لقد فوجئت جميع الأطراف بالأمر. فقد قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تعتمد استراتيجيته الحربية برمتها على تجويع الفلسطينيين في غزة، من جانب واحد في يوم 19 مايو السماح بدخول الغذاء «فورًا» إلى قطاع غزة المنكوب بالمجاعة.
وبالطبع، فقد استمر نتنياهو في المناورة. فبدلاً من السماح بدخول ألف شاحنة مساعدات على الأقل يوميًا إلى غزة المدمرة بالكامل، سمح في البداية بدخول تسع شاحنات فقط، وهو عددٌ ازداد ظاهريًا في الأيام التالية.
وحتى أكبر مؤيدي نتنياهو، الذين انتقدوا القرار بشدة، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم. كان التفاهم المسبق بين شركاء نتنياهو في الائتلاف بشأن خطتهم النهائية في غزة واضحًا لا لبس فيه: احتلال كامل للقطاع وتهجير سكانه قسرًا.
وقد صاغ وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، هذا القرار كسياسة واضحة، إذ أعلن في السادس من مايو الماضي أنه «سيتم تدمير قطاع غزة بالكامل، وسيتم إرسال المدنيين إلى... دول ثالثة».
إن دخول الغذاء إلى قطاع غزة، مهما كانت كميته ضئيلة، ينتهك بشكل مباشر التفاهم القائم بين الحكومة والجيش، تحت قيادة حليف نتنياهو، وزير الدفاع إسرائيل كاتس، ورئيس الأركان إيال زامير.
لقد جاء هذان الطرفان ليدخلا حكومة بنيامين نتنياهو الحربية ويحلا بالتالي محلّ يوآف غالانت وهرتسي هاليفي. وبهذه التعيينات الجديدة، أصبح نتنياهو مستعدًا لتنفيذ خطته الكبرى.
عندما اندلعت الحرب في 7 أكتوبر 2023، وعد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالسيطرة على كامل قطاع غزة. بعد ذلك تطور هذا الموقف، أو بالأحرى، اتضح، ليدل على احتلال دائم، وإن كان بدون الفلسطينيين أنفسهم.
ولتحقيق هذا الهدف -في ضوء فشل إسرائيل المستمر في إخضاع الفلسطينيين على مدى ما يقرب من 600 يوم- ابتكر نتنياهو ورجاله بعناية فائقة خطة «عربات جدعون».
لقد تجاوزت الدعاية التي رافقت هذه الاستراتيجية الجديدة كل الدعاية التي رافقت الخطط السابقة، بما في ذلك «خطة الجنرالات» الفاشلة التي أطلقت في شهر أكتوبر 2024.
إن المنطق وراء هذه الحرب النفسية هو ترك انطباع لا يمحى لدى الفلسطينيين في غزة بأن مصيرهم قد حُسم، وأن مستقبل غزة لا يمكن تحديده إلا من قبل إسرائيل نفسها.
ولكن الخطة، التي تعد إعادة صياغة لما كان معروفاً تاريخياً باسم «أصابع شارون»، تقوم في الأساس على تقسيم غزة إلى عدة مناطق محددة، والاستفادة من الغذاء كأداة للتهجير إلى هذه المخيمات، وفي نهاية المطاف، إلى خارج غزة.
لكن، لماذا يوافق نتنياهو على السماح بوصول الغذاء خارج إطار مخططه الشرير؟ لا شك أن السبب وراء ذلك مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بتصاعد الغضب العالمي الموجه ضد إسرائيل، وخاصةً من حلفائها الأشداء: بريطانيا، وفرنسا، وكندا، وأستراليا، وغيرها.
وعلى النقيض من إسبانيا والنرويج وأيرلندا وغيرها من الدول التي انتقدت بشدة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، فإن عدداً قليلاً من العواصم الغربية ظلت ملتزمة بدعم إسرائيل طوال الحرب.
وقد تجلى التزامهم في الخطاب السياسي الداعم، وإلقاء اللوم على الفلسطينيين وتبرئة إسرائيل؛ والدعم العسكري غير المقيد؛ والحماية الحازمة لإسرائيل من المساءلة القانونية والتداعيات السياسية على الساحة العالمية.
ولكن الأمور بدأت تتغير عندما أدرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ببطء أن حرب نتنياهو في غزة من المقرر أن تتحول إلى حرب دائمة واحتلال، وهو ما من شأنه أن يترجم حتما إلى زعزعة الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط، وهو ما لا يشكل أولوية أمريكية ملحة في الوقت الراهن.
ورغم أن واشنطن أشارت إلى أن «الولايات المتحدة لم تتخل عن إسرائيل»، فإن الأمر بدا واضحا للعيان: إن استراتيجية نتنياهو طويلة الأمد والاستراتيجية الأمريكية الحالية لا تتقاربان كثيراً.
وعلى الرغم من القوة السياسية الهائلة التي تتمتع بها جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، والدعم القوي الذي تحظى به في الكونجرس، فقد تعزز موقف ترامب بسبب حقيقة مفادها أن بعض الدوائر المؤيدة لإسرائيل، من كلا الحزبين السياسيين أيضاً، تدرك تمام الإدراك أن نتنياهو يشكل خطراً ليس فقط على الولايات المتحدة، بل على إسرائيل نفسها.
وقد عززت سلسلة من الإجراءات الحاسمة التي اتخذها ترامب هذا التحول، والذي لم يلق احتجاجا كبيرا من جانب العناصر المؤيدة لإسرائيل في دوائر السلطة في الولايات المتحدة: استمرار المحادثات مع إيران، والهدنة مع الحوثيين في اليمن، والمحادثات مع حماس، وما إلى ذلك.
ورغم امتناعه عن انتقاد ترامب علنًا، كثّف نتنياهو قتله للفلسطينيين، الذين سقطوا بأعداد فادحة ومأساوية. وكان العديد من الضحايا على شفا المجاعة قبل أن تُفجّرهم القنابل الإسرائيلية بلا رحمة.
وفي 19 مايو الماضي، أصدرت بريطانيا وكندا وفرنسا بيانًا مشتركًا شديد اللهجة هددت فيه إسرائيل بفرض عقوبات. وسرعان ما تبع هذه اللهجة غير المألوفة تحركٌ بعد يوم واحد فقط، حين علّقت بريطانيا محادثاتها التجارية مع إسرائيل.
ورد نتنياهو بلغة غاضبة، وأطلق العنان لغضبه على العواصم الغربية، التي اتهمها «بتقديم جائزة ضخمة للهجوم الذي استهدف إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023»، لتقوم إسرائيل بعد ذلك بتصعيد هذه الفظائع المرتكبة في قطاع غزة.
ورغم أن القرار بالسماح بدخول بعض المواد الغذائية إلى غزة غير كاف على الإطلاق لمنع المجاعة المتفاقمة، فإنه كان بمثابة تشتيت للانتباه، في حين استمرت آلة الحرب الإسرائيلية بلا هوادة في حصاد أرواح عدد لا يحصى من الفلسطينيين يومياً.
في حين نرحب بالتحولات الكبيرة في موقف الغرب ضد إسرائيل، فإنه يتعين علينا أن ندرك تماماً أن نتنياهو ليس لديه أي مصلحة حقيقية في التخلي عن خطته لتجويع غزة وتطهيرها عرقياً.
ورغم أن أي إجراء يتخذ الآن لن يعكس بالكامل تأثير الإبادة الجماعية، مازال هناك مليونا حياة يمكن إنقاذها من السكان الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة المنكوب والمدمر.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك