العدد : ١٧٢٥٠ - الأحد ١٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٥٠ - الأحد ١٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وضاعت 16 سنة

كان‭ ‬والدي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬أميًّا‭ ‬100%،‭ ‬ولكنه‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬إلحاق‭ ‬عياله‭ ‬بنين‭ ‬وبنات‭ ‬بالمدارس،‭ ‬وكان‭ ‬نور‭ ‬الرضا‭ ‬يشع‭ ‬من‭ ‬وجهه‭ ‬كلما‭ ‬وجدنا‭ ‬منكبين‭ ‬على‭ ‬دروسنا‭. ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مهيأ‭ ‬لحقيقة‭ ‬أن‭ ‬باب‭ ‬التعليم‭ ‬واسع‭ ‬ويفضي‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له،‭ ‬فعندما‭ ‬أكملت‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وأبلغته‭ ‬أنني‭ ‬سأنتقل‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬حسبني‭ ‬‮«‬مستهبلا‮»‬،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬إنسانا‭ ‬قضى‭ ‬ثماني‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التعلم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مقتنعا‭ ‬بجدوى‭ ‬إكمالي‭ ‬للمرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬ولكنه‭ ‬سكت‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬مضض،‭ ‬وعلى‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬أثوب‭ ‬إلى‭ ‬رشدي‭ ‬بأن‭ ‬أقطع‭ ‬تعليمي‭ ‬وأصبح‭ ‬‮«‬أفنديا‭/ ‬موظفا‮»‬‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬حكومية‭ ‬فتتشرف‭ ‬بي‭ ‬العائلة‭ ‬والقبيلة‭!‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الليلاء‭ ‬عندما‭ ‬التف‭ ‬الأهل‭ ‬وسكان‭ ‬الحي‭ ‬حول‭ ‬جهاز‭ ‬الراديو‭ ‬الضخم‭ ‬ليستمعوا‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬نطق‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬السحري‭ ‬باسمي‭ ‬حتى‭ ‬انفجرت‭ ‬الزغاريد،‭ ‬وأتى‭ ‬أحد‭ ‬جيراننا‭ ‬ببندقية‭ ‬من‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬وكاد‭ ‬يحول‭ ‬فرحتنا‭ ‬إلى‭ ‬مأتم‭ ‬عندما‭ ‬انفجر‭ ‬البارود‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضغط‭ ‬على‭ ‬الزناد‭ ‬ومن‭ ‬حسن‭ ‬حظه‭ ‬أن‭ ‬البارود‭ ‬كان‭ ‬‮«‬مستعملا‮»‬‭ ‬أي‭ ‬سكند‭ ‬هاند،‭ ‬فلم‭ ‬يصب‭ ‬بأذى‭ ‬يفسد‭ ‬علينا‭ ‬الفرحة،‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬ظل‭ ‬الحي‭ ‬بأكمله‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ابتهاج‭ ‬لعدة‭ ‬أيام،‭ ‬ليس‭ ‬لأنني‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬امتحان‭ ‬مصيري‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬الراديو‭ ‬نطق‭ ‬باسمي‭. ‬

وهكذا‭ ‬دخلت‭ ‬التاريخ‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬فأجهزة‭ ‬الراديو‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬كانت‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬الطبقات‭ ‬الارستقراطية‭ ‬وكان‭ ‬بعضها‭ ‬موزعا‭ ‬على‭ ‬المقاهي‭ ‬الشعبية‭ ‬الراقية،‭ ‬وكان‭ ‬الإرسال‭ ‬الإذاعي‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬صباحية‭ ‬وأخرى‭ ‬مسائية‭ ‬ولا‭ ‬يتعدى‭ ‬طول‭ ‬الفترتين‭ ‬معا‭ ‬ثماني‭ ‬ساعات،‭ ‬وكانت‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬يرد‭ ‬ذكرها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الراديو‭ ‬فقط‭ ‬للوزراء‭ ‬والزعماء‭ ‬وكبار‭ ‬الشخصيات‭ ‬وعندما‭ ‬نطق‭ ‬الراديو‭ ‬بإسمي‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أهلي‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وكاسترو‭ ‬نكروما‭ ‬وجواهر‭ ‬لال‭ ‬نهرو‭. ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬بقية‭ ‬أهل‭ ‬الحي‭ ‬لا‭ ‬أقل‭ ‬مرتبة‭ ‬عن‭ ‬ضابط‭ ‬يذيع‭ ‬بيانه‭ ‬رقم‭ ‬‮«‬1‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬فإنني‭ ‬كنت‭ ‬مصدر‭ ‬فخر‭ ‬لجميع‭ ‬أبناء‭ ‬الحي‭ ‬لأن‭ ‬الراديو‭ ‬شخصيا‭ ‬خصني‭ ‬بالذكر‭.‬

وبالنسبة‭ ‬إلي‭ ‬فإن‭ ‬الفرحة‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلا‭ ‬فعندما‭ ‬أدرك‭ ‬السيد‭ ‬الوالد‭ ‬أن‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬ستوصلني‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية،‭  ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬عنده‭ ‬بمثابة‭ ‬إصابتي‭ ‬بفيروس‭ ‬معد‭ ‬سيودي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬التهلكة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنا‭ ‬إقناعه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭  ‬بأن‭ ‬ابنه‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬12‭ ‬عاما‭ ‬وهو‭ ‬يدرس‭ ‬ويتعلم‭ ‬مازال‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعليم،‭ ‬وحسب‭ ‬والدي‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬تتآمر‭ ‬على‭ ‬ابنه‭ ‬لتحرمه‭ ‬من‭ ‬الوظيفة‭ ‬والراتب،‭ ‬وأن‭ ‬الحكومة‭ ‬تستدرج‭ ‬ذلك‭ ‬الابن‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬مؤنث‭ ‬جامع‮»‬‭ ‬وتم‭ ‬حسم‭ ‬الأمر‭ ‬باتفاق‭ ‬سري‭ ‬بين‭ ‬أقطاب‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهر‭ ‬‮«‬العميد‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬التحق‭ ‬بالجامعة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إبلاغ‭ ‬الأخير‭ ‬بالأمر‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬دخولي‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬أمرا‭ ‬واقعا‭.‬

وهكذا‭ ‬ارتكبت‭ ‬غلطة‭ ‬العمر،‭ ‬ودخلت‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬فأضعت‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬الشهادة‭ ‬الكبيرة‭ ‬الجوفاء،‭ ‬التي‭ ‬اكتشفت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أنها‭ ‬مؤهل‭ ‬لانضمامي‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬‮«‬عبَدَة‭ ‬آخر‭ ‬الشهر‮»‬‭ ‬أي‭ ‬موظف‭ ‬ومجرد‭ ‬رقم‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬الخدمة‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬قيمة‭ ‬مؤقتة‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬عندما‭ ‬يتسلم‭ ‬راتبه‭ ‬لحلحلة‭ ‬ديونه،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬مؤهلا‭ ‬للاستدانة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.. ‬واكتشفت‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬والدي‭ ‬الأمي‭ ‬كان‭ ‬بعيد‭ ‬النظر‭ ‬عندما‭ ‬أعلن‭ ‬غضبه‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬تضييع‭ ‬عمري‭ ‬في‭ ‬تجاويف‭ ‬السلم‭ ‬التعليمي‭. ‬ولذا‭ ‬فإنني‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬أبا‭ ‬بدوري‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬تعريض‭ ‬عيالي‭ ‬للدغ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الجحر،‭ ‬وحاولت‭ ‬برمجة‭ ‬ابني‭ ‬الكبير‭ ‬ليكتسب‭ ‬المهارات‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬كرة‭ ‬القدم،‭ ‬ليس‭ ‬لكي‭ ‬يصبح‭ ‬بالضرورة‭ ‬لاعبا‭ ‬مرموقا‭ ‬يباع‭ ‬بالعملة‭ ‬الصعبة‭. ‬ولكن‭ ‬لكي‭ ‬يكون‭ ‬مدربا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬شراء‭ ‬عشرة‭ ‬جامعيين‭ ‬بما‭ ‬يعادل‭ ‬حوافز‭ ‬الفوز‭ ‬في‭ ‬مباراة‭ ‬واحدة‭. ‬ولكن‭ ‬خاب‭ ‬ظني‭ ‬فيه،‭ ‬أما‭ ‬البنات‭ ‬وعندي‭ ‬منهن‭ ‬اثنتان‭ ‬فقد‭ ‬أعطيتهما‭ ‬حرية‭ ‬التعليم‭ ‬وحرية‭ ‬اختيار‭ ‬شريكي‭ ‬الحياة‭ ‬بشرط‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬تراجع‭ ‬عنه،‭ ‬وهو‭ ‬ألا‭ ‬تقترن‭ ‬إحداهما‭ ‬بجامعي‭ ‬بائس‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا