تمر هذه الأيام ذكرى نكبة فلسطين التي اقترنت بإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو عام 1948، وهي النكبة التي جرت للشعب الفلسطيني وشهدت استيلاء المنظمة الصهيونية خلالها على 78 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية. واستشهد فيها أكثر من 15 ألف فلسطيني، وجرح عشرات الآلاف. وتم تشريد وتهجير نحو 900 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم وبلداتهم، وأحرقت ودمرت نحو 500 قرية.
وكانت النتيجة النهائية لتلك النكبة أن فلسطين قد تم شطبها عن خريطة الشرق الأوسط، وكان من المفترض وكنتيجة للنكبة ان يتم طمس هوية الشعب الفلسطيني وإلغاء وجوده كشعب.
ويعيش الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن أوضاع نكبة ثانية في ظل حرب الإبادة في قطاع غزة التي لا تزال فصولها تجري بصورة دامية، وما نتج عنها أكثر من 250 ألف شهيد وجريح، وتدمير 80 بالمائة من قطاع غزة، بيوت المواطنين، المستشفيات والمدارس، والجامعات، والبنى التحتية وشوارع وشبكات ماء وكهرباء، ومن نتائج هذه النكبة الثانية أكثر من 12 ألف طفل بلا أطراف، وأكثر من 15 ألف بنت وصبية ما بين عمر 15 سنة وحتى العشرين بلا أطراف، وعدد مشابه من الرجال والشباب، كما ان خطر التهجير لا يزال قائما، بالإضافة إلى أن القطاع بمجمله أصبح منطقة غير صالحة للحياة، وأن إعادة بنائه تحتاج إلى أكثر من 50 مليار دولار، وإلى مدة زمنية تتراوح بين عشرة وخمسة عشر عاما.
لم تقتصر هذه النكبة الثانية، أو الحالية، على قطاع غزة، بل إن إسرائيل استغلت ما جرى في السابع من أكتوبر عام 2023، وقامت بعملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية، جرى خلالها محاولة تصفية مخيمي جنين وطولكرم وشردت سكانهما، وقامت بتغيير معالم المخيمين بحيث لا يمكن أن يعود اليهما معظم سكانهما الذين يزيد عددهم على 60 ألف نسمة. وفي الضفة الغربية أطلقت الحكومة الإسرائيلية مارد إرهاب المستوطنين، وقام جيش الاحتلال بتقطيع أوصال الضفة عبر أكثر من ألف حاجز عسكري وبوابات، وجعل التنقل بين القرى والمدن، والمدن والمدن والقرى والقرى أمرا صعبا، وأحيانا يبدو مستحيلا.
بالتأكيد هناك أوجه شبه واختلاف بين النكبتين، سياسية وإنسانية، وفي النتائج الاقتصادية والاجتماعية، في النكبة الأولى تم عمليا تدمير المجتمع الفلسطيني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فقد تم حرمان الشعب الفلسطيني من حقه ان يكون موجودا في وطنه، يطور حياته بشكل طبيعي، وينمي اقتصاده وثقافته وتراثه، حرم من أن يكون شعبا له حقوق سياسية، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير على أرضه، دمر اقتصاده وتفكك ترابطه الاجتماعي، باختصار تم تفكيك فلسطين وشعبها.
وفي النكبة الحالية، التي لا يمكن الخروج بشأنها باستنتاجات نهائية لأن فصولها لم تنته بعد. ولكن وما نحن فيه حتى الآن فقد دمرت إسرائيل اقتصاد قطاع غزة بالكامل، والضفة بشكل واسع، كما انها دمرت عمليا المجتمع الغزاوي، وهي لا تقوم بقتل الناس وحسب، وإنما تدميرهم نفسيا ومعنويا، وتحويل المجتمع الغزاوي إلى مجتمع منهك مفكك.
أما على الصعيد السياسي، فإن أحد أوجه الشبه الخطيرة، أن الشعب الفلسطيني في النكبة الأولى لم يكن يملك قراره الوطني المستقل، واليوم مجموعة قوى ودول تؤثر على القرار الفلسطيني وبالذات في قطاع غزة، وخاصة فيما يتعلق بالحرب والمفاوضات.
ومن أوجه الشبه ان ميزان القوى لم يكن لمصلحة الشعب الفلسطيني بالكامل، بل إن كافة الدول الكبرى في عام 1948، كانت جميعها بلا استثناء تقف إلى جانب إقامة دولة إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية في أرض وطنه. وفي النكبة الحالية فإن ميزان القوة مازال لصالح دولة الاحتلال.
ومازالت مواقف الدول الكبرى غير منصفة بالقدر الكافي، وأن معظمها يزود إسرائيل بالسلاح، صحيح أننا نقرأ ونسمع بعض التصريحات والمواقف الايجابية، لكن كل ذلك لم يكن جديا بما يكفي لوقف الحرب. وبما يتعلق بالدول العربية، وقفت موقفا معقولا وقويا، وخصوصا ما يتعلق بمسألة التهجير، فقد كان لمصر والأردن موقفان صلبان وواضحان من المسألة، كما قدمتا المساعدات الإغاثية لقطاع غزة.
المطلوب الآن هو أن تتوقف الحرب على قطاع غزة والضفة، ولكن على القطاع تحديدا، لأن استمرارها قد يقود إلى نكبة أشد قسوة في نتائجها الإنسانية والسياسية من النكبة الأولى، وبما أن قرار قطاع غزة في جزء كبير منه بيد حماس، فإن عليها وعلى الأطراف المتابعة للملف الفلسطيني العمل على وقف هذه الحرب ونزع كل ذرائع استمرارها، وذلك قبل فوات الأوان.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك