نشرتُ مقالا في صحيفة أخبار الخليج في 19 أبريل 2025 تحت عنوان: «الإبادة البيئية الشاملة في غزة وأوكرانيا». وفي هذا المقال بيَّنت الدمار الشامل، والفساد العظيم الذي نزل على كل مكونات بيئة غزة الحية وغير الحية، من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، وحياة فطرية نباتية وحيوانية، ومزارع غذائية مُشيدة من أشجار الزيتون التاريخية والمعمرة.
وفي الحقيقة فإن إثبات حجم الدمار النوعي والكمي الذي وقع على البيئة في غزة لم يكن صعبا، فقد كانت وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم تنقل وتغطي على الهواء مباشرة بالصوت والصورة الحية هذه الكارثة البيئية الشاملة التي حلَّت على سكان وبيئة غزة، كما أن المقابلات الشخصية مع شهود العيان، وسكان غزة عامة، أكدوا حجم الضرر الكبير وعلى نطاق واسع الذي وقع على كل عناصر بيئتهم.
وكل هذه الإبادة البيئية الشاملة والجامعة كانت بأيد يهودية صهيونية في الكيان الصهيوني، وبأسلحة أمريكية مسيحية صهيونية ودعم أمريكي سياسي ومالي وعسكري لم يتوقف يوما ما، وبأسلحة فتاكة توازي في مجموعها قوة ودمار أسلحة الدمار الشامل النووية.
وهذا الجُرم البيئي الشامل، وهذا البطش والتنكيل والكرب الشديد الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ وتَعَرضَ له سكان غزة المستضعفين، والذي شاركت في ارتكابه أيادي الحكومات الأمريكية السابقة والحالية، ليس بغريبٍ ولا جديد على الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا هو ثقافتهم، وهذا هو سلوكهم أثناء الحرب، فلا يرقُبون في بشر، ولا حجر، ولا شجر إلًّا ولا ذمة.
وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المظلم، وسيرتها السوداء القاتمة، ستبقى خالدة في ذاكرة البشرية، وستبقى تلاحقها أبد الدهر كالكابوس المزعج الذي سيجثم على قلوبهم، وكُتبْ التاريخ تمتلئ بجرائم أمريكا، سواء جرائم الإبادة الجماعية للشعوب، أو جرائم الإبادة الشاملة لبيئات كوكبنا حول العالم.
ومن الجرائم التي قامت بها أيدي البطش والعدوان الأمريكية، وبالرغم من وقوعها قبل أكثر من 60 عاما، إلا أن الأبحاث والدراسات مازالت تُجرى لسبر غورها، والتعرف من كثب على تفاصيلها، والدخول في أعماق إثباتها من خلال الدليل العلمي الموثوق كجرائم إبادة بيئية شاملة، وهي بالتحديد عند غزو واحتلال الولايات المتحدة لفيتنام في الستينيات من القرن المنصرم.
فقد خصصتْ مجلة بحثية أمريكية مرموقة، «العلوم» (Science)، في عددها الأخير المنشور في 24 أبريل 2025 حول الإبادة البيئية الشاملة للأنظمة البيئية المختلفة برمتها في فيتنام، فجاء عنوان الغلاف: «إرث العميل البرتقالي»، وشملت عدة مقالات منها المقال تحت عنوان: «هل الولايات المتحدة ارتكبت إبادة بيئية شاملة خلال حرب فيتنام»؟، ومقال آخر عنوانه: «ضباب الحرب».
فأعمال الإبادة البيئية الشاملة بدأتْ في عام 1961 وانتهت بعد عقدٍ طويل من الزمن، وبالتحديد في عام 1971، حيث ارتكبت أيدي الأمريكيين الآثمة جريمة بشعة، وعقابا جماعيا ظالما لأكثر من 3 ملايين من سكان فيتنام، المقاومين منهم والمدنيين العزل على حدٍ سواء. فمن أجل تطويق مصدر الغذاء كلياً، وتجويع المقاومين وغيرهم، ومنعهم من الحصول على الغذاء، وبهدف تعرية مواقعهم الآمنة التي يختبئون فيها في الأدغال الكثيفة، وغابات الحشائش والأعشاب المرتفعة التي تقيهم وتحميهم من عيون العدوان، قامت أمريكا برش مبيدٍ سام وقاتل للأعشاب والبشر مُخزن في براميل خاصة عليها علامات برتقالية، فأُطلق عليها (العميل البرتقالي)، أو علامات وردية، أو بيضاء، وهذه يمكن اعتبارها من ضمن أسلحة الدمار الشامل، أو القنابل الكيميائية المحرمة دوليا.
فقد بلغ حجم المبيد المسرطن والسام الذي تم رشه جوا وبرًا وبحرًا، بوساطة الطائرات، والشاحنات، والسفن قرابة 74 مليون لتر، وغطى مساحة شاسعة من غابات فيتنام الجنوبية الفطرية العذراء، إضافة إلى المستنقعات الواسعة لأشجار القرم، أو المانجروف، وقُدرت المساحة بأكبر من 22 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بـ 23 مرة، كما غطت السموم دولاً أخرى مجاورة مثل كمبوديا.
فسلاح الدمار الشامل المتمثل في هذه المبيدات، كان يحتوي على أخطر مادة صنعها الإنسان، وأشدها تنكيلاً وتدميراً لصحته وصحة البيئة، وتُعرف بمجموعة مركبات «الديكسين». وهذه المركبات لا تتحلل بسهولة وبسرعة عندما تدخل في عناصر البيئة، ولذلك فهي تتراكم ويزيد تركيزها مع الزمن، فتبقى في تربة فيتنام سنوات طويلة، وتمكث في مياهها السطحية والجوفية لعقود طويلة من الزمن، وتنتقل عبر السلسلة الغذائية حتى تصل إلى الحياة الفطرية من أسماك، وحيوانات برية، وطيور، ثم أخيرا إلى الإنسان.
فأيادي العدوان الأمريكي المباشرة على سكان وبيئة فيتنام توقفت عام 1975، ولكن تداعياتها تغلغلت في أعماق جسم الإنسان وسلامة البيئة والحياة الفطرية، ومركبات الديكسين تجذرت في كل عناصر البيئة وأعضاء جسم الإنسان، فشملت كل كائن حي وغير حي، ومازالت تداعيات هذه الإبادة الشاملة للبشر والشجر والحجر متأصلة حتى يومنا هذا، ويعاني منها الشعب الفيتنامي، بل حتى الجنود الأمريكيين أنفسهم الذين تعرضوا لمبيد الأعشاب والسم الذي يحتويه.
ومن هذه التداعيات للإبادة البيئية الشاملة ما يلي، حسب نتائج الدراسات والأبحاث المنشورة:
أولاً: الإبادة الشاملة للأراضي الزراعية التي تلوثت بالمبيدات وبمادة الديكسين خاصة، بحيث أصبحت كليا غير صالحة لزراعة المحاصيل التي يتغذى عليها الإنسان، مما يعني التأثير المباشر في تحقيق الأمن الغذائي للشعب.
ثانياً: سموم المبيدات تراكمت مع الزمن في كل المكونات البيئية من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، ثم انتقلت إلى جميع أنواع الحياة الفطرية، وأخيراً وصلت جسم الإنسان، وتركزت في أعضائه، حتى أن حليب الأم تلوث بالديكسين والملوثات الأخرى.
ثالثاً: وجود الديكسين في البيئة بمستويات مرتفعة وفي جسم الإنسان، أدى إلى بروز أزمات صحية خطيرة للشعب الفيتنامي، ومنها 19 نوعا من السرطان، إضافة إلى أمراضٍ أخرى، كتعقيدات الحمل، وولادة أجنة مشوهة خَلْقيا، وتعاني من مشكلات عقلية وذهنية. علماً بأن البعض من هذه الأمراض انكشف أيضاً على الجنود الأمريكيين وجنود الدول الأخرى التي ساعدت أمريكا في الحرب، مثل كوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزلندا.
رابعاً: هذه السموم لم تؤثر في جيل واحد فقط من الفيتناميين وإنما انتقلت عبر الأجيال، من جيل الحرب المباشر إلى أربعة أجيال ما بعد توقف الحرب، أي أن السموم عَبَرتْ حدود الأجيال المتلاحقة، ولا يعلم أحد إلى أي جيل ستبلغ هذه السموم.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك