كان المسرح صامتا… ثم نُطق اسمه، فأشرق الضوء من جهة القلب، وتنهدت الخشبة كأنها تعرفه جيدا، كأنها اشتاقت لصوته، لحضوره، لخطواته التي كانت تمشي على أطراف النصوص، ويده التي تربّت على أكتاف الممثلين كأنها تباركهم.
حمزة محمد، لا يُعرَّف بوظيفة، بل يستدعى كحالة، حالة من النقاء، من البساطة النبيلة، من الفن الذي لا يتكلف، بل يتنفس. لم يكن وجهاً على المسرح، بل كان المسرح وجهاً له، لم يأت ليُمثّل، بل ليُعيد تعريف التمثيل، لا على أنه حرفة، بل رسالة، حوار بين القلب والقلب.
في مهرجان الريف الكوميدي العاشر، كان الغائب الأشد حضوراً. ذُكر اسمه، فاهتزّت العيون، وتراجعت الكلمات، ومشت الذكريات حافية في زوايا الصالة الثقافية. لم يكن مجرد تكريم، كان استحضاراً لظلّ رجلٍ لم يفارق المكان أصلاً، ما زال صوته عالقًا في الإضاءة، ونَفَسه في كواليس البروفات، وابتسامته في عيون الشباب الذين أحبّوه، وتعلّموا منه كيف يمكن للفن أن يكون أباً، لا دوراً.
حمزة محمد كان يشبه الأغنية التي لا تصرخ، لكنها تبقى، يشبه الجملة التي تُقال بهدوء وتُحدث زلزالاً في الداخل، لم يكن خطيباً ولا متفاخراً، لكنه حين يتكلم، تنصت له الأرواح؛ لأنّ ما يقوله لا يمرّ على الحنجرة فقط، بل يولد من التجربة، من الحب، من الخسارة، من إيمانه العميق بأن الطفل في المسرح ليس مشاهداً صغيراً، بل مشروع أمّة كاملة.
كل من وقف على المنصة في هذا المهرجان كان يدور حوله، لا خطاب إلا ويستعيده، لا دمعة إلا وتسلك طريقها إليه، جاسم العالي وقف له وقفة تُشبه صلاة المسرحيّين. أحمد عيسى تحدّث عنه بحرقةِ الصديق المقصّر، المحبّ، الذي عرف أنه أمام رجل لا يُعوّض. ومريم زيمان لم تجد إلا صفة «التربوي» لتصف رجلاً كان يربّي حتى وهو يُضحك.
ومع كل لحظة، كان الجمهور يستمع وكأنهم يسمعون نَفَسه، يتخيلونه بين الكراسي، يصفّق من دون أن يُرى، ويهمس كعادته: «كملوا… بس من القلب».
ليس من السهل على مهرجان كوميدي أن يحمل هذا القدر من الحزن النبيل، لكن الريف فعلها، كرّمه، فازداد به هيبة، رفع صورته، فارتفعت معه قيمة المهرجان كله، ومنحه الحياة في لحظة موت، لأن حمزة لم يكن يرضى أن يُذكر إلا حين يكون للذكرى معنى، وللحديث أثر.
العروض التي قُدّمت في هذه الدورة لم تكن بعيدة عن روحه، ففي «ملچة طلاق» و«القُمْقُم»، كان صدى صوته واضحا في نقد الواقع بجرأة، في طرح قضايا الطلاق والتعليق والتربية المكسورة، والسجن… بلغة يعرفها الجمهور ولا يخاف منها.
وفي «توم سوير في البحرين»، كانت محاولات الدمج بين الأدب العالمي والمجتمع المحلي، كأنها تكمل طريقاً بدأه حمزة حين كان يرى أن المسرح ليس فقط ابن بيئته، بل ابن فكرٍ أعلى، ورؤية أبعد.
حمزة محمد لم يكن فناناً عابراً، بل كان جذراً، ينبت المسرح من ظله، وتُروى النصوص من صمته، لم يكن يعلّمنا كيف نُمثّل، بل لماذا نُمثّل.
وفي مهرجان الريف العاشر، لم نقف لنقول وداعا، بل لنقول: «ما زلت هنا يا أبا علي… المسرح الذي أحببته، لا يزال حيا بنبضك.»
هو لا يُكرّم، بل يُتلى، لا يُذكر، بل يُستحضر؛ لأن بعض القامات لا تموت، بل تتحوّل إلى خشبة، إلى ظل، إلى ضوء لا ينطفئ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك