الذكاء الاصطناعي من التقنيات المثيرة للجدل في الأوساط العلمية والسياسية والثقافية والتربوية؛ بسبب أن تطبيقاته دخلت في جميع مجالات الحياة. وأصبح واقعا ولا يمكن لأي مجتمع يريد أن يجاري التقدم والتطور في العالم الاستغناء عنه ويغض الطرف عن هذا الاختراع المثير للعجب الذي بات العصر الذي نعيشه اليوم ينعت باسمه.
لكن مع إيماننا الراسخ، بقدرات ومميزات هذا الابتكار العجيب، ودوره الفاعل في تسهيل الكثير من أمور حياتنا، وقناعاتنا بأن تقدم الدول وتطورها يمر عبر بوابته، إلا أن ذلك لا يعفينا من النظر إلى الوجه المعتم لهذه التقنية الساحرة، والتنبيه إلى مخاطرها على مجتمعاتنا التي لا تزال تحبو على طريق التكنولوجيا، ولا داعي للتذكير بأن مجتمعاتنا العربية لا تزال تواجه تحديات عدة تعرقل تطور مسيرتها؛ فالتعليم في بلداننا العربية لا يلبي في كثير من الحالات طموحاتنا ويسير ببطء نحو تحقيق أهدافه، كما أن اتساع الفجوة العلمية بين دولنا والدول المتقدمة لا تزال عميقة وتظهر في مجالات عديدة، مثل البحث العلمي والتكنولوجيا والتعليم العالي.. وبناء على هذه الحقائق، فإن ما يقلقنا هو: إن الذكاء الاصطناعي سيعمق تلك المشكلات؛ إذ سيساعد على انخفاض الدافعية نحو التعليم لدى المواطن العربي، ويجعل لسان حاله يقول: لماذا أبذل جهدا في القراءة والتعلم ما دام «الذكاء الاصطناعي» يوفر لي كل ما أريد من معلومات وبيانات ونصوص، ويقدمها لي على طبق من ذهب.
لا شك أن أصحاب هذا (التخصص) متحمسون لهذا الاختراع، ونحن لا نعترض على حماسهم، لكن من حقنا أن نذكرهم بأن: ليس بالتكنولوجيا وحدها يعيش الإنسان، كما أن الذكاء الاصطناعي ليس هو البوابة الوحيدة للدخول إلى التنمية والمستقبل. لأننا نعي جيداً أن كل الاختراعات التي صنعها الإنسان تحمل في طياتها الخير والشر، وأن الإنسان هو الذي يوجهها إلى الخير، وهو أيضاً الذي يوظفها في الشر.، ونذكر هنا أن مخترع الديناميت «ألفرد نوبل» انتابه شعور بالذنب بسبب اختراعه المدمر للبشرية، وأراد أن يكفر عن ذنبه بسبب هذا الاختراع؛ فأوصى بإنشاء جائزة نوبل للسلام لتمنح للأشخاص الذين يسهمون في نشر السلام والوئام في العالم. وعليه، فإن هذا الاختراع العظيم «الذكاء الاصطناعي» لن يختلف عن الاختراعات الأخرى فهو ليس كله خيراً، وإنما يحمل في أحشائه مكامن الشر.
المشتغلون في هذا القطاع يقولون: إن المسألة تحتاج إلى تنظيم وتشريعات وقوانين تنظم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويرى هؤلاء أيضاً أن العالم المتقدم قد قطع شوطاً بعيداً على طريق وضع المعايير الدولية مثل: اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، وقوانين منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، إضافة إلى التشريعات الوطنية مثل قانون حماية البيانات الشخصية (PDPL) وقوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية. ويزعم هؤلاء أن مثل هذه التشريعات كفيلة بالحد من المخاطر الناتجة عن سوء استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: هل وضع التشريعات والقوانين يكفي للحد من مخاطر الذكاء الاصطناعي؟
الوقائع على الأرض تشير إلى أن تلك القوانين لم تحد من سوء استخدام هذه التقنية بدليل تزايد الجرائم الإلكترونية، كما أن التاريخ يعلمنا أن القوانين الدولية لم توقف الحروب في العالم، وهي أيضاً لم تمنع أمريكا من إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وتدميرهما.
إن ما نحتاج له اليوم، هو إعادة الاعتبار إلى العلوم الإنسانية – كالفلسفة وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والأدب، والفنون وهي مجالات تبحث في طبيعة الإنسان وجوهره: كيف يفكر، ويتفاعل، ويعبر، ويحكم، ويتطور. فهذه العلوم هي التي تسمو بالإنسان وتهيئه لفهم المتغيرات التي تنعكس آثارها على المجتمع خاصة في هذا العصر الذي بدأت فيه التكنولوجيا تتحكم بشدة في مسار حياة الفرد والمجتمع.
بناء على ذلك، فإن الاهتمام بالعلوم الإنسانية باتت حاجة مهمة أكثر من أي وقت مضى؛ لأنها هي السلاح الذي ندافع به ضد من تسول له نفسه سوء استخدام تقنيات التكنولوجيا، وهي التي تسعفنا في توجيه تقنية الذكاء الاصطناعي نحو ما يعزز القيم الإنسانية التي تؤكد الاستفادة من الإنجازات العلمية لخير الإنسانية.
إن التكنولوجيا وحدها لا تنتج مجتمعات متوازنة، ونتيجة لذلك يصبح علم النفس ضرورياً لفهم المشكلات النفسية للاستخدام المكثف للتكنولوجيا وخصوصاً لدى الأطفال الذين أصبحوا يعانون من ما يسمى «بالإدمان الرقمي». كما أننا في أمس الحاجة إلى إحياء الفلسفة، وبعثها من جديد، لأنها أصبحت ضرورية بحكم دورها في طرح الأسئلة التي تتعلق بالأخلاق والضمير في عصر ما بعد الثورة الصناعية الثالثة.
إننا اليوم، أمام ثورة من نوع جديد تختلف عن الثورات الصناعية السابقة؛ تلك التي غيرت من طريقة عملنا وحياتنا. أما «ثورة الذكاء الاصطناعي» فقد غيرت من طريقة تفكيرنا، ومشاعرنا، وقراراتنا. وأصبح هذا الاختراع متغلغلا في كياننا، ولهذا فلن يكفينا إتقان المهارات التكنولوجية التي تعيننا في التعاطي معه كآلة، بل إن ما نحتاج إليه هو «الأخلاقيات» وهي التي تقدمها العلوم الإنسانية. لذا، لن نستطيع التعاطي مع «ثورة الذكاء الاصطناعي» بحكمة ما لم يكن لدينا إلى جانب المشتغلين بهذه التقنية ثلة من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والفنانين. فمن دون هؤلاء ربما ننتج نهضة علمية ومجتمعا متقدما لكنه قد تغيب عنه العدالة وتغلب عليه الماديات.
إن المجتمعات التي ترنو إلى التقدم، هي تلك التي تسعى إلى تنمية قدرات أبنائها على الفهم والتحليل والربط والتفكير الأخلاقي. والعلوم الإنسانية هي البئية الحاضنة التي تصقل فيها هذه القدرات، وتبنى فيها العقول القادرة على قيادة المستقبل.
رب قائل يقول: إن مجتمعاتنا متخمة بالمتخصصين بالعلوم الإنسانية، وهذا القول صحيح، لكن هذا لا يعطينا مبرراً لإلغاء هذه العلوم من جامعاتنا أو مدارسنا أو إهمالها أو عدم الاهتمام بها؛ فالدول المتقدمة في العلوم والتكنولوجيا لم تلغ هذه العلوم، ولم تهملها، فهي لا تزال محتفظة بمكانتها، ولا يزال أساتذتها ومفكروها لديهم حظوة في المجتمع ويحتفى بهم في أرقى الجامعات العريقة على عكس ما يحدث عندنا في أغلب مجتمعاتنا العربية.
في تقديري، إن مواجهة سوء استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لا يتم من خلال تطبيق إجراءات السلامة والمعايير الأخلاقية المعترف بها دوليا، ولا من خلال التشريعات، وتعزيز الرقابة، وتكثيف برامج التوعية والتدريب لسبب بسيط وهو أننا لا نزال نعتمد على حلول ذكاء اصطناعي مطورة خارجيا، وهو الأمر الذي يحد من السيطرة الكاملة على المعايير الأخلاقية لهذه الأنظمة.
خلاصة القول، إننا لسنا ضد الولوج في عالم التكنولوجيا وبالأخص في مجال «ثورة الذكاء الاصطناعي» لأن ذلك من المستحيل في عالمنا اليوم، لأن التكنولوجيا متغلغلة في تفاصيل حياتنا، لكن كل ما ندعو إليه هو إيجاد بيئة وحاضنة أخلاقية لهذا المولود الجديد حتى يتحصن من كل الأمراض الاجتماعية التي قد تفضي إلى انحرافه عن مساره الصحيح، فيتحول إلى وحش كاسر، وشيطان يدمر القيم والفضائل بدلا من مساهمته في الارتقاء والسمو بها. ولكي يظل عوناً للإنسان في حل كثير من التحديات والمشكلات التي تواجهه في مجالات الحياة المختلفة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك