال رغبتنا في الخروج في منطقة الراحة يجب أن نعلم أن الخيارات السهلة لا تطور الإنسان مهما اتخذ من أعذار، فالتحديات هي ما تصنع الفرق.
التمسك بنفس الأساليب دائمًا؛ حتى في اللعب، أي لعبة سواء كانت لعبة كرة قدم أو غيرها، وحتى في الألعاب الإلكترونية لا أحد يلعب بنفس الطريقة عدة مرات، حتى وإن كانت ناجحة، لأنك ستصبح مكشوفًا، فالغريم سيعرف تكتيكاتك وحركاته وخططك، فما بالنا إن كانت الخطة فاشلة أو قديمة أو مكررة ولم تجن من ممارستها أي منفعة، فماذا ستكون النتيجة؟ حتمًا ستفشل، وهذا ما يعمله كثير من الناس، يمارسون نفس الأساليب ويتمسكون بها لأنهم فقط لا يعرفون غيرها، أو أنهم لا يرغبون في تجربة أساليب وخطط أخرى. فتفشل حياتهم، ويجدون أنفسهم لا يستطيعون التحرك أو التغيير. ولكن هؤلاء يجب أن يعرفوا أنهم إن لم يغيروا طريقتهم في التعامل مع الحياة، أو الأمور أو المشاكل أو أي شيء، فإنهم لن يروا نتائج مختلفة، إذ أن النتيجة ستبقى هي نفسها.
التردد في اتخاذ القرارات؛ كلنا يعرف هذا الأمر، كثيرًا ما نخاف الخطأ وهذا ما يجعلنا عالقين بين عدد من الخيارات، لا نعرف أن نتحرك، وكما يقال في المثل الشعبي (إذا بغيت تحيره خيره) أو (خيره وحيره). لذلك على الفرد الذي يرغب في الخروج من منطقة الراحة أن يفكر، وفي بعض الأحيان لا بأس أن يستشير، أو أن يفكر بالطرق العلمية المنهجية في اتخاذ القرار، ولقد تحدثنا عدة مرات عن بعض الأساليب المنهجية لاتخاذ القرار، ولكن بعد التفكير على المرء أن يتخذ القرارات التي يجدها مناسبة، والتي يمكن أن يتعلم من نتائجها بعض الأمور الإيجابية.
رفض وجهات النظر المختلفة؛ كررنا عدة مرات أنه من الضروري في كثير من الأحيان أن تستشير، وهذا أمر لا عيب فيه، وحتى أثناء الحوارات أو طرح الأفكار، لأن رفض الإنسان لسماع أفكار الآخرين يمنعه من التوسع الذهني والنمو. وإن شئت فإنه يمكنه أن تتخذ أي قرار فكري أو حياتي أو حتى في بعض الأحيان يمكن أن تغير وجهة نظرك في الأمور بسبب وجهة نظر بسيطة طرحت عليك، وهذا الأمر يساعدك للنظر من نافذة الآخرين.
تجنب الفرص الجديدة؛ في عديدة من الاستشارات الشخصية والدورات العامة ندرب الأفراد على قول (لا)، لأن هذا يساعد كثيرًا من التخلص من الضغوط، ولكن يجب أن يكون معلومًا أن قول (لا) لكل شيء جديد، وبصورة دائمة ومن غير تفكير قد يحرم الإنسان من تجارب تغير حياته. لذلك للراغبين من الخروج من منطقة الراحة أن يفكر بعقلانية ومنهجية قبل أن يقول (نعم) أو (لا)، لأنها ستغير حياته.
التجارب التطوعية؛ العمل التطوعي عادة ما تكون تجربة جميلة يسهم في الانخراط في الحياة ومقابلة عدد كبير من الناس بمختلف نوعياتهم، وعادة ما يكون العمل التطوعي إنساني يقدم فيه المرء جزءا من وقته لخدمة الآخرين، لذلك فإن هذا العمل ممتع بطريقة أو بأخرى، بالإضافة إلى أن العمل التطوعي يقدم خدمات وتجارب جديدة للإنسان، وهو جزء من الذكاء العاطفي والاجتماعي الذي يجب أن يعيشه الإنسان، فعدم الانخراط في تجارب جديدة عادة ما يحد من مهاراته ويُضعف ثقته بنفسه.
التهرب من المخاوف؛ الخوف شعور إنساني طبيعي، فكلنا نخاف ونتردد، ولكن الخوف لا يختفي بالهروب بل بالمواجهة. لا يمكننا أن نفتح النافذة ونلقي بمخاوفنا منها وبعدها نقول انتهي الخوف، فهذا لا يحدث في الواقع والحقيقة، وإنما علينا أن نحمل خوفنا معنا ونصعد السلم درجة درجة وعند كل عتبة نتخلص من جزء من الخوف، حتى عندما نصل إلى قمة السلم نكون قد تخلصنا من الخوف تمامًا.
عدم تحدي نفسك يوميًا؛ الركون إلى الدعة والراحة رغبة يحبها كل إنسان، يقوم متأخرًا من السرير، يتثاءب ويتمدد، هذه الراحة جميلة، وكلنا يحب ذلك، والقليل منا من يحب الاستيقاظ مبكرًا وخاصة في أيام الإجازات. لمثل هؤلاء البشر يُعد الاستيقاظ من النوم باكرًا والسعي للرزق ومقابلة الناس مغامرة كبيرة تحتاج إلى تغير في السلوك والاتجاهات. لذلك للراغبين في الخروج من منطقة الراحة أن يجعلوا كل لحظة من حياتهم تحديًا، فالخروج من السرير تحدٍ، والعمل تحدٍ، ومقابلة الناس تحدٍ وهكذا، ربما في البداية تواجهنا بعض المشاكل وبعض الإرهاق، ولكنها ستكون في المستقبل قضية وجودية، فغياب التحديات اليومية يجعل حياتنا مملة وتؤخر تطورنا.
الرغبة في السيطرة على كل القرارات؛ قراراتنا عادة نأخذها بأنفسنا، ولكن في بعض الأحيان، وأكرر في بعض الأحيان لا مانع أن تدع الآخرين يقررون لتكشف طرقًا مختلفة ومفيدة، وأفكارا لم تأت لك على بال.
نسيان أن كل يوم فرصة جديدة؛ يجب أن ننسى إخفاقات وفشل الأمس، فالحياة تتقلب ما بين النجاحات والاخفاقات، وهذا أمر طبيعي، ولكن الذي هو غير طبيعي أن نتمسك بإخفاقات الأمس، ونضع خدنا بين أيدينا ونبكي ونولول على الأمس، لأن ذلك يمنعنا من رؤية إمكانيات اليوم، وجمال الحركة ونجاحاتنا حتى إن كانت صغيرة.
منطقة الراحة جميلة وممتعة، ولكنها مملة، والبقاء فيها فترات طويلة تخلق في نفس الإنسان الترهل والتخمة، لذلك فإن الإنسان الطبيعي حتمًا سيفكر في الخروج من هذه المنطقة، بمجرد حركة بسيطة فهي مغلفة بغلاف رقيق، كل الذي يحتاج إليه المرء قليل من الحركة، والنجاح حافز مهم.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك