هناك تساؤلات عدة حول شكل وأقطاب النظام الدولي المعاصر، بين عودة عالم القطبين الأمريكي والروسي، أو استبدال روسيا بالصين، أو بقاء الثلاثة أقطاب للعالم، وهل سيقودنا قطب أوحد أمريكي أو صيني، واحتمالات إقامة نظام سوي ومتعدد الأطراف، لا يتمتع فيه أي طرف بالقدرة على حسم الأمور فرادة، أو نحن على أبواب نظام متعدد الأقطاب تتكاثر فيه الأطراف القوية المتنازعة، تساؤلات عدة ومتباينة في مرحلة مضطربة وانتقالية حساسة وخطرة.
تسلط الأضواء دائما على الأطراف الأكثر ثراءً والأعظم قوة، وتعد الأكثر نجاحا وتميزا في ساحات ومجالات، على رغم اختلاف وأحياناً تناقض مجال عن الآخر، منها الحرب أو السلام، والبناء والهدم، والاقتصاد والمال، والصناعة والتجارة… إلخ.
يظل تقدير الثراء والقوة يختلف بحسب الظرف والحال، مع تنوع الاعتبارات والمعايير التي تدخل في التقييم، وإذا اعتبرنا أن نسبة الناتج القومي لكل مواطن في الدولة هو المعيار السليم لتحديد الثراء، سنجد أن لوكسمبورج أغنى دول العالم، وتليها سنغافورة ومنطقة ماكاو الصينية، في حين أن الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد ستكون مرتبتها الـ10، والهند خامس اقتصاد في العالم سيقع ترتيبها رقم 124، في حين أنه إذا اعتبرنا أن المعايير الصحيحة للثراء هي الناتج القومي مع الأخذ في الاعتبار القدرة الشرائية الموازية، فسنجد أن ترتيب الدول هو الصين والولايات المتحدة والهند وروسيا واليابان وألمانيا وإندونيسيا والبرازيل وفرنسا وبريطانيا.
وإذا سعينا إلى وضع معايير لتقييم القوة في عالم وصل فيه الإنفاق العسكري إلى 2.46 تريليون دولار، من بينها ما يتجاوز 824 مليار دولار من جانب الولايات المتحدة الأعلى إنفاقا، فعلينا إضافة بل تغليب القدرات العسكرية والسياسية، علماً أن القوة ليست مطلقة ولكل حال وساحة اعتبارات عسكرية برية وبحرية وجوية طويلة وقصيرة المدى وغيرها بحسب الطبيعة الجغرافية، وبالمنظور العام والأهداف والطموحات السياسية، على المستوى الإقليمي أو الدولي.
من الواضح للكل أن الطموحات الغربية- الأمريكية- الأوروبية تتنافس، إنما تختلف عن المنظور اليورو آسيوي لروسيا وحتى الصين، وجميعهم يختلفون في المنظور السياسي وأهداف دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا ومعظم آسيا، وما جدوى مقارنة قدرة عسكرية لدول من المستحيل أن تدخل في صدامات عسكرية مباشرة نظراً إلى أن لأحدهم طموحات دولية والآخر وطنية أو إقليمية فحسب، وما أهمية من يتفوق في القدرات البحرية أو البرية بين دول شاسعة مطلة على المحيطات والبحار وأخرى صغيرة غير ساحلية على الإطلاق.
إن القدرات المادية والعسكرية ضرورية في توفير حاجات الشعوب وحماية مصالح الدول، إنما هناك مبالغة في التركيز على الثراء والقوة، وأرى من الخطأ الاعتماد على أن الثراء أو القوة لها صفة الدوام، فضلاً عن أن الثراء المهيمن مضر والقوة الغاشمة ظالمة.
على مدى الزمن أحدثت التطورات السياسية والعالمية تغييرات واسعة على مستوى الدول، من بينها ما واكب تآكل وانهيار الاستعمار الأوروبي القديم، وانتهاء الحرب الباردة مرحليا بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وخروج سيطرة شركات الطاقة على قوائم أضخم وأغنى الشركات العالمية لمصلحة شركات الاتصالات والبرمجة والرقمنة والتكنولوجيات وأصحاب الابتكار التكنولوجي وصعود سلم الثراء سريعاً إلى مستويات لم تكن في الحسبان سابقاً، تطورات غيرت من شكل وطبيعة النظام الدولي، وتعريف القوة وشكل الحروب التي أصبحت أكثر فتكا وتدار على مسافات بعيدة.
وعادة تحتفظ الأطراف المتفوقة من ناحية القوة والثراء بمكانتها عبر مدى زمني طويل أو متوسط الأجل، وتنقل الريادة تدريجيا، وقد تسرع المعدلات مع ظهور لحظات فارقة تغير من المعادلات والتنافسية، ومن بينها ما يرتبط بأحداث سياسية مثل الحروب العالمية، أو توجهات سياسية جديدة مثل حركات التحرير، أو تطورات اقتصادية واجتماعية نتيجة للفتوحات التكنولوجية، مثل الثورة الصناعية في القرن الماضي، أو الثورة التقنية والاتصالات عبر الأعوام الـ50 الماضية لأن العالم في حالة تغير مستمرة تتغير فيها نسب الثراء وتوازنات القوة.
وأما الريادة فهي مسألة مختلفة تماماً، وتتجاوز الثراء والقوة، وتشمل اعتبارات عدة أخرى، مثل القدرة على التأثير في الغير وتبني مواقف وسياسات وتجربة يرغب الغير في أن يُحتذى بها فترات ممتدة، ويفترض في صاحبها احترام الحق ونبذ الباطل ومراعاة المصلحة العامة، وأن يكون مثالاً وتجربة يأملها الغير ويتطلع إليها، مثل الفلسفة الاشتراكية بقيادة سوفياتية خلال القرن الماضي، وكذلك المنظومة الليبرالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى عقود قريبة من الزمن، إلى أن فشلت وتفككت إحداها وانكشفت الأخرى لتطبيقها معايير مزدوجة داخليا وخارجيا أفقدتها رونقها وصدقيتها، وصعدت حركة عدم الانحياز سريعاً لتوفير بديل آخر لتمثل ضمير وميزان العالم، غير أنها فقدت رونقها ومكانتها مع انغماس أعضائها في المشكلات اليومية والطموحات قصيرة الأجل، على الرغم من أن أعضاءها دول متوسطة والأكثر احتياجا إلى نظام دولي مستقر.
ويجمع العالم الآن على الإثراء والقوة وإنما تغيب عنه الريادة الرشيدة الحكيمة السوية، والنظم والمؤسسات تمر الآن بمرحلة مضطربة، ولم يتضح بعد مَن مِن الدول أو المنظمات التي تستحق وتحظى بالدور الريادي المستقبلي على المستوى الدولي، مما يفرض علينا وبعجالة اتخاذ بعض الخطوات الاستباقية المرحلية لضبط الأمور ومنع تفاقمها، على غرار مفاهيم إدارة الأزمات، نسعى فيها إلى تجنب انهيار وتفتيت النظام الدولي كلية، مع تكثيف البحث والجهد الجاد للوصول إلى سبل إصلاح النظام الدولي الحالي، وجعله أكثر اتساقاً مع الواقع السياسي العالمي، وأكثر قدرة على التصدي لتحديات المستقبل قبل أن تفلت الأمور مرة أخرى.
{ وزير الخارجية المصري السابق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك