قبل سنة من الآن، وفي ذروة الاضطرابات التي عمت الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، طُلب مني إلقاء كلمة في مؤتمر حول موضوع «كيفية إدارة الحوار المدني»، وقد سعدتُ بهذه الفرصة لأن مسألة كيفية إدارة الحوار المدني كانت (ولا تزال) مسالة ملحة وضرورية.
يعيش الأمريكيون في بيئة تتسم بالانقسامات والاستقطاب، حيث تبدو الفجوات السياسية والثقافية التي تفصل بينهم غير قابلة للتجسير، سواءً في العلاقات الخارجية للولايات المتحدة أو في نقاشات الكونغرس، أو في مجتمعاتها أو عائلاتها، وغالبًا ما يبدو أن أصحاب الآراء المتعارضة في القضايا أكثر اهتمامًا بتسجيل النقاط من السعي إلى تحقيق التفاهم وسد الهوة.
عندما بدأت في إعداد كلمتي، فكرت في أربعة دروس مهمة تعلمتها من أشخاص كانوا مهمين في حياتي.
أعترف أنني كنتُ في فترة مراهقتي أميل إلى معرفة كل شيء قبل أوانه. كنتُ مولعًا بالأفكار، وكنتُ أناقش معتقداتي مع كل من أتعرف عليهم أو تتقاطع دروبي معهم. في أحد الأيام، كنتُ أنا وأمي نزور عمتي، وسرعان ما انخرطتُ أنا وعمتي في جدال حول معنى إحدى قصص العهد الجديد.
وفي لحظة ما، تدخلت أمي قائلةً: «توقف وانظر إلى نفسكِ. أنتِ جالس على حافة مقعدكِ. تقول ما لديك وتبدي رأيك، وفي اللحظة التي تبدأ فيها عمتك بالرد، تكون مستعدا للانقضاض دون أن تستمع إلى أي كلمة مما تقوله، لأن كل ما تفكر به هو ردك. إن لم تستمع إليها بكل انتباه، فهي لن تسمعك لأنك تتحدث إليها لا معها».
كانت أمي تقول لي أيضًا: «لا تخطئ بأعلى صوتك». لا شك أن ارتفاع الصوت ليس مقياسًا للصواب. قد يُشعرك التحدث بصوت عالٍ بالراحة، لكن لأنه يُنفر من تُحادثهم، فبدلًا من أن يُصغون إليك، فإنهم غالبًا ما يُنهون الحديث معك.
وعلى المنوال نفسه، في بداية مسيرتي المهنية، كانت زوجتي إيلين تحضر خطاباتي وتجلس في آخر القاعة، في مكان أستطيع رؤيتها فيه. كنت شابًا، وكنت أميل إلى استخدام لغة نارية متشنجة.
وعندما كنت أتجاوز الحدود وأقول شيئًا قاسيًا أو فظًا، كانت إيلين تتأثر من طريقتي. فقد كانت وجهة نظرها أنه، مع أنني قد أظن أن استخدام مثل هذه اللغة يُحدث تأثيرا، إلا أنها في أحسن الأحوال تُشتت انتباه الكثيرين من الحضور، وفي أسوأ الأحوال تُنفرهم.
لقد تعلمتُ أنه إذا كنتُ أحاول التعبير عن معاناة شعبٍ مُحاصر، فإنني أتحمل مسؤولية مخاطبة أناسٍ لن يتمكنوا من مخاطبتهم. فقد كان عليّ احترام الجمهور الذي أحاول الوصول إليه حتى يرغب في سماع رسالتي.
وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، أدركتُ التطبيقات الأوسع لهذه الدروس البسيطة في الإنصات والحوار المدني. فقد دُعيتُ للعمل مع عدد من خبراء السياسة الخارجية ومسؤولين حكوميين سابقين منتخبين ومعينين في فريق عمل تابع لمجلس العلاقات الخارجية معني بالدبلوماسية العامة.
كانت المسألة المطروحة هي كيفية التعامل مع العالم العربي في هذه الحقبة. وبالنسبة إلى بعض زملائي، تراوحت الأفكار المطروحة بين قصف العراق وإلقاء محاضرات عن الديمقراطية.
وفي نفس الوقت تقريبا، طلبت مؤسسات في العالم العربي مني ومن أخي جون زغبي إجراء استطلاعين منفصلين للرأي: الأول لمعرفة ما يفكر فيه العرب بشأن قيمهم ومخاوفهم، والثاني لقياس مواقف العرب تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أظهرت نتائج الاستطلاعين أن الاهتمامات الرئيسية لمعظم العرب كانت تتعلق بأسرهم ومستقبلهم. فقد عبروا عن رغبتهم في الحصول على وظائف جيدة، ورعاية صحية ملائمة، وفرص تعليمية لأطفالهم، والسلامة والأمن في مجتمعاتهم.
لقد تعلمنا أيضًا أنه، خلافًا للآراء السائدة بين الأمريكيين، فإن العرب يحبون الولايات المتحدة الأمريكية - شعبها، ونظامها التعليمي، ومنتجاتها، وثقافتها وقيمها، لكن ما لم يعجبهم هو طريقة تعامل الولايات المتحدة الأمريكية معهم.
لم تُسهم تلك النتائج في إثراء مناقشات فريق العمل فحسب، بل هيّأتني أيضًا لاجتماعات مع وكلاء وزارة الخارجية لشؤون الدبلوماسية العامة في إدارة جورج دبليو بوش، وقد أتيحت لي فرصة مقابلة كل من عيّنه السيد بوش في هذا المنصب.
إن الشرط الأساسي لأي عملية تواصل حقيقية يجب أن يكون الاعتراف بأهمية فهم احتياجات ومخاوف «الآخر».
وعندما سألني كلٌّ منهم عمّا أنصح به، اقترحتُ عليهم ألا يبدأوا بإلقاء المحاضرات في رحلاتهم إلى الدول العربية، بل أن يطرحوا الأسئلة وينصتوا. كنتُ أقول: «لا تفترضوا أنكم تعرفون ما يفكرون فيه أو ما يريدون سماعه منكم».
وفي الوقت نفسه تقريبا، دعاني الشيخ عبد الله بن زايد، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة، للقاء مجموعة من الوزراء من دول الخليج لمناقشة كيفية مساعدتهم في رأب الصدع بين منطقتهم والولايات المتحدة الأمريكية.
ومع تقدم الاجتماع، انتقد عدد من الوزراء الجهود الأمريكية الرامية إلى إشراكهم، وكانت لديهم وجهات نظر متباينة بشأن ما ينبغي عليهم فعله لتحسين صورتهم أمام الأمريكيين.
وخلال كل ذلك، استمع الشيخ عبد الله وفهم ما لم يفهمه كثير من زملائه: الأمريكيون لا يفهمون العرب، والعرب لا يفهمون الأمريكيين. لذلك، ورغم حسن النيات، فإن جهود كلا الجانبين ستفشل.
وفي معرض حديثه عن المحاولات الفاشلة للدبلوماسية العامة من كلا الجانبين، قال: «كما تعلمون، في النهاية، لن نتمكن نحن العرب من مساعدة الأمريكيين على فهمنا ما لم نفهمهم أولاً. وبالمثل، لن ينجح الأمريكيون في جهودهم لتعريفنا بشخصياتهم ما لم يخصصوا الوقت الكافي لمعرفتنا أولاً».
يجب أن يُشكّل هذا الدرس البسيط أساسًا لأي جهدٍ في الحوار المدني. فحيثما وُجدت اختلافات، يجب أن يكون الشرط الأساسي لأي تواصل حقيقي هو إدراك أهمية فهم احتياجات «الآخر» وهمومه.
وكما قد يقول الناشط في مجال الحقوق المدنية والسياسي الأمريكي القس جيسي جاكسون: فقط إذا حاولت أن أفهمهم وأخاطبهم بشكل مباشر، فسوف يتمكنون من الانفتاح على فهمي.
وهكذا، فإن الدروس بسيطة: استمع قبل أن تتحدث، وتحدث بهدوء وتجنب الخطاب الفظ، واحترم جمهورك، وحاول التحدث عن مخاوفهم من أجل فتح عقولهم لسماعك.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك