في قاعات قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، كانت الدكتورة عواطف عبدالرحمن- متّعها الله بالصحة والعافية- تُدرس لنا مادة «مناهج البحث»، وكانت تقول لنا إن مهمة الباحث الأساسية هي إنارة منطقة مُعتمة، وكأن الباحث يحمل في يديه كشافًا ويقوم بتسليط الضوء على موضوع أو قضية ما بغرض فهم كل تفاصيلها ومعرفة مختلف أبعادها، وكانت تستضيف بعض الأكاديميين من المُتخصصين في حقول معرفية متنوعة، نتحاور معهم ونستفيد من رؤاهم وأفكارهم، حيث كانت تنبهنا إلى أهمية البحوث البينية التي تجمع بين أكثر من تخصص، في إطار مدخل التكامل المعرفي بين العلوم.
هكذا اعتبرنا البحث العلمي طريقًا رئيسيًا وسبيلًا أساسيًا للوصول إلى المعرفة، وأنه وسيلة يمكن بواسطتها التوصل إلى حل مشكلة محددة، أو اكتشاف حقائق جديدة عن طريق معلومات دقيقة. ومن بين تعريفات البحث العلمي شائعة الاستخدام أنه مجموعة من الإجراءات النظامية التي ينتهجها الباحث أو الدارس، من أجل التعرف على جميع الجوانب المُتعلقة بموضوع أو إشكالية علمية، والهدف النهائي هو حل تلك المشكلة، أو فهم ظاهرة ما ومعرفة أسبابها وآليات معالجتها، وقد يتعلق البحث العلمي باستقصاء صحة معلومة أو اختبار فرضية أو توضيح موقف.
يقوم البحث العلمي على تنظيم المعرفة وترتيبها تمهيدًا للاستفادة منها، حيث إن له فوائد متعددة، وعلى أكثر من مستوى، فالبحث مُهم لكل إنسان وكل مجتمع، على المستوى الشخصي والمهني والوطني أو القومي، فكل منّا يمارس البحث العلمي بشكل أو بآخر قبل أي قرار يتم اتخاذه، من حيث جمع المعلومات السابقة والحالية وتحليلها والربط بينها وإعمال التفكير النقدي والوصول إلى نتائج، ومن ذلك مثلًا عند تحديد مسار الدراسة المناسب وتقييم ظروف العمل والاستثمار وتنفيذ مشروعات اقتصادية، وعند الارتباط وتكوين أسرة، وعند السفر والتخطيط لفترة الصيف وتنظيم رحلة، حيث نفكر جيدًا في أسباب القرار وخطواته والبيئة المحيطة والنتائج المتوقعة وسيناريوهات المستقبل.. وغيرها.
وعلى المستوى المهني فإن البعض قد يتخصص في مجال البحث العلمي، من خلال العمل في المجال الأكاديمي، أو العمل في مراكز بحثية، تكون مهمتها الإنتاج البحثي الفردي والجماعي، والنشر العلمي المحلي والدولي.
وتتركز الأهمية القومية للبحث العلمي حول دور الأبحاث، في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية والتطبيقية على حد سواء، في حل مشكلات نعانيها أو التعامل مع ظواهر سلبية تواجهنا، بهدف تحسين حياة الإنسان.
وللأسف فإن كثيرًا من الأبحاث العلمية تظل حبيسة الأدراج، تحتفظ بها الجامعات على أرفف المكتبات، وبعض الأبحاث يتم إعدادها وإنجازها بغرض الترقية والحصول على درجات علمية، من دون أن يستفيد المواطنون ومن دون أن تستفيد مؤسسات المجتمع من نتائج هذه الأبحاث.
من هنا فإننا نتطلع إلى تأكيد الارتباط الصحي والتلازم الطبيعي بين البحث العلمي من جهة وخدمة المجتمع من جهة أخرى، من حيث أهمية أن تتضمن الأبحاث العلمية تطبيقات عملية للمعلومات والمعارف، ومن المتعارف عليه أن الجامعات في المقاطعات المختلفة هي بمثابة بيت خبرة لتلك المنطقة في مختلف المجالات والقطاعات، ومن المعروف أيضًا أن كل كلية وكل جامعة بها إدارة خاصة بشؤون البيئة وخدمة المجتمع.
ومن المهم أن تتولى الهيئة المشرفة على البحث العلمي في الدولة إصدار نشرة علمية دورية، تتضمن نبذات مختصرة عن أحدث الأبحاث في مختلف العلوم، ماذا قدمت وما أوجه الاستفادة منها، مع توفير مساحة مُناسبة لنشر نتائج تلك الأبحاث وعرضها بشكل مناسب في الجرائد والمجلات والمواقع الصحفية الإلكترونية والمحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية، ما قد يُسهم في نشر الثقافة العلمية بين الجمهور العام، في مجالات التربية والاجتماع وعلم النفس والسياسة والاقتصاد والصحافة والإعلام والتاريخ والآثار..، والطب البشري والطب البيطري والهندسة والزراعة والصناعة، والتجارة والإدارة، والتكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وغيرها.
إن من بين المقترحات التي من المهم التذكير بها وتأكيدها باستمرار: إعداد قوائم بالموضوعات التي تم إنجازها في كل حقل معرفي، وإعداد أجندات بحثية بالموضوعات التي تنتظر اهتمامًا من جانب الباحثين؛ وتخصيص ميزانية مُعتبرة للبحث العلمي على مستوى الدولة بشكل عام، وفي كل مؤسسة بشكل خاص؛ وتوفير المزيد من المنح البحثية في الداخل والخارج؛ وتشجيع القطاع الخاص، وكذلك قطاع المجتمع المدني، على دعم الباحثين والاستفادة من نتائج البحوث والمؤتمرات العلمية والسيمنارات وورش العمل، وهناك كثير من التجارب الدولية في هذا الشأن.
هذه الأفكار وغيرها من أجل مجتمع ناهض ومُتحضر، يقوم على دعائم العلم، ويحترم البحث العلمي، ويُقدِّر الباحثين.
{ أكاديمي وباحث إعلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك