زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وضاعت 16 سنة
كان والدي رحمه الله أميًّا 100%، ولكنه حرص على إلحاق عياله بنين وبنات بالمدارس، وكان نور الرضا يشع من وجهه كلما وجدنا منكبين على دروسنا. ويبدو أنه لم يكن مهيأ لحقيقة أن باب التعليم واسع ويفضي إلى طريق لا نهاية له، فعندما أكملت المرحلة المتوسطة وأبلغته أنني سأنتقل إلى المرحلة الثانوية حسبني «مستهبلا»، فلم يكن يتصور أن إنسانا قضى ثماني سنوات في المدارس بحاجة إلى المزيد من التعلم، ومن ثم لم يكن مقتنعا بجدوى إكمالي للمرحلة الثانوية ولكنه سكت على ذلك على مضض، وعلى أمل أن أثوب إلى رشدي بأن أقطع تعليمي وأصبح «أفنديا/ موظفا» في إدارة حكومية فتتشرف بي العائلة والقبيلة!
ولن أنسى تلك الليلة الليلاء عندما التف الأهل وسكان الحي حول جهاز الراديو الضخم ليستمعوا إلى نتائج امتحانات الشهادة الثانوية، وما إن نطق ذلك الجهاز السحري باسمي حتى انفجرت الزغاريد، وأتى أحد جيراننا ببندقية من القرون الوسطى وكاد يحول فرحتنا إلى مأتم عندما انفجر البارود في وجهه بعد أن ضغط على الزناد ومن حسن حظه أن البارود كان «مستعملا» أي سكند هاند، فلم يصب بأذى يفسد علينا الفرحة، وعلى كل حال ظل الحي بأكمله في حالة ابتهاج لعدة أيام، ليس لأنني نجحت في امتحان مصيري بل لأن الراديو نطق باسمي.
وهكذا دخلت التاريخ عدة أشهر فأجهزة الراديو في تلك الأيام كانت حكرا على الطبقات الارستقراطية وكان بعضها موزعا على المقاهي الشعبية الراقية، وكان الإرسال الإذاعي ينقسم إلى فترة صباحية وأخرى مسائية ولا يتعدى طول الفترتين معا ثماني ساعات، وكانت الأسماء التي يرد ذكرها من خلال الراديو فقط للوزراء والزعماء وكبار الشخصيات وعندما نطق الراديو بإسمي أصبحت في نظر أهلي في مرتبة جمال عبدالناصر، وكاسترو نكروما وجواهر لال نهرو. وكنت في نظر بقية أهل الحي لا أقل مرتبة عن ضابط يذيع بيانه رقم «1» وفي جميع الأحوال فإنني كنت مصدر فخر لجميع أبناء الحي لأن الراديو شخصيا خصني بالذكر.
وبالنسبة إلي فإن الفرحة لم تدم طويلا فعندما أدرك السيد الوالد أن الشهادة الثانوية ستوصلني إلى المرحلة الجامعية، كان ذلك عنده بمثابة إصابتي بفيروس معد سيودي به إلى التهلكة، ولم يكن ممكنا إقناعه مرة أخرى بأن ابنه الذي قضى 12 عاما وهو يدرس ويتعلم مازال في حاجة إلى تعليم، وحسب والدي أن الحكومة تتآمر على ابنه لتحرمه من الوظيفة والراتب، وأن الحكومة تستدرج ذلك الابن بضع سنوات أخرى من عمره في جامعة لم تكن في نظره بأكثر من «مؤنث جامع» وتم حسم الأمر باتفاق سري بين أقطاب العائلة من وراء ظهر «العميد» بأن التحق بالجامعة على أن يتم إبلاغ الأخير بالأمر فيما بعد. أي بعد أن يصبح دخولي إلى الجامعة أمرا واقعا.
وهكذا ارتكبت غلطة العمر، ودخلت إلى الجامعة فأضعت بضع سنوات من عمري إلى أن حصلت على الشهادة الكبيرة الجوفاء، التي اكتشفت فيما بعد أنها مؤهل لانضمامي إلى طائفة «عبَدَة آخر الشهر» أي موظف ومجرد رقم في جهاز الخدمة تكون له قيمة مؤقتة عند نهاية كل شهر عندما يتسلم راتبه لحلحلة ديونه، بحيث يكون مؤهلا للاستدانة مرة أخرى.. واكتشفت أيضا أن والدي الأمي كان بعيد النظر عندما أعلن غضبه من استمرار تضييع عمري في تجاويف السلم التعليمي. ولذا فإنني وبعد أن أصبحت أبا بدوري فكرت في عدم تعريض عيالي للدغ من ذلك الجحر، وحاولت برمجة ابني الكبير ليكتسب المهارات الأساسية في كرة القدم، ليس لكي يصبح بالضرورة لاعبا مرموقا يباع بالعملة الصعبة. ولكن لكي يكون مدربا من ذلك النوع الذي يستطيع شراء عشرة جامعيين بما يعادل حوافز الفوز في مباراة واحدة. ولكن خاب ظني فيه، أما البنات وعندي منهن اثنتان فقد أعطيتهما حرية التعليم وحرية اختيار شريكي الحياة بشرط واحد لا تراجع عنه، وهو ألا تقترن إحداهما بجامعي بائس.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك