بعد تهديدات متكررة بالدخول على خط المواجهة بين إسرائيل وإيران، نفّذت الولايات المتحدة ضربات استهدفت منشآت نووية إيرانية حساسة؛ ما شكّل تطورًا نوعيًا ينذر بتوسيع نطاق الحرب إلى صراع دولي مفتوح. فيما كشفت هذه التطورات أن مستقبل الأمن الإقليمي والاستقرار العالمي بات في قبضة شخص واحد، معروف بمزاجيته وافتقاده للنزاهة السياسية والمصداقية الدولية؛ الأمر الذي يعكس فشلًا ذريعًا في قيادة المنظومة الغربية وقدرتها على ضبط التوازنات أو كبح جماح التصعيد.
وفي الوقت الذي يتعزز فيه التنسيق بين الرئيس الأمريكي ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو – الذي كثّف ضغوطه على واشنطن لدعم استهداف منشأة فوردو النووية– جرى تهميش القادة الغربيين الآخرين، واستُبعدوا من المشاركة في أي حوار أو قرار حاسم، في مشهد يُجسّد اختلال ميزان القيادة الدولية، وغياب التعددية عن مراكز صنع القرار العالمي.
وبالنظر إلى مواقف ترامب، التي تتسم بالاستخفاف الواضح بقادة بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا، والاتحاد الأوروبي؛ فمن المهم التأكيد على أن هذه الحكومات، طيلة الأشهر الخمسة عشر الماضية، افتقدت لأي موقف أخلاقي أو سياسي حقيقي؛ إذ امتنعت عن التصدي للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في غزة، وتواطأت في الكارثة الإنسانية التي يواجهها ملايين المدنيين الفلسطينيين، فضلًا عن تقديمها دعمًا مباشرًا لآلة الحرب الإسرائيلية.
ومع انهيار مسار الدبلوماسية؛ لا يمكن أيضًا تجاهل الصمت الحالي من أقطاب الدبلوماسية في الغرب. فبينما حظيت العقود الماضية بدبلوماسيين مؤثرين، أمثال (هنري كيسنجر، جيمس بيكر، جيفري هاو، اللورد كارينغتون، دوغلاس هيرد)، تتمتع بقدر من الخبرة والثقل الشخصي، خول لهم التدخل لإدارة وحل الأزمات الدولية؛ فمن المؤكد اختلاف الأمر في عام 2025، مع اكتفاء ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، وديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني، بموقف المتفرج للتطورات عوضًا عن قيادتها، مع استبعاد روبيو، كُليًا من عملية صنع القرار في البيت الأبيض.
وبعد أن بدأت إسرائيل ضرباتها الجوية على إيران، رصدت ألكسندرا شارب، في مجلة فورين أفيرز، كيف أن كل الأنظار، كانت تتجه نحو الدور المباشر لـترامب، بوصفه عاملًا حاسمًا في مسار التصعيد، فيما كشفت تصريحاته على هذه الأحداث عن ازدراء متزايد لقواعد العلاقات الدولية، وتجاهل واضح لمبادئ التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، بما يسلط الضوء على الخطر المتنامي في قراراته المتسرعة وانعكاساتها على استقرار النظام الدولي.
وبعد أن كان ترامب، هو المبادر باستئناف التواصل لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وصرح في 12 يونيو 2025 –أي قبل يوم واحد فقط من بدء الهجمات الإسرائيلية– عن رغبته في التوصل إلى اتفاق، مشيرًا إلى أن هذه النتيجة كانت -آنذاك- قريبة إلى حد ما، وأن الضربات الإسرائيلية قد تجهض هذا المسار. وعلى النقيض من ادعاءات إدارته -حينها- بتحرك إسرائيل بشكل أحادي ضد طهران؛ فقد اعترف لاحقًا بأنه كان على علم مُسبق بنوايا نتنياهو.
وبشكل واضح، أكد هذا الاعتراف كيف كانت تهديداته المتكررة ضد إيران، هي الجزء الوحيد الصادق من بياناته السابقة. وبعد إعلانه بشكل غامض للصحفيين عقب عودته من مؤتمر قادة مجموعة السبع، في كندا عن تمنيه نهاية حقيقية للصراع؛ تفاخر في 17 يونيو عبر منصته تروث سوشال، بقوله: نحن –أي الأمريكيين والإسرائيليين معا- سيطرنا سيطرة كاملة على سماء إيران. علاوة على ذلك، استمر في التهديد بـتصفية المرشد الأعلى لإيران آية الله خامنئي، الذي وصفه بأنه هدف سهل، وطالب طهران بـاستسلام غير مشروط، على ما يبدو ليس فقط لمطالب واشنطن حول التخصيب النووي؛ بل أيضا للهدف المعلن الذي أعلنه نتنياهو بتغيير النظام في طهران.
ومع إعلانه في اليوم التالي للهجمات الإسرائيلية بأنه قد يُقدم أو لا يُقدم، على توجيه ضربات أمريكية ضد إيران، قائلا إنه: لا أحد يعرف ما سأفعله؛ فإن هذا الأمر يؤكد بوضوح الافتقار إلى أي تفكير استراتيجي في البيت الأبيض، ويُشير إلى إدارة يتمتع فيها الرئيس بسلطات مُطلقة. وللمفارقة فإنها أحد الاتهامات التي اتهمت به واشنطن النظام الإيراني، متهمة إياه بالتهور والانفراد باتخاذ القرار.
وحول تقييم التداعيات الكارثية لإدارة ترامب لهذه الأزمة، أكد روبرت بابي، من جامعة شيكاغو للأمن والتهديدات، أن الحرب الجوية، التي تشنها إسرائيل ضد إيران عبثية في تحقيق الهدف المعلن المتمثل في تدمير برنامجها النووي. وأضاف ريتشارد نيفيو، من جامعة كولومبيا، على أن خطر التهديد من إيران النووية لا يزال قويًا بشكل لا يصدق، لكن مع توفر خطر إضافي يتمثل في كون النظام ليس لديه ما يخسره من خلال تسريع جهوده بسرعة للحصول على أقوى أشكال الردع.
وأضاف بابي، أنه حتى مع استخدام الولايات المتحدة ما يسمى قنابل اختراق المخابئ، ضد منشأة فوردو؛ فلن يكون هناك سيناريو يضمن الثقة المطلقة في عدم إمكانية مُضي إيران قُدمًا في إعادة تأسيس برنامجها النووي؛ وأن مثل هذا الإجراء سيضع واشنطن فقط في مرمى نيران إيران النووية، بدلاً من حل المشكلة جذريًا. وأضافت هيذر ويليامز، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن نزع السلاح النووي الكامل يستدعي نوعًا من الآليات السياسية، وهو ما أضحى مُستبعدًا حاليا مع شن ترامب، هجمات عسكرية على إيران.
ويعكس هذا النقص في النزاهة والتفكير الاستراتيجي وضعًا مقلقًا داخل أجهزة الحكم الأمريكية. ورغم أن بعض أعضاء الكونجرس قدموا تشريعا يقيد سلطة الرئيس في استخدام القوة العسكرية بالخارج، فإن بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل، مثل ليندسي غراهام، يدعمون شن مزيد من الضربات العسكرية ضد إيران.
وفيما تستمد قاعدة ترامب -من حملة جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى- دعمها من رفض التدخلات الحربية الخارجية، تظهر الانقسامات داخل الإدارة بوضوح في مواقف نائب الرئيس جيه دي فانس، الذي صرح في 2023، بأنه لن يدعم على الإطلاق، هجومًا أمريكيًا ضد إيران خشية التصعيد؛ لكنه عدل موقفه في يونيو 2025، قائلاً: إن الرئيس اكتسب بعض الثقة في الموضوع، وأن القرار بشأن القصف يعود له في النهاية.
وردًا على الضربات الإسرائيلية على إيران في 13 يونيو، ناشدت إيلي جيرانمايه، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، القادة الغربيين التحرك لمنع حرب كبرى بين إسرائيل وإيران. لكن شخصيات، مثل ستارمر في بريطانيا، وماكرون في فرنسا، وميرز في ألمانيا، وكارني في كندا، لم تقم بخطوة فعلية جادة سوى محاولات متأخرة ومحدودة، لدعم استئناف المفاوضات النووية مع طهران.
وفي السابق، كان هناك قادة أمريكيين مثل (جيمس بيكر، جورج بوش الأب، رونالد ريغان) يستمعون لنظرائهم الأوروبيين، وكان هناك قادة أوروبيين مثل (مارغريت تاتشر، جيمس كالاهان، ادوارد هيث) في بريطانيا، و(فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك) في فرنسا، و(أنغيلا ميركل وهيلموت كول) في ألمانيا.. إلخ، يتعاونون مع نظرائهم الأمريكيين لمواجهة الأزمات الدولية، رغم وجود تباينات واختلافات في الرؤى. أما في عام 2025، فإن الرئيس الأمريكي يرفض كليًا هذا التقليد، حتى إنه قاطع اجتماع مجموعة السبع، مفضلًا التركيز على شراكته الوثيقة مع نتنياهو، على حساب أي حوار أو تنسيق مع بقية القوى الغربية.
ورغم دعوات جيرانمايه، بضرورة تنسيق المواقف الغربية مع واشنطن للحيلولة دون انزلاق المنطقة إلى تصعيد أوسع؛ فإن سلوك ترامب، أسهم في تقويض ثقة الحلفاء الأوروبيين بشكل كبير. ففي الوقت الذي كانت فيه أمريكا تستعد لتوسيع عملياتها ضد إيران، قال ستارمر، إنه لم يرَ أي إشارة من ترامب على نيته التدخل في الصراع، وأضاف أنه ليس لديه أي شك بأن الرئيس يسعى لتهدئة الأوضاع. لكن الاستفزاز الأكبر جاء عندما أعلن ماكرون، للصحفيين أن ترامب قد عاد إلى واشنطن للتفاوض على وقف لإطلاق النار، ليرد الأخير بتهكم قائلًا: إن ماكرون يسعى للدعاية، واصفًا إياه بأنه غالبًا ما يكون مخطئًا.
ومع تراجع دور القادة الغربيين عن أي مشاركة فاعلة في إدارة الأزمة الراهنة، في ظل ازدراء ترامب العلني لهم، وعجزهم عن الدفاع الجاد عن القانون الدولي وحقوق الإنسان؛ انعكس هذا التراجع في غياب أي تأثير يُذكر لوزراء خارجية تلك الدول -بل حتى لنظرائهم الأمريكيين- في التأثير على مجريات الأحداث أو توجيه دفة الأزمة نحو التهدئة. وعلى الرغم من أن منصب وزير الخارجية الأمريكي لطالما مثّل ثقلًا دبلوماسيًا كبيرًا، في فترات سابقة، كما كان الحال مع كيسنجر، أو بيكر؛ فإن روبيو، قد تم تهميشه ضمن سياسة إدارة ترامب تجاه إيران، حتى بات دوره ثانويًا وغير مؤثر.
ولم يكتفِ ترامب، بتهميش وزير خارجيته، بل أسند مهمة إدارة المفاوضات النووية مع إيران إلى صديقه القديم في قطاع العقارات وشريكه في لعبة الجولف، ستيف ويتكوف، الذي تولى إجراء محادثات سرية مع مسؤولين إيرانيين مع تصاعد التوتر، فيما زاد حرج روبيو، بعد تصريحات لترامب تناقضت مع بيان صادر عن وزارة الخارجية، حين كشف عن علمه المسبق بالهجوم الإسرائيلي على إيران، ما قوض مصداقية الوزارة.
وفي هذا السياق، اقتصرت مهام وزير الخارجية على حضور اجتماعات داخل واشنطن مع مسؤولين غير مؤثرين، من بينهم وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، الذي صرّح مؤخرًا بوجود نافذة دبلوماسية خلال الفترة القادمة للتوصل إلى حل، ولكن من غير المرجح أن يتمكن هو أو روبيو من لعب أي دور محوري في هذه الجهود.
وفي 13 يونيو، شددت جيرانمايه، على ضرورة أن تعترف الحكومات الأوروبية بأن إسرائيل هي من بادرت بالهجوم المخطط على إيران، محذرة من أن هذا الفعل يُشكّل تهديدًا مباشرًا للسلام والأمن في الشرق الأوسط، معتبرة أن الإحجام عن توجيه إدانة صريحة لهذا العدوان، بمثابة منح ضوء أخضر لتصعيد عسكري بالغ الخطورة. ومع ذلك، لم يصدر أي موقف إدانة رسمي من تلك الحكومات، في استمرار واضح لتواطؤها مع حرب إسرائيل الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، لا سيما ما ارتُكب من جرائم حرب في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023.
وبدلاً من اتخاذ مواقف حاسمة، اكتفى المسؤولون الغربيون بإصدار تصريحات ضعيفة، على غرار نداء ماكرون لحماية المدنيين. ونتيجة هذا التراخي في المواقف الأخلاقية وغياب الفعل السياسي؛ فإن الرئيس الأمريكي لم يجد سببًا لإشراكهم في أي عملية صنع قرار، حتى عندما تكون لهذه القرارات تبعات خطيرة على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.
وفي مقابل تنفيذ ترامب، لتهديداته ضد إيران، جاء رد المرشد الإيراني علي خامنئي، بتعهده بإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالولايات المتحدة. وعلّقت ويليامز، على ذلك قائلاً إن النهج الذي يتبعه الرئيس الأمريكي قد يدفع إيران للاعتقاد بأنها في وضع أفضل إذا سعت بسرعة نحو امتلاك سلاح نووي، ما يعني فشلًا في تحقيق هدف الردع، مقابل تسريع دخول المنطقة في صراع مفتوح.
وفي ظل المواقف السابقة، تبقى المؤشرات الوحيدة المؤكدة –بناءً على ما حدث خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية- أن حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا والاتحاد الأوروبي، ستواصل الاصطفاف خلف الولايات المتحدة، وإسرائيل، مع تخلٍ واضح عن القانون الدولي وتجاهل لحقوق الإنسان.
ومثلما أثبت كل من ستارمر، وماكرون، وميرز، وكارني، عدم فاعليتهم كقادة دوليين، فقد تراجع أيضًا أولئك الذين يُفترض أنهم من أبرز الدبلوماسيين في العالم –روبيو، ولامي– إلى مجرد موظفين روتينيين يعقدون اجتماعات تنتهي دون أثر ملموس، بعيدًا كل البعد عن إرث أسلافهم الذين كانت لهم أدوار محورية في نزع فتيل الأزمات، وتجنب سيناريوهات كارثية، كتلك التي تدفع إدارة ترامب، بتحفيز من نتنياهو، الولايات المتحدة والعالم نحوها الآن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك