لا يوجد تعريف واضح ومحدد لمصطلح (الضياع)، ولكنها ببساطة تخيل نفسك أنك في بلاد غريبة، وتسير في شارع طويل لا أول له ولا آخر، وأنت في ذلك الطريق تجد نفسك قد تهت، لا تعرف إلى أين المسير، هل تواصل، أم تتوقف، أم تذهب إلى اليمين أو اليسار، لا توجد معك خريطة وأنت خارج نطاق التغطية اللاسلكية، ماذا يمكنك أن تفعل؟
هكذا الضياع، بطريقة أو بأخرى، ولكن هنا لا نتحدث عن الضياع في الشارع، وإنما الضياع في الطريق، ولكن أي نوع من الطرق؟
تقول بعض الدراسات إن الضياع في الحقيقة هو حالة نفسيّة من مظاهرها الحيرة وغياب الهدف والتشتّت الفكريّ والشعور بالوحدة وبالحرمان من العون والهداية.
تقول دراسة أخرى إنه شعور لا يوصف وغريب، تشعر به وكأنك في فراغ خال من كل عنصر مادي وثقل فولاذي لا يتزحزح في الوقت نفسه، تشعر بالشيء ونقيضه، تضيع بين البكاء والابتسامة، الحنين والنفور، البرد والحرارة، الرغبة وفقدانها والوجود واللاوجود.
يا لها من حالة صعبة – كما يقول أحد علماء علم النفس– وكأنك تسبح في الفراغ، طاقته القوية تمنعك عن التشبث بأي شيء سوى السقوط والانهيار والنسيان، قوة غريبة تشدك نحو جميع الجهات وبشكل ما تشعرك بنوع من الاستقرار المميت، وحين تقرر التحرر، بتلقائية، تصطدم بجدار اللانهاية، وتلتهمك أيادي الطاقة المظلمة المزينة بالغموض، التهام الجائع القادم من رحلة طويلة بعيدًا عن الوطن، يشتاق إلى قطرة ماء ناجية فتتقدم بطواعية نحو الأمام وتندثر آثارك شيئًا فشيئًا.
عندما ذهبنا نبحث عن أشكال الضياع وأنواعه وجدنا أن المراجع تختلف فيها حسب نوعية تخصص المفكر الذي كتب البحث والكتاب، وربما وجدنا أكثر من 20 نوعًا، بعضها يمكن أن تعد أنواعا ثانوية وبعضها مهم، لنحاول أن نلخص كل هذه الأنواع والأشكال في هذه الأنواع الخمسة، وهي:
الضياع الروحي؛ يحدث عندما يشعر الإنسان بانفصال عن ذاته الداخلية أو عن القيم الروحية التي يؤمن بها، ويمكن أن يكون نتيجة لانعدام الروحانيات أو عدم التواصل مع الذات الداخلية.
الضياع النفسي؛ يتجلى في الشعور بالتشتت وعدم القدرة على فهم الذات أو تحديد الأهداف الشخصية، وغالبًا ما يرتبط بعدم التصالح مع الذات أو محاولة إرضاء الآخرين على حساب الذات.
الضياع الاجتماعي؛ يحدث عندما يشعر الإنسان بالعزلة أو عدم الانتماء إلى المجتمع أو البيئة المحيطة به، ويمكن أن يكون نتيجة لتجارب سلبية أو عدم وجود دعم اجتماعي مناسب.
الضياع المهني؛ يتعلق بعدم القدرة على تحديد المسار المهني المناسب أو الشعور بعدم الرضا عن العمل الحالي، ويمكن أن يكون نتيجة لعدم وجود أهداف واضحة أو عدم تحقيق الطموحات المهنية.
الضياع العاطفي؛ يحدث عندما يشعر الإنسان بعدم الاستقرار العاطفي أو عدم القدرة على بناء علاقات صحية ومستقرة، ويمكن أن يكون نتيجة لتجارب عاطفية سلبية أو عدم القدرة على التعامل مع المشاعر بشكل صحيح.
ربما بعضنا مر في لحظة من لحظات حياته بمثل هذه النوعيات من الضياع، ربما وجد نفسه يختنق ولا يعرف ماذا يفعل، ربما استعان بصديق، ولكن قد يكون ذلك الصديق نفسه يحتاج إلى اليد التي ترشده وتدله على الطريق الصحيح، ربما وربما.. فالحياة ليست من السهولة بمكان والطريق غير ممهد، وكلنا يحتاج إلى بوصلة لا تدله على اتجاه محدد بقدر ما تدله على الطريق الصحيح، فمن يمتلك تلك البوصلة؟
وأثناء بحثنا في كثير من مراجع علم النفس والتنمية البشرية ونحن نكتب هذه الدراسة لم نجد تلك البوصلة أو تلك الخريطة، على الأقل بصورتها المتكاملة، لذلك ذهبنا نجمع من هنا وهناك، وتمكنا – بفضل من الله سبحانه– أن نجمع هذه النقاط القادمة التي من الممكن أن تكون بوصلة أو خريطة للمرء الذي وقع في الضياع أو على الأقل ترشده إلى بدايات الطريق للخروج من حالة الضياع، وهي كالتالي:
أولاً: العودة إلى الله سبحانه ولحظة هدوء؛ عندما يجد المرء نفسه في حالة من الضياع، نجد أنه ينبغي أن يتوقف لحظة، فلا يتقدم ولا يتأخر، لحظة يتنفس فيها الصعداء، يركن عقله للراحة، لا يفكر، ولا يعمل أي شيء، وإنما يتنفس، فقط يتنفس، وبعد أن يشعر بأن روحه استراحت ولو للحظات يتوضأ بهدوء تام وليس بطريقة مستعجلة، ثم يذهب ويصلي ركعتين أو ما يشاء، وعليه في تلك اللحظات أن يشعر أنه واقف بين يديّ الله سبحانه ويتحدث إليه، تحدث مع الله سبحانه في السجود، نعم تحدث، قل له ما تشاء، إن غلبتك العبرة فابكِ، فلن يراك أحد، أنت بين يديّ خالقك الذي يعرف عنك الذي لا تعرفه عن نفسك. تحدث وتحدث فإن انتهيت من التحدث أعد الحديث مرات ومرات، حتى تشعر أن الطاقة السلبية التي كانت متشبثة بأضلاعك قد بدأت تتفكك، وعندما تجد نفسك أنك في هذه المرحلة، لا تقاوم وإنما دع الإيجابية تنفذ إلى صدرك وأضلعك، عندها حتمًا ستشعر بالهدوء.
ثانيًا: تقبل أن كل شيء يستغرق وقتًا للتغيير؛ كما أن السعادة والفرح لا يدومان، فإن الحزن كذلك لا يدوم، وكل شيء قابل للتغيير، وكما يقول الحكماء: «فإن كل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر»، وهذه أساسيات وبديهيات ويجب أن تكون قناعات، لا يوجد إنسان لم يمر في محنة أو مصيبة أو في حالة من الضياع، لذلك تقبل حالة الضياع ولتكن عندك قناعة تامة أن الوضع سيتغير في لحظة أو أخرى.
ثالثًا: كن صبورًا لطيفًا مع نفسك؛ بعض الناس عندما يجد نفسه في حالة من حالات الضياع يلوم نفسه ويجلدها، وهذا ليس بخطأ وإنما من الضروري أن يترفق بنفسه قليلاً، فلا يحتقر نفسه أو يبغضها، وإنما يجب أن يوقن أنه ينبغي أن يعيد النظر في الوضع الذي هو فيه، فربما لم يكن هو السبب، إذ قد تكون هناك أسباب وضغوط خارجية لا فرار منها، وربما يكون السبب هو، لذلك ففي كلتا الحالتين عليه أن يجلس مع نفسه لحظة صفاء ويحادثها، وأكرر يحادثها وربما يعاتبها بطريقة لطيفة، ومن ثم ينتقل إلى النقطة التالية.
رابعًا: قم بتنظيم أفكارك وإعادة النظر في أهدافك وقيمك؛ خذ ورقة وقلم وادرس حالة الضياع التي أنت فيها، اكتبها، حللها، أو ارسمها، ثم قارن تلك الحالة بأهدافك وقيمك، هل تأثرت تلك الأهداف وتلك القيم؟ هل كان الضياع في القيم التي تؤمن بها أو بسببها؟ إن كانت حالة الضياع لم تمس قيمك وأهدافك فلا بأس، واعتبرها دورة تدريبية في حالة وجودية ربما تحتاج إليها حتى تعيد التفكير في نفسك وحياتك.
خامسًا: ابدأ بخطوات صغيرة ولا تحمل نفسك أكثر من طاقتها؛ بعد أن تحلل حالة الضياع التي تعيش فيها من خلال الورقة والقلم، حاول أن تضع بعض الحلول أو بعض الأمور التي يمكنك من خلالها أن تخرج من تلك الحالة، ضعها أمامك على ورق، ثم خذ الحل الأول وقسمه إلى أجزاء وجزئيات صغيرة وإلى أصغر حجم ممكن، ثم اسأل نفسك؛ هل يمكنك من خلال تلك الجزئيات أن تجد بوصلة الخروج؟، حاول، فإن تمكنت من ذلك فهذا أمر جيد، انتقل إلى الجزئية الثانية، وهكذا، فلا تُحمّل نفسك أكبر من طاقتها لأنك لن تستطيع، حينها فستفشل وتنهار وتعود مرة أخرى إلى حالة الضياع التي أنت فيها وتعاني منها.
سادسًا: خذ خطوة إلى الوراء وتأمل ذاتك وحياتك الجديدة؛ بعد كل مرحلة ومرحلة خذ فترة راحة، خذ إجازة من نفسك، ليس من أجل الراحة وإنما من أجل التفكير وإعادة ضبط النفس والهدوء، وخلال هذه الفترة راجع الخطوات التي قمت بها، والنجاحات التي حققتها، فأنت الآن في مرحلة جديدة من حياتك، ربما لا تشعر بذلك، ولكن حتمًا أنت في هذه المرحلة، سجل نجاحاتك وإخفاقاتك، وأعد الثقة بنفسك أنك قادر مرة أخرى إلى ضبط الأمور ووضعها في نصابها.
سابعًا: تحدث إلى شخص أو صديق تثق به واطلب منه المساعدة؛ حتمًا لدينا أصدقاء أو أشخاص مقربون، يسمعون آهاتنا ويمكنهم أن يساعدونا في الخروج من حالة الضياع، وحتى إن لم يتمكنوا، ولكنهم حتمًا لديهم القدرة على الإصغاء، اذهب إليه واجلس معه وقل ما في جعبتك، وإن وجدت نفسك أنك لا تستطيع فهناك بعض الأخصائيين الذي تتحتم عليهم وظائفهم الإصغاء للبشر، اذهب واجلس وتحدث، فهذه منطقة راحة يمكن الاستفادة منها.
ثامنًا: جرب أشياء جديدة، قد يكون الشعور بالضياع فرصة لك للخروج من منطقة الراحة؛ أنت الوحيد الذي يمكن أن يعرف السبب الحقيقي لحالة الضياع التي تمر فيها، فبعد أن تستعين بالله سبحانه وتعالى وتقوم بالأمور التي تحدثنا فيها، ضع البوصلة أمامك، اخرج من حالة أو منطقة الراحة، لذلك يجب أن تغير بعض عاداتك القديمة ربما تكون هي السبب، فإن كنت لا تمارس الرياضة فمارسها، وإن كنت لا تقرأ الكتب فاقرأ، افعل أمورا جديدة لم تكن تقوم بها حتى وإن كانت شاقة بالنسبة إليك، المهم غير حياتك.
هذه بعض الأمور، ونحن لا نقول إنها ليست العصا السحرية التي ستخرجك من حالة الضياع، ولكنها حتمًا إنها بوصلة وخريطة يمكن الاستفادة منها.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك