المتابع للمشهد الإيراني الإسرائيلي الأمريكي بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران، ودخول الأخيرة على الخط في هذه الحرب ولو بشكل محدود؛ فإن المرء يحتار في إعطاء توصيف وتحليل دقيق لهذا المشهد نظراً الى تلاحق الأحداث وسرعتها وتطورها، فمنذ اعلان الرئيس ترامب وقف إطلاق النار، فإن حرب التصريحات لم تتوقف.
وكان تصريح ترامب بداية الانطلاق في حرب التصريحات حين قال: انه قضى على «القدرات النووية لإيران». في المقابل لم ينتظر المرشد الإيراني علي خامنئي طويلا في الرد على تصريحات ترامب، إذ سرعان ما ظهر في وسائل الإعلام لتكذيب ما قاله ترامب بل إنه زاد على ذلك حين وصف ترامب بأنه «فاشل» وأضاف: إن بلاده حققت انتصاراً على الكيان الصهيوني الزائف، كما أنها وجهت «صفعة قاسية» للولايات المتحدة.
ولم يمض وقت طويل حتى رد ترامب على تصريحات خامنئي مباشرة، بل إنه وجه إدارته بوقف العمل بتخفيف العقوبات عن إيران رداً على بيان خامنئي، ولم يكتف بذلك وقال: انه قد يعود إلى قصفها مجدداً.
العجيب والغريب في الأمر، أنه في الوقت الذي يتبادل فيه الطرفان التصريحات عبر وسائل الإعلام وتكذيب كل منهما الآخر حول نتائج الحرب، تكشف لنا بعض المصادر الإعلامية عن قيام الطرفين بإجراء محادثات سرية بينهما هدفها التوصل إلى حلول حول برنامج إيران النووي وأمور أخرى تتعلق بمستقبل علاقات إيران بالولايات المتحدة ودورها في المنطقة.
ولما كانت أمريكا هي صاحبة القرار في وقف الحرب، فكان من الطبيعي أن تقود هي مرحلة ما بعد الحرب؛ لذلك هي الآن من يمسك بخيوط اللعبة، وتحاول أن تستفيد من نتائجها في تنفيذ رؤيتها وبحسب المصادر المطلعة على ما يجري في كواليس البيت الأبيض، فإن فكرتها الرئيسية تقوم في الأساس على عدم استبعاد إيران من خريطة الشرق الأوسط الجديد وهذه الفكرة هي نقطة الخلاف بين ترامب ونتنياهو، حيث يرى الأخير ان إيران بنظامها الحالي لا يمكن أن يكون لها دور في رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد.
وكان نتنياهو قد أشار في بداية الحرب على إيران أن أحد أهدافه هو إسقاط نظام الملالي واستبداله بنظام جديد لا يعادي إسرائيل ويكون على استعداد للتطبيع معها. فهو لا يثق في نظام الملالي.
ورغم أن هذه الرغبة الإسرائيلية تصطدم مع مقاربة الرئيس ترامب الذي يرى أنه بالإمكان ترويض النظام الحالي من خلال تقديم عدد من المحفزات له، وفي مقدمتها عدم اسقاطه، ثم رفع العقوبات عنه، والإفراج عن أمواله المجمدة. إلا أن نتنياهو لا يعارض رغبة ترامب في السير نحو تنفيذ رؤيته للشرق الأوسط.
من جانبها، فإن إيران تدرك أن إسرائيل لا تستطيع الخروج عن المظلة التي يوفرها لها الجانب الأمريكي مهما كانت قوتها وجبروتها، ونتيجة لذلك لم تتردد في الاستجابة لطلب ترامب بوقف الحرب، ورأت أن من مصلحتها أن تساير قرار ترامب بوقف إطلاق النار؛ كذلك فأن إيران على قناعة بأن الأخير ليس لديه النية في الإطاحة بنظامها السياسي، وهذا ما يهمها بالدرجة الأولى، ونتيجة لذلك فإنها على استعداد للتضحية بالغالي والنفيس مقابل عدم إسقاط نظامها السياسي.
من جهة أخرى، فإن إيران تدرك أيضاً أن ميزان القوة ليس في صالحها على الرغم من ترسانتها الصاروخية، وأنها استطاعت أن توجه ضربات موجعة إلى إسرائيل؛ إلا أنها تعلم أن مواصلة الحرب قد تمهد في مرحلة ما الى انهيار نظامها وزواله وهذا بالنسبة الى حكم الملالي خط أحمر؛ لذلك لا غرو أن تسلك طريق مؤسس النظام الحالي الامام الراحل الخميني في الحرب العراقية – الإيرانية حين أعلن في 18 يوليو 1988م في خطاب إذاعي قبوله لقرار مجلس الأمن رقم 598 الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب مع العراق، ووصف ذلك بأنه «تجرع كأس السم» وشعور بالخجل « أمام تضحيات الشعب. وذلك من أجل بقاء نظام الجمهورية الإيرانية.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فها هي إيران اليوم توافق على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب بينها وبين إسرائيل حتى ان رفعت شعارات الانتصار في المواجهة الأخيرة.
ولو أمعنا النظر في السردية التي يرددها قادة إيران حول قبولهم لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب؛ فسنكتشف أنها لا تخرج عن مضمون خطاب الخميني إبان قبوله وقف الحرب مع العراق، الذي أكد فيه أنه اتخذ هذا القرار من أجل مصلحة الشعب. لكن الحقيقة الغائبة هي من أجل مصلحة النظام وبقائه على قيد الحياة أولا.
في المشهد الحالي يتكرر الموقف نفسه؛ فيعزى المرشد الحالي علي خامنئي القبول بوقف الحرب مع إسرائيل إلى مصلحة الشعب وتضحياته، ولكن الحقيقة غير المعلنة هي المحافظة على نظامه من السقوط وهذا الخوف نابع من قراءته لتصريحات بنيامين نتنياهو في بداية الحرب حينما أشار إلى أن أمام الشعب الإيراني الآن فرصة للتحرك لإسقاط النظام، وأن الطريق معبد له للقيام بذلك.
وهذا يعني أن إسقاط النظام كان من بين الأهداف التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها. لكن إسرائيل تراجعت عن هذا الهدف بضغط من الولايات المتحدة وكذلك من الأوروبيين الذين يفضلون عدم تغيير النظام في إيران ويسعون إلى احتوائه وترويضه اعتقاداً منهم بأن التغيير قد يحول المنطقة إلى فوضى عارمة وهذا بحسب وجهة نظرهم ليس في مصلحتهم.
في تقديري، أن موافقة خامنئي على وقف إطلاق النار جاءت بعد تأكيدات له من قبل الولايات المتحدة عبر وسطاء بأن ترامب سيضمن له بقاء النظام، وأن الولايات المتحدة ضغطت على إسرائيل من أجل إلغاء هذا الهدف، كما أنها لن تترك لإسرائيل إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد وحدها، وأنها هي التي ستقوم بهذه المهمة ولن تتركها لمزاج نتنياهو ليقرر مصيرها. لكن الثمن الذي ستدفعه إيران مقابل عدم إسقاط نظامها سيكون غاليا جداً، وأن ما صرح به ترامب مؤخراً حول مساعيه إلى جر إيران للدخول في «اتفاقات إبراهيم» ما هو إلا بداية الخيط في ابعاد إيران عن ساحة الشرق الأوسط والاقرار بوجود إسرائيل.
ولهذا فإن كل ما يطرحه ترامب على إيران يصب في هذا الاتجاه، وأن غايته من وراء ذلك جلبها إلى طاولة المفاوضات ليملي عليها شروطه بعد أن قصقصت إسرائيل أجنحتها العسكرية والأمنية فهل ستضطر إيران إلى القبول بالشروط الامريكية من اجل بقاء نظام الملالي في إطار أي صيغة للخروج من المأزق الراهن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك