بين متفائل ومتشائم، ومتأكّد ومتشكّك، تخضع التطوّرات في المنطقة، وخصوصاً ما يتعلّق بزيارة دونالد ترامب لمنطقة الخليج العربي.
وسائل التواصل الاجتماعي تطفح بالمحلّلين والمعلّقين، وأشباه الكتّاب ومدّعي الثقافة والخبرة الذين يطلبون الـ«شير» و«اللايك»، ويجدون من يُسايرهم من باب العبث أو الجهالة.
الكلّ في منطقتنا، بما في ذلك في كيان الاحتلال، كان ينتظر ما تسفر عنه الزيارة التاريخية التي قام بها ترامب، الذي لم تتغيّر صفاته الشخصية بين الولايتين الأولى عام 2016، والثانية الحالية، لكن أهدافه وسياساته تشهد تغيُّراً كبيراً إن لم يكن جذرياً ولكن بحذر.
ترامب في ولايته الحالية، أكثر نضجاً، ووضوحاً، وعزماً على التغيير، فهو يسعى لاستعادة والنهوض بدور بلاده، لمواجهة تنافس حقيقي محتدم مع الصين. ولتحقيق شعار «أمريكا عظيمة» بل الأعظم ينكفئ نحو رؤية قومية، تضع مصالح بلاده كأولوية مطلقة، ولذلك فإنه يجفف حكومة الشركات العابرة للقارات (المعولمة) وما ومن يدعمها من مؤسّسات الدولة العميقة.
ترامب الحالي، دكتاتور أو إمبراطور، بعد أن سيطر حزبه «الجمهوري» على الإدارة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، ما يجعل منه قائداً حقيقياً لا يخشى ولا يقبل الانصياع لنفوذ اللوبيات التقليدية، التي لطالما لعبت دوراً مؤثّراً على الإدارات السابقة.
شعار «أمريكا الأعظم»، والأولوية، وإصرار ترامب على نيل جائزة نوبل للسلام، تستدعي إطفاء الحرائق، والامتناع عن التدخّل المكلف لبلاده.
على أن هذه الحرائق، التي يسعى لإطفائها، وربّما يقوم أحياناً، بإشعال بعضها تخضع هي الأخرى لمنطق الصفقات، ففي كلّ تدخُّل لإطفاء حريق، يعمل ترامب على الحصول على ثمن يعود بالفائدة على بلاده.
من أبرز التحوُّلات في سياسته الخارجية المرتبطة بأهدافه الداخلية أن ترامب، يعطي الأولوية لمنجم المال العربي، الذي سيدرّ على الخزانة الأمريكية تريليونات الدولارات التي تحتاج إليها.
من يدفع المال للخزينة الأمريكية تصبح له الأولوية في العلاقات، والاتفاقيات والحماية والدعم من أولئك الذين يستنزفون الأموال الأمريكية.
خلال 75 عاماً تكفّلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بتقديم كلّ أنواع الدعم والمساعدات والهبات، بالإضافة الى الدعم السياسي والدبلوماسي للدولة العبرية، انطلاقاً من الأهداف الوظيفية التي تقدمها الأخيرة.
ولكن ما الذي تبقّى من الأهداف الوظيفية التي أنشئت دولة الكيان الصهيوني من أجل تحقيقها؟ إذا كان الهدف الأساسي، منع وحدة ونهوض الأمّة العربية، فهذه الامة اليوم ممزّقة ولم تعد وحدتها أولوية لأي نظام عربي.
وإذا كان من بين الأهداف جعلها قاعدة عسكرية متقدمة لحماية المصالح الأمريكية و«الغربية»، فالمنطقة ذاتها اصبحت طافحة بها، ما يقلّل من أهمية ودور دولة الاحتلال كقاعدة، خصوصاً بعد فشلها في الحروب العدوانية التي تخوضها في المنطقة بالتركيز على الأراضي الفلسطينية رغم مرور نحو 19 شهراً.
وإذا كان من الأهداف الوظيفية السيطرة والاستحواذ على مصادر الثروة والمال والموقع الاستراتيجي، فقد أصبح واضحاً أنّ أمريكا تنجح في تحقيق هذا الهدف بالتعامل المباشر مع دول المنطقة بمعزلٍ عن دولة الاحتلال التي تشكّل تصرفاتها عائقاً أمام تحقيق ذلك.
الدول العربية بدورها أظهرت قدراً من النضج في التعامل مع الصراعات الدولية، وباتت تدرك كيفية الاستثمار في إمكانياتها وتحقيق طموحاتها في امتلاك القوة والنفوذ.
ثمّة إشارات عديدة متلاحقة، وشديدة الأهمية، التي نستنتج منها أنّ ثمّة افتراقاً في مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحتى الأوروبية مع دولة الاحتلال.
ليست العادة، أن تتخذ الإدارات الأميركية قرارات مهمّة تتصل بالمنطقة من دون التنسيق مع الإدارات الإسرائيلية ولكن مع ترامب تتابعت القرارات المفاجئة والمتعاكسة مع سياسات وأهداف ورغبات حكومة بنيامين نتنياهو الفاشية.
نعم ترامب يطلق تصريحات ذات أبعاد إنسانية بشأن ما قال إنها الحرب الوحشية، والمأساة غير المسبوقة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، ولكن هذه اللغة قد تستتبعها أفعال ذات أبعاد سياسية. المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، يعلن للمرّة الأولى أن هناك حاجة لإطلاق سراح كلّ الرهائن، ولكنه يحمّل المسؤولية لنتنياهو حين يتهمه بالإصرار على مواصلة الحرب الإبادية والتجويعية.
لم يكن لنتنياهو أن يرسل على عَجَل فريقه المفاوض إلى الدوحة، والحديث عن احتمال التوصّل إلى وقف لإطلاق النار مع لازمة تصريحاته المتكرّرة بأنه سيواصل الحرب العدوانية، لولا أن ويتكوف نقل إليه رسالة صعبة من ترامب.
في الأفق يبدو أنّ ثمّة فرصة لتحقيق اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات بكل أنواعها وأشكالها، وكلّ ذلك على عكس رغبة نتنياهو، الذي قد يضطرّ للبحث لاحقاً عن طريقة لتسويق نهاية الحرب الهمجية على «ائتلافه الحكومي الفاشي» وإلّا ربما واجه تدهوراً في العلاقة مع أمريكا.
الإفراج عن عيدان الكسندر شكّل صفعةً كبيرةً لحكومة نتنياهو الذي يدّعي أن الضغط العسكري كان واحداً من سببين للإفراج عنه، بينما تمّ ذلك عَبر مفاوضات أمريكية غير مباشرة مع حركة «حماس».
في عمق هذه الخطوة، اتهام لإدارة نتنياهو بالتقصير عمداً إزاء الإفراج عن الرهائن، واتهام بأنه المسؤول عن تعطيل التوصُّل إلى صفقة، واتهام ثالث بفشل الضغط العسكري في تحقيق أهداف الحرب.
وفي إطار آخر، تترك هذه الخطوة شعوراً بفقد الأمن والأمل لدى أفراد المجتمع الإسرائيلي، ممّن لا يحملون جنسية أخرى، وربّما يدفع الكثيرين منهم نحو الهجرة أو السعي لامتلاك جنسية أخرى، طالما أن الجنسية الإسرائيلية لا تحميهم من الملاحقات الخارجية.
ان «التطبيع العربي الواسع» الذي يتطلع إليه ترامب لا يزال قيد التأجيل، ولا يزال العرب، يضعون مسألة الدولة الفلسطينية شرطاً، ولكن ذلك يستدعي من الفلسطينيين قبلاً، أن يعيدوا تنظيم صفوفهم، ووحدتهم، وتمثيلهم، ولكن من دون الإفراط في التفاؤل مع رئيس ذي طابع متقلّب.
{ كاتب من فلسطين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك