حالة السُبات شبه الكامل، التي تعيشها المجتمعات العربية منذ انفجار حرب الإبادة على غزة، تثير الكثير من التساؤلات والنقاشات حول وضع المجتمعات العربية وأسباب جمودها مقارنة بالمجتمعات الأوروبية التي أبدعت وابتكرت في مساندتها ودعمها لسكان غزة وللقضية الفلسطينية بشكل عام. نناقش في هذا المقال هذا الوضع في محاولة لتسليط الضوء على أهمية الاستفادة من حيوية المجتمعات في التقدم والازدهار وانتاج المعرفة والعلوم والتكنولوجيا، التي هي أساس التنمية المستدامة ومصدر القوة والمنعة التي تحتاج إليها الأمة في مواجهة أزماتها واستعادة حقوقها من موقع القوة.
يعتبر المجتمع المدني أحد الركائز الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز قيم الحداثة والديمقراطية، كما يلعب دورًا محوريًا في بناء التماسك الاجتماعي وتعزيز الثقة بين المجتمع والدولة وتعزيز مواقف الدول العربية في مواجهة التحديات والتهديدات الخارجية، فما مدى فعالية المجتمعات العربية ومدى أهمية تعزيز دورها في التنمية، ومتى يكون تفعيل قرار الدول العربية في قمة تونس 2004 بوجوب تعزيز مشاركة منظمات المجتمع المدني.
لمناقشة ذلك نتناول التوصيات التي تقدمت بها منظمات المجتمع المدني العربية بعنوان (توصيات المجتمع المدني للقمة العربية التنموية عام 2019) إلى القمم العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية (من قمة الكويت 2009 إلى قمة بيروت 2019 مرورا بقمة شرم الشيخ 2011 وقمة الرياض 2013). هدفت التوصيات الى تعزيز مشاركة المجتمع المدني في صنع القرار وفي التنمية المستدامة بشكل عام. تلخصت التوصيات في الاشارة الى الدور الذي يمكن للمجتمع المدني ان يقوم به في مسيرة التنمية والتحولات الديمقراطية، منها تعزيز الشراكة بين المجتمعات والحكومات لضمان تنفيذ السياسات التنموية بشكل فعال ومستدام؛ تحسين البيئة القانونية لمنظمات المجتمع المدني لضمان استقلاليتها وكفاءتها؛ دعم مبادرات تعزيز الشفافية والمساءلة ومحاربة الفساد في عمل المجتمع المدني ومؤسسات الدولة؛ توسيع فرص المشاركة المدنية في صنع القرار لضمان استجابة السياسات لمتطلبات المجتمع. فما النتائج التي تحققت والتحديات التي تواجه المجتمع المدني العربي؟
تُبرز الورقة قدرة المجتمع المدني على مساعدة الدولة والمساهمة من خلال دعم الفئات الضعيفة، وتوفير خدمات أساسية وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال لاستمرارية واستدامة المشاريع التنموية. ففي حالة وجود مجتمع مدني حيوي، بإمكانه توفير منح مالية لدعم مشاريع ناشئة وتنظيم دورات تدريبية للشباب لتطوير مهاراتهم الريادية، وإنشاء حاضنات لتطوير الافكار، وتنظيم لقاءات بين المستثمرين ورواد الاعمال. كذلك، من خلال علاقاته بالجهات الرسمية، يمكنه الدعوة الى سياسات داعمة، وتسهيل الاجراءات وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية وحقوق الإنسان. فمثلا هناك جمعيات مدنية فاعلة في مجال المسؤولية المجتمعية تتواصل مع القطاع الخاص لدعم المجتمع.
لكي يقوم المجتمع المدني بدوره يحتاج الى بيئة حاضنة للمشاركة الفعالة. فالمؤسسات المدنية يمكنها أن تسهم في تعزيز مبادئ الحكم الرشيد، وحماية حقوق الإنسان ورفع مستوى النزاهة من خلال منظمات مستقلة لمحاربة الفساد، وتمكين الفئات الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى ترسيخ ثقافة الديمقراطية والمشاركة السياسية البناءة. ووفقًا لتوصيات الورقة، فإن المجتمع المدني يجب أن يكون شريكًا في صنع القرار لضمان تطور المجتمعات بشكل ديمقراطي ومستدام وفعال يتواكب مع تطور الدولة. قد يكون من أهم مساهمات المجتمع المدني في التنمية هي تعزيز اللحمة الاجتماعية من خلال بناء جسور التواصل بين مختلف فئات المجتمع، وتعزيز ثقافة الحوار وقبول الآخر. كما أن بإمكانه توفير بيئة تشاركية تسهم في تقوية الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، مما يعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي. تؤكد التوصيات أهمية دعم المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف عبر تحسين الأطر القانونية والتشريعات، بما يضمن استقلالية المنظمات المدنية.
لكن يبقى السؤال: لماذا لم يتمكن المجتمع المدني من ان يكون شريكا في صنع القرار في كثير من الدول العربية؟ هل هو ضعف منه ام تمنع من بعض السلطات لإفساح المجال له وإعطائه الدعم المناسب؟ وما الشروط الواجب توافرها لبناء البيئة الحاضنة لتحقيق هذه المشاركة؟
من المعوقات التي أشارت إليها الورقة، ان بعض الدول تعاني من ضعف الديمقراطية مما يحد من القدرة على المشاركة السياسية الفعالة. كذلك تشير الورقة الى الثقافة السياسية وضعف الوعي السياسي لدى قطاع كبير من المواطنين، مما يؤدي الى عزوفهم عن المشاركة؛ كذلك هناك عوامل اقتصادية اهمها تدني مستوى المعيشة والبطالة مما يجعلهم يفضلون التركيز على تأمين متطلبات العيش الكريم والعزوف عن المشاركة الاجتماعية. بالإضافة الى ذلك هناك نوع من عدم الثقة في بعض المؤسسات الرسمية نتيجة غياب الشفافية والمساءلة.
لذلك ترى الورقة أن نجاح برامج ورؤى التنمية في الوطن العربي يحتاج إلى دعم ومساندة المجتمع المدني، يتطلب ذلك رفع بعض القيود المؤثرة في نشاطه، وتفادي جوانب الضعف فيه من خلال زيادة التمويل لتحقيق الاستدامة المالية لتمكينه من تنفيذ مشاريع مؤثرة؛ إفساح المجال وترغيب الكفاءات في الانخراط في صفوف قياداته لرفع مستوى الكفاءة الإدارية والتنظيمية؛ تحفيز منظمات المجتمع المدني على إيجاد شبكات قوية تؤمن التعاون بين هذه المنظمات للحد من تشتت الجهود. فمتى ما توافرت القيادات القادرة، سوف تعمل على رفع الوعي السياسي والقدرات التنظيمية والمعرفية التي تمكنها من المشاركة والدعم في صنع القرار.
قد تحتاج الاصلاحات إلى حشد الارادة السياسية في كثير من الدول العربية ومراجعة القوانين والانظمة التي تحد من نشاط المجتمع المدني وفتح القنوات الرسمية لمساعدته بما في ذلك تيسير التمويل. فمثلا تَبنَّت الحكومة المغربية سياسات لتعزيز دور المجتمع المدني في التنمية، حيث تم تعديل القوانين المتعلقة بالجمعيات الأهلية لتسهيل عملها وضمان استقلاليتها، وهو ما يتماشى مع توصيات الورقة حول تحسين البيئة القانونية لمنظمات المجتمع المدني، كذلك لعب المجتمع المدني التونسي دورًا رئيسيًّا في صياغة الدستور الجديد وتعزيز الديمقراطية، وهو ما يعكس توصيات الورقة حول أهمية إشراك المجتمع المدني في التحولات الديمقراطية. على الرغم من شمولية الورقة وأهمية مشاركة المجتمع المدني في تحقيق التنمية والحداثة والتحول الديمقراطي، فإنها تفتقد إلى الآليات لمتابعة تلك التوصيات سواء كان من قبل منظمات المجتمع المدني أو من قبل السلطات في كثير من الدول العربية.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك