العدد : ١٧٣٣٠ - الأربعاء ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٠ - الأربعاء ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

الثقافي

ظلٌ يمشي بين العروض

بقلم: رضا الستراوي

السبت ٢٤ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

كان‭ ‬المسرح‭ ‬صامتا‮…‬‭ ‬ثم‭ ‬نُطق‭ ‬اسمه،‭ ‬فأشرق‭ ‬الضوء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬القلب،‭ ‬وتنهدت‭ ‬الخشبة‭ ‬كأنها‭ ‬تعرفه‭ ‬جيدا،‭ ‬كأنها‭ ‬اشتاقت‭ ‬لصوته،‭ ‬لحضوره،‭ ‬لخطواته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬النصوص،‭ ‬ويده‭ ‬التي‭ ‬تربّت‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬الممثلين‭ ‬كأنها‭ ‬تباركهم‭.‬

حمزة‭ ‬محمد،‭ ‬لا‭ ‬يُعرَّف‭ ‬بوظيفة،‭ ‬بل‭ ‬يستدعى‭ ‬كحالة،‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬النقاء،‭ ‬من‭ ‬البساطة‭ ‬النبيلة،‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتكلف،‭ ‬بل‭ ‬يتنفس‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وجهاً‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬المسرح‭ ‬وجهاً‭ ‬له،‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬ليُمثّل،‭ ‬بل‭ ‬ليُعيد‭ ‬تعريف‭ ‬التمثيل،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬حرفة،‭ ‬بل‭ ‬رسالة،‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬القلب‭ ‬والقلب‭.‬

في‭ ‬مهرجان‭ ‬الريف‭ ‬الكوميدي‭ ‬العاشر،‭ ‬كان‭ ‬الغائب‭ ‬الأشد‭ ‬حضوراً‭. ‬ذُكر‭ ‬اسمه،‭ ‬فاهتزّت‭ ‬العيون،‭ ‬وتراجعت‭ ‬الكلمات،‭ ‬ومشت‭ ‬الذكريات‭ ‬حافية‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬الصالة‭ ‬الثقافية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬تكريم،‭ ‬كان‭ ‬استحضاراً‭ ‬لظلّ‭ ‬رجلٍ‭ ‬لم‭ ‬يفارق‭ ‬المكان‭ ‬أصلاً،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬صوته‭ ‬عالقًا‭ ‬في‭ ‬الإضاءة،‭ ‬ونَفَسه‭ ‬في‭ ‬كواليس‭ ‬البروفات،‭ ‬وابتسامته‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬أحبّوه،‭ ‬وتعلّموا‭ ‬منه‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للفن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أباً،‭ ‬لا‭ ‬دوراً‭.‬

حمزة‭ ‬محمد‭ ‬كان‭ ‬يشبه‭ ‬الأغنية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تصرخ،‭ ‬لكنها‭ ‬تبقى،‭ ‬يشبه‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬تُقال‭ ‬بهدوء‭ ‬وتُحدث‭ ‬زلزالاً‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خطيباً‭ ‬ولا‭ ‬متفاخراً،‭ ‬لكنه‭ ‬حين‭ ‬يتكلم،‭ ‬تنصت‭ ‬له‭ ‬الأرواح؛‭ ‬لأنّ‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬لا‭ ‬يمرّ‭ ‬على‭ ‬الحنجرة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬التجربة،‭ ‬من‭ ‬الحب،‭ ‬من‭ ‬الخسارة،‭ ‬من‭ ‬إيمانه‭ ‬العميق‭ ‬بأن‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬ليس‭ ‬مشاهداً‭ ‬صغيراً،‭ ‬بل‭ ‬مشروع‭ ‬أمّة‭ ‬كاملة‭.‬

كل‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬المنصة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المهرجان‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬حوله،‭ ‬لا‭ ‬خطاب‭ ‬إلا‭ ‬ويستعيده،‭ ‬لا‭ ‬دمعة‭ ‬إلا‭ ‬وتسلك‭ ‬طريقها‭ ‬إليه،‭ ‬جاسم‭ ‬العالي‭ ‬وقف‭ ‬له‭ ‬وقفة‭ ‬تُشبه‭ ‬صلاة‭ ‬المسرحيّين‭. ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬تحدّث‭ ‬عنه‭ ‬بحرقةِ‭ ‬الصديق‭ ‬المقصّر،‭ ‬المحبّ،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬أنه‭ ‬أمام‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬يُعوّض‭. ‬ومريم‭ ‬زيمان‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬إلا‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬التربوي‮»‬‭ ‬لتصف‭ ‬رجلاً‭ ‬كان‭ ‬يربّي‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يُضحك‭.‬

ومع‭ ‬كل‭ ‬لحظة،‭ ‬كان‭ ‬الجمهور‭ ‬يستمع‭ ‬وكأنهم‭ ‬يسمعون‭ ‬نَفَسه،‭ ‬يتخيلونه‭ ‬بين‭ ‬الكراسي،‭ ‬يصفّق‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُرى،‭ ‬ويهمس‭ ‬كعادته‭: ‬‮«‬كملوا‮…‬‭ ‬بس‭ ‬من‭ ‬القلب‮»‬‭.‬

ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬على‭ ‬مهرجان‭ ‬كوميدي‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬النبيل،‭ ‬لكن‭ ‬الريف‭ ‬فعلها،‭ ‬كرّمه،‭ ‬فازداد‭ ‬به‭ ‬هيبة،‭ ‬رفع‭ ‬صورته،‭ ‬فارتفعت‭ ‬معه‭ ‬قيمة‭ ‬المهرجان‭ ‬كله،‭ ‬ومنحه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬موت،‭ ‬لأن‭ ‬حمزة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرضى‭ ‬أن‭ ‬يُذكر‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬للذكرى‭ ‬معنى،‭ ‬وللحديث‭ ‬أثر‭.‬

العروض‭ ‬التي‭ ‬قُدّمت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬روحه،‭ ‬ففي‭ ‬‮«‬ملچة‭ ‬طلاق‮»‬‭ ‬و«القُمْقُم‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬صدى‭ ‬صوته‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬الواقع‭ ‬بجرأة،‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬قضايا‭ ‬الطلاق‭ ‬والتعليق‭ ‬والتربية‭ ‬المكسورة،‭ ‬والسجن‮…‬‭ ‬بلغة‭ ‬يعرفها‭ ‬الجمهور‭ ‬ولا‭ ‬يخاف‭ ‬منها‭.‬

وفي‭ ‬‮«‬توم‭ ‬سوير‭ ‬في‭ ‬البحرين‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬محاولات‭ ‬الدمج‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬والمجتمع‭ ‬المحلي،‭ ‬كأنها‭ ‬تكمل‭ ‬طريقاً‭ ‬بدأه‭ ‬حمزة‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬المسرح‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬ابن‭ ‬بيئته،‭ ‬بل‭ ‬ابن‭ ‬فكرٍ‭ ‬أعلى،‭ ‬ورؤية‭ ‬أبعد‭.‬

حمزة‭ ‬محمد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فناناً‭ ‬عابراً،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬جذراً،‭ ‬ينبت‭ ‬المسرح‭ ‬من‭ ‬ظله،‭ ‬وتُروى‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬صمته،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلّمنا‭ ‬كيف‭ ‬نُمثّل،‭ ‬بل‭ ‬لماذا‭ ‬نُمثّل‭.‬

وفي‭ ‬مهرجان‭ ‬الريف‭ ‬العاشر،‭ ‬لم‭ ‬نقف‭ ‬لنقول‭ ‬وداعا،‭ ‬بل‭ ‬لنقول‭: ‬‮«‬ما‭ ‬زلت‭ ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬علي‮…‬‭ ‬المسرح‭ ‬الذي‭ ‬أحببته،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حيا‭ ‬بنبضك‭.‬‮»‬

هو‭ ‬لا‭ ‬يُكرّم،‭ ‬بل‭ ‬يُتلى،‭ ‬لا‭ ‬يُذكر،‭ ‬بل‭ ‬يُستحضر؛‭ ‬لأن‭ ‬بعض‭ ‬القامات‭ ‬لا‭ ‬تموت،‭ ‬بل‭ ‬تتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬خشبة،‭ ‬إلى‭ ‬ظل،‭ ‬إلى‭ ‬ضوء‭ ‬لا‭ ‬ينطفئ‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا