في الحادي عشر من مارس 2025، أُلقي القبض على رودريغو دوتيرتي، الرئيس الفلبيني السابق المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية؛ بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في مانيلا وسُلّم إلى لاهاي لمحاكمته، فيما وصفته أغنيس كالامارد، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، بأنه خطوة تاريخية نحو العدالة.
وعلى النقيض تمامًا، أفلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -الذي اتهمته المحكمة في نوفمبر 2024، إلى جانب يوآف غالانت، وزير دفاعه آنذاك بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة منذ أكتوبر2023- من الاعتقال والتسليم، على الرغم من زيارته مرتين لدول أوروبية من بين 125 دولة صادقت على نظام روما الأساسي، والتي هي ملزمة قانونًا بتنفيذ أمر الاعتقال ضده.
وفي أحدث مثال على تجاهل الدول الغربية للقانون الدولي، وتجاهلها الصريح للقانون الدولي، استقبلت المجر برئاسة فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في زيارة رسمية يوم 3 أبريل 2025، متجاهلة مذكرة توقيفه الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. ولم تكد تمر ساعات على الزيارة حتى أعلنت انسحابها الكامل من المحكمة.
على الرغم من أن باربرا تاش، وآنا هوليجان، من شبكة بي بي سي، أشارتا إلى أن انسحاب بودابست، وحده لن يؤثر بشكل كبير على القدرة التشغيلية للمحكمة أو إطارها القانوني، إلا أنهما أقرتا بأنه قد يمثل سابقة قد تدفع دولًا أخرى للتشكيك في التزاماتها تجاه العدالة الدولية أو التخلي عنها. وقد تجسدت هذه الديناميكية منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، عندما وافق قضاة المحكمة على أوامر الاعتقال في نوفمبر الماضي. وكانت عدة دول أوروبية -بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبولندا- قد رفضت اعتقال نتنياهو إذا قرر زيارتها، فضلا محاولات الولايات المتحدة الضغط على المحكمة، وتهديدها بفرض عقوبات اقتصادية وحظر سفر على مسؤوليها وعائلاتهم.
ومع دعوة المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، نتنياهو لزيارة ألمانيا، ورفضه الالتزام بنظام روما الأساسي، مُصرّحًا بأن مجرم الحرب المتهم لن يُعتقل أو يُسلّم؛ دخلت سلطات المحكمة في أزمة جديدة. وكما ذكرت كاترين بنهولد، في صحيفة نيويورك تايمز، ففي وقت تنهار فيه المؤسسات العالمية ولم يظهر فيه نظام عالمي جديد بعد، لم يعد أحد يعرف ما هو مسموح به وما هو ممنوع.
وبعد موافقة الجنائية الدولية، على طلب إصدار مذكرات توقيف دولية، بحق نتنياهو، وغالانت، وجّه أوربان، دعوة علنية إلى نتنياهو، وأصرّ على أن أمر المحكمة لا أثر له في المجر، على الرغم من أن بلاده عضو مؤسس في نظام روما الأساسي. وفي أعقاب الزيارة الرسمية التي بدأها نتنياهو إلى بودابست، في 3 أبريل، أدان كينيث روث، من جامعة برينستون، قرار أوربان بشدة، واصفًا إياه بـتجاهل صارخ للقانون الدولي، منتقدًا استقبال مجرم حرب متهم، بدلًا من اعتقاله كما تقتضي الالتزامات القانونية.
وبانسحابه من الجنائية الدولية، يرى إيفان كراستيف، من مركز الاستراتيجيات الليبرالية، أن أوربان، يسعى لتكريس دور بلاده، كقوة سياسية مرنة، تقيم علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، ويحاول تصدير صورة للمجر كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي قادرة على التصرف بحرية، حتى وإن كان ذلك على حساب التزاماتها المعلنة تجاه القانون الدولي والعدالة. وبتجاهلها لمذكرة المحكمة، تتبع نفس نهج إدارة ترامب، والدول الأوروبية في تقاعسها عن محاسبة إسرائيل دوليًا على انتهاكاتها التاريخية والحالية ضد الفلسطينيين.
وكما كتبت بنهولد، من خلال التنصل من القواعد العالمية بشأن التحالفات طويلة الأمد وقواعد التجارة؛ فإن ترامب أعطى الإذن للآخرين بخرق القواعد أيضًا، وهذا يمتد إلى معاملته للمحكمة الجنائية الدولية. وفي فبراير 2025، اتهم البيت الأبيض، المحكمة الجنائية، بإساءة استخدام سلطتها، من خلال التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الأمريكيون وحلفاؤها، ثم فرضه عقوبات لمنع مسؤوليها وعائلاتهم من شراء الممتلكات والأصول في الولايات المتحدة، ومنعهم من دخول البلاد. وأدان فينسنت وارن، من مركز الحقوق الدستورية، هذا الإجراء معتبرًا أنه يشجع الجناة في جميع أنحاء العالم، ويعرقل سعي العدالة الدولية ضد الأقوى.
أما بالنسبة إلى الدول الأوروبية، ففي وقت إصدار الجنائية الدولية، أوامر الاعتقال، حذر أنتوني دوركين، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، من أن ذلك مثّل اختبارًا للمبادئ الأوروبية، بشأن استقلال القضاء ودعم سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان. ومع إعلان العديد من الحكومات عن نيتها تجاهل الأمر، وترحيب دولتين موقعتين على نظام روما الأساسي بزيارة نتنياهو، لا يُمكن إلا أن نستنتج أنهم قد أخفقوا في هذا الاختبار.
ورغم أن تاش، وهوليجان، أشارتا إلى أن انسحاب المجر يعني أنها ستكون أول دولة في الاتحاد الأوروبي تنسحب، إلا أن حكومات إقليمية أخرى تخطط لارتكاب الفعل ذاته، حيث تستمر في كونها أعضاء في المحكمة بالاسم فقط، دون أي نية لتنفيذ أوامرها، وهو ما يجعلها عاجزة عن تقديم قضايا الانتهاكات الإسرائيلية إلى المحاكمة في لاهاي.
كما لا يعد رفض أوربان، لاختصاص المحكمة، الأول من نوعه منذ إصدار أوامر الاعتقال في نوفمبر من العام الماضي. ففي يناير 2025، منحت الحكومة البولندية، نتنياهو، حرية الدخول إلى أراضيها عندما زارها لإحياء الذكرى الثمانين للهولوكوست. وفي تلك الفترة، حذرت أليس أوتين، من منظمة هيومن رايتس ووتش، من أن حماية بولندا، لنتنياهو، قد أرسلت رسالة مثيرة للقلق، بشأن احتمال قيام دول أوروبية أخرى بحمايته من التسليم إلى لاهاي، خاصة وأن دونالد توسك، رئيس الحكومة البولندية يتولى حالياً رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن الدول الأخرى تتطلع إليها من أجل اقتفاء أثرها.
علاوة على ذلك، ترددت فرنسا في الوفاء بالتزاماتها تجاه القانون الدولي. وبعد وقت قصير من موافقة إسرائيل على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بدعم فرنسي، ادعت باريس، أن نتنياهو يتمتع بحصانة من أوامر الاعتقال الصادرة عن الجنائية الدولية، لأن إسرائيل ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي. وزعمت وزارة خارجيتها أنه لا يمكن تحميلها مسؤولية فعل يتعارض مع القانون الدولي نظرا لما يتعلق بالحصانات الممنوحة للدول غير الأطراف في المحكمة.
من جانبه، أشار جوليان بورجر، في صحيفة الجارديان، إلى أن التبريرات الفرنسية تبدو وكأنها إشارة إلى الالتزام بالمادة 98 من نظام روما الأساسي، متجاهلة أن باريس كان لزاما عليها تطبيق المادة 27، التي توضّح أن حصانة المناصب العليا لا تمنع المحكمة من ممارسة سلطتها القضائية على نتنياهو. ولفتت ميلينا ستيريو، من جامعة ولاية كليفلاند، إلى أن الموقف القانوني لباريس فيما يتعلق باعتقال نتنياهو، وتسليمه كان غير متسق مقارنة بموقفها قبل بضعة أشهر فقط تجاه بوتين، الذي كانت فرنسا من المؤيدين المتحمسين لتحقيقات المحكمة بشأنه.
وبشكل واضح، تتجلى المعايير المزدوجة فيما يتعلق بألمانيا. وعلى الرغم من أن وزيرة خارجيتها السابقة أنالينا بيربوك، انتقدت خروج المجر من المحكمة، ووصفته بأنه سيء للقانون الجنائي الدولي، فقد اعترف المستشار أولاف شولتز آنذاك بأنه لا يستطيع أن يتخيل، أن حكومته ستعتقل نتنياهو إذا زار ألمانيا. كما وعد زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرز، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بأنه سيجد السبل والوسائل، التي تمكنه، رغم كونه متهما بارتكاب جرائم حرب، من الزيارة، والقدرة على المغادرة دون أن يتم اعتقاله. وفي حال جاء نتنياهو إلى ألمانيا، فقد أشار كاي أمبوس، من جامعة جوتنجن، إلى أن ذلك يثير شكوكا حول الفصل المحلي للسلطات، لأن من أجل منع اعتقاله يتعين على السلطة التنفيذية التدخل في إجراءات الاعتقال والنقل، إلى المحكمة الجنائية، وبالتالي تحدي استقلال القضاء بشكل مباشر.
وبينما صرحت بريطانيا، بأنها ستلتزم دائما بالتزاماتها القانونية كما هو منصوص عليه في القانون المحلي والدولي، مما يعني أن نتنياهو، سيتم احتجازه وتسليمه إذا دخل المملكة المتحدة، فإن موجة التبعية والانصياع من قبل القادة الأوروبيين لإسرائيل؛ تؤكد تصريحات رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر، التي قال فيها إن حكومته لن تعتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي على أساس السياسة البراغماتية، حيث تغلب الاعتبارات العملية على المبادئ الأخلاقية.
وفي ضوء هذه العوامل، أشارت صحيفة فاينانشال تايمز، إلى أن أي زيارة يقوم بها نتنياهو إلى دولة أوروبية كبرى، مثل ألمانيا، ستمثل تهديدا غير مسبوق لسلطة الجنائية الدولية، خاصة بعد زيارته للمجر. واشتكت إريكا جيفارا روزاس، من منظمة العفو الدولية، من أن أي رحلة يقوم بها إلى دولة عضو في المحكمة لا تنتهي باعتقاله، لا تؤدي إلا إلى تشجيع إسرائيل على ارتكاب المزيد من الجرائم ضد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي أكده تصعيد الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة لحصاره وقصفه لمدنيي غزة، في ظل صمت الدول الغربية إزاء هذه الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي.
ورغم تأكيد جيسي يونغ، من شبكة سي إن إن، على أن قضية الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، المتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تُظهر أن اعتقال نتنياهو، أمر ممكن من الناحية القانونية، إلا أن جريجوري ثوس، من جامعة بكين، أشار إلى أن حالة الإفلات من العقاب في قضية نتنياهو، قد ترسخ سابقة خطيرة، ربما لن تظهر نتائجها الآن، لكنها في الأجيال القادمة، قد تشكّل تصورًا جديدًا حول ما إذا كانت العدالة قادرة على الوصول إلى أعلى قادة الدول عند ارتكابهم مثل هذه الجرائم.
وفي هذا السياق، يُعد استقبال المجر –التي أعلنت انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية– لنتنياهو، بمثابة محاولة لتقويض منظومة العدالة الدولية، في وقت رفضت فيه دول أوروبية أخرى دعم مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة ضده. وقد قُوبلت هذه المواقف بإدانات واسعة، باعتبارها تُفرغ الجهود الدولية من مضمونها، وتُجهض المساعي الرامية إلى محاسبته على ارتكابه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. وعليه، يظل مستقبل أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في قطاع غزة تحت حصار خانق، رهينًا لواقع مظلم تغيب عنه أي آليات تدخل دولي فعّالة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك