القراء الأعزاء،
في ظل المتغيرات العالمية من العولمة والثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، بات الموروث الشعبي للأمم يواجه خطر التراجع إن لم يكن الاندثار ما لم يتشبث أهله به.
ومن المعلوم أن الموروث الشعبي هو خلاصة ما حفظته الذاكرة الجمعية الشعبية وتناقلته عبر الأجيال، وغالباً لا يمكن نسبته إلى شخص معيّن أو جيل معيّن، والحقيقة أنه لا تهم نسبته إلى أشخاص بقدر ما يهم المجتمعات العبرة من هذا الموروث والأثر الإنساني الذي يمنح عُمقاً وإرثاً ثقافياً للجماعات ويُميّزها عن بعضها ويمنحها خصوصيتها.
ومن أهم مفرزات موروثنا الشعبي البحريني (فن الصوت) الذي اشتهرت به دول الخليج وارتبط إلى حد كبير بالبيئة البحرية الخليجية. وقد اختلفت المصادر التاريخية في مصدر نشأته بين البحرين والكويت، إلا أنه لا جدال في ان أهم روّاد هذا الفن الأصيل الفنان البحريني محمد بن فارس.
وإن الإبقاء على مثل هذه الفنون ذات الندرة في تقنياتها وأدائها يستوجب الاهتمام بها وضمان حمايتها على الصعيدين الرسمي والشعبي، شأنها شأن بقية حقوق الانسان الأخرى التي تعتبر من الركائز المهمة للمشروع الإصلاحي لمملكة البحرين المعاصرة في ذهن عاهلها المعظم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، على أن تكون هناك خطط مدروسة وممنهجة ضمن أهداف مستدامة تسعى للحفاظ على هذا الفن وبقية عناصر الموروث الشعبي البحريني باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الحقوق الثقافية التي كفلتها المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان.
وسأتطرق هنا إلى دور هيئة البحرين للثقافة والسياحة في تعزيز هذا الموروث والحفاظ عليه، والتي حرصت على توثيق هذا الفن ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، بجانب اشتغالها على تسليط الضوء على هذا الفن ضمن برامجها المختلفة، من ضمنها مهرجان ربيع الثقافة في مواسم مختلفة، منها الموسم الماضي 2025، حيث تفنن مجموعة من الشباب في تقديم هذا الفن بجانب المخضرمين من فناني البحرين.
وربما كان أول فن من نوعه يعتمد على مصاحبة فرقة موسيقية ذات مزيج من أدوات وترية حديثة مثل الكمان والقانون بجانب آلة العود وأدوات تقليدية مثل الطبل والمرواس حيث يبدأ مطرب فن الصوت بموال ثم يتغنّى بالنص الأصلي فالخاتمة في مقطوعة موسيقية متفردة، بجانب التصفيق باليدين، حيث يتمازج فيها أداء الآلات الموسيقية مع نغمات تصفيق الأيادي ذات الطابع الخاص (المتشابك) كما يسمّى، وتكون مادته الأساسية هي القصائد العربية الفصيحة التي تضفي نكهة ذات بعد تاريخي على المقطوعات الموسيقية، بجانب التعبير الحركي الذي يقوم به بعض الفنانين من أفراد الفرقة بشكل ثنائي، وهو نوع من الرقص الشعبي يُسمّى (بالزفان)، فعلى سبيل المثال قد يكون موال المقدمة بنغمته الخاصة بالنص الآتي:
جسد ناحل وقلب جريح، ودموعُ على الخدود تسيح
وحبيب مُرّ التجنّي ولكن كل ما يفعل المليح مليح (من كلمات بلبل الغرام الحاجري من العصر الأيوبي - موقع الديوان).
ثم يبدأ الغناء بمقطوعة غنائية بلحن آخر، على سبيل المثال:
يا من هواه أعزّه وأذلّني، كيف السبيل إلى وصالك دلّني
وصلتني حتى ملكت حشاشتي، ورجعت من بعد الوصال هجرتني
أنت الذي حلّفتني وحلفت لي، وحلفت أنك لا تخون وخنتني
وحلفت أنك لا تميل مع الهوى، أين اليمين وأين ما عاهدتني؟ (من كلمات سعيد بن أحمد البوسعيدي).
ويختم بلحن الختام كالتالي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم (من كلمات المتنبي)
أو بالكلمات الأشهر في فن الصوت وهي:
يا أم عمرٍ جزاك الله مكرمة
رُدّي عليّ فؤادي، أينما كانا
لا تأخذي فؤادي تلعبين به
وكيف يلعب بالإنسان إنسانا؟ من كلمات جرير، بتصرف)
وغيرها من الأمثلة الكثيرة للقصائد الفصيحة من مختلف العصور الشعرية والتي يُسهم فن الصوت في إضفاء نكهة جديدة ومغايرة على جمالها كعيون للشعر العربي، إذ يعتبر فن الصوت كمنظومة متكاملة فناً جميلاً شجياً كفيلا بأن يُطرب جميع الأذواق.
وفي رأيي أن تعزيز مثل هذا الفن النادر يجب ألا يُترك للصدف، بل يقتضي أن تتبنى أيضا الجهات ذات الصلة فكرة تدريسه والتدريب عليه ثم تبنى المواهب الحقيقية التي سيفرزها مختبر التعليم لتتمكن من صناعة أجيال مستقبلية تحافظ على استمراريته وديمومته حفاظاً على الإرث الشعبي والهوية الوطنية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك