يُسلّط الوضع المأساوي الوخيم في غزة اليوم الضوءَ بوضوح على حالة استثنائية اسمها إسرائيل، التي جعلت من تجويع مليوني فلسطيني في قطاع غزة المحاصر والمدمّر تكتيكًا لانتزاع تنازلاتٍ سياسية من الفصائل الفلسطينية العاملة هناك.
في يوم 23 أبريل 2025 لم يتوان مكتب منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في وصف الوضع الإنساني المأسوي الحالي في قطاع غزة بأنه الأسوأ على الإطلاق منذ بدء الحرب.
وعلى الرغم من خطورة هذه التصريحات الأممية، فإنها غالباً ما تُعامل باعتبارها أخباراً روتينية لا غير، ولا تثير سوى القليل من العمل الملموس أو المناقشات الموضوعية.
إن انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية والإنسانية المتعلقة باحتلالها لفلسطين حقائق راسخة، كما أنها تبرز بُعدًا جديدا من هذه الحالة الاستثنائية، يتجلى في قدرة إسرائيل على تجويع شعب بأكمله عمدًا لفترة طويلة، حتى أن البعض بات يدافع عن هذا النهج الذين تنتهجه حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وفي وخضم هذا الصمت العالمي المريب والمخزي، يظل سكان قطاع غزة يعيشون معاناة مأساوية، بعد أن شهدوا خسارة ما يقرب من 10 في المائة من إجمالي عددهم بسبب الوفيات والاختفاءات والإصابات.
يجد سكان غزة أنفسهم محاصرين في منطقة صغيرة مدمرة إلى حد كبير تناهز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا، وهم يواجهون الموت بسبب أمراض يمكن علاجها ويفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية، وحتى المياه النظيفة.
ورغم هذه الظروف، تواصل إسرائيل العمل دون عقاب فيما يبدو أنه تجربة وحشية وطويلة الأمد، في حين يراقب الكثير من العالم ما يحدث بدرجات متفاوتة من الغضب والعجز أو التجاهل التام.
يبقى دور المجتمع الدولي محوريًا. فبينما يُعدّ إنفاذ القانون الدولي جانبًا، فإنّ ممارسة الضغط اللازم لتمكين شعبٍ يواجه المجاعة من الحصول على الضروريات الأساسية كالغذاء والماء جانبٌ آخر.
وبالنسبة إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فإن هذه الاحتياجات الأساسية تبدو الآن بعيدة المنال على مدى عقود تضاءلت خلالها التوقعات.
وخلال جلسات الاستماع العامة في لاهاي التي بدأت في 28 أبريل الماضي، ناشد ممثلون من العديد من الدول محكمة العدل الدولية استخدام سلطتها باعتبارها المحكمة العليا لإلزام إسرائيل بوقف تجويع الفلسطينيين.
وصرح ممثل جنوب أفريقيا، جيميون هندريكس، بأنه لا يجوز لإسرائيل معاقبة الشعب الفلسطيني المحميّ جماعيًا. وأضاف المبعوث السعودي، محمد سعود الناصر، أن إسرائيل حوّلت قطاع غزة إلى كومة من الأنقاض لا تصلح للعيش، بينما قتلت آلاف الأبرياء والمستضعفين.
وقد ردد ممثلون من الصين ومصر والجزائر وجنوب إفريقيا ودول أخرى هذه المشاعر، وهو ما يتوافق مع تقييم فيليب لازاريني، رئيس الأونروا، الذي صرح في شهر مارس الماضي بأن إسرائيل تستخدم استراتيجية استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح.
مع ذلك، فإن الادعاء بأن استخدام الغذاء كسلاح يمثل تكتيكا إسرائيليا متعمدا لا يحتاج إلى دليل خارجي؛ فقد أعلنته إسرائيل نفسها. فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يوآف غالانت، علنًا حصارًا شاملًا على غزة في 9 أكتوبر 2023، بعد يومين فقط من بدء حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل.
كان تصريح غالانت كالآتي - نفرض حصارًا شاملًا على غزة. لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود - كل شيء مُغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف بناءً على ذلك - ولم يكن ذلك اندفاعًا عفويًا، بل سياسة متجذرة في خطاب مُهين للإنسانية، تُطبّق بعنف ووحشية.
لقد تجاوز هذا التصرف بناءً على ذلك إغلاق المعابر الحدودية وعرقلة وصول المساعدات. وحتى عندما سُمح بالمساعدات، استهدفت القوات الإسرائيلية المدنيين اليائسين، بمن فيهم الأطفال، الذين تجمعوا لتلقي الإمدادات، فقصفتهم مع شاحنات المساعدات وأردتهم بين قتلى وجرحي.
وقد وقعت حادثة مدمرة بشكل خاص في 29 فبراير 2024 في مدينة غزة، حيث أشارت التقارير إلى أن النيران الإسرائيلية قد قتلت 112 فلسطينياً وأصابت 750 آخرين.
كانت تلك الحادثة الأولى فيما عُرف لاحقًا باسم مجازر الطحين. فقد وقعت حوادث مماثلة لاحقة، وفيما بين تلك الحوادث، واصلت إسرائيل قصف المخابز ومخازن المساعدات والأشخاص الذي تطوعوا للقيام بتوزيعها.
وكان الهدف الذي ترمي إليه إسرائيل من وراء ذلك هو العمل على تجويع السكان الفلسطينيين إلى درجة تسمح بالمساومة القسرية وربما تؤدي إلى التطهير العرقي للشعب الفلسطيني في القطاع.
وفي الأول من شهر أبريل 2025، عمدت إسرائيل إلى استخدام طائرة مسيرة لقصف موكب تابع لمنظمة وورلد سنترال كيتشن، مما أسفر عن مقتل ستة عمال إغاثة دوليين وسائقهم الفلسطيني، وقد أدى ذلك العدوان إلى رحيل عددٍ كبيرٍ من عمال الإغاثة الدوليين المتبقين من غزة.
وبعد بضعة أشهر، وبدءاً من شهر أكتوبر 2024، تم فرض حصار مشدد وجائر على شمال قطاع غزة، بهدف إجبار السكان على النزوح جنوباً، وربما باتجاه صحراء سيناء.
رغم هذه الانتهاكات الصارخة والهجمات الوحشية وما نتج عنها من مجاعة، لم تنكسر إرادة سكان غزة. بل بدأ مئات الآلاف، حسبما ورد، بالعودة إلى منازلهم وبلداتهم المدمرة في شمال القطاع.
وعندما تراجعت إسرائيل، في 18 مارس الماضي عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعقب مفاوضات مكثفة، فقد لجأت مجددًا إلى استخدام سياسة التجويع كسلاح. ولم تُثر عودة إسرائيل إلى الحرب وسياسات التجويع أي عواقب تُذكر، ولم تصدر بشأنها إدانة قوية من الحكومات الغربية.
يُصنَّف استخدام تجويع المدنيين كأسلوب حرب كجريمة حرب بموجب القانون الدولي، وهو ما نص عليه صراحةً نظام روما الأساسي. ومع ذلك، تُثار شكوك حول جدوى هذه الأطر القانونية عندما يفشل من يدافعون عن هذه القوانين ويعتبرون أنفسهم حماتها في تطبيقها أو إنفاذها.
لقد أدى تقاعس المجتمع الدولي خلال هذه الفترة من المعاناة الإنسانية المأساوية إلى تقويض أهمية القانون الدولي بشكل كبير، ولا شك أن العواقب المحتملة لهذا التقاعس وخيمة، وهي تتجاوز الشعب الفلسطيني لتشمل البشرية جمعاء.
وبعيدًا عن هذه الأطر القانونية، يبقى الأمل قائمًا في أن تتحرك فينا مشاعر الرحمة الإنسانية الأصيلة وتدفعنا إلى توفير الإمدادات الأساسية كالدقيق والسكر والماء لسكان غزة. إن عدم القدرة على توفير هذه المساعدات الأساسية سيُعمق الشكوك في إنسانيتنا المشتركة لسنوات قادمة.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك