في ظل الحملة القمعية التي شنّتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضد النشاط المؤيد لفلسطين في الجامعات الأمريكية، والتي شملت محاولات لترحيل الطالب والناشط محمود خليل من جامعة كولومبيا رغم تمتّعه بإقامة قانونية، كتب رامي خوري، من المركز العربي في واشنطن، أن الولايات المتحدة باتت تمثل خطًا أماميًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث بدأت تتبلور داخلها قوة محلية مضادة ناشئة، تسعى إلى التصدي للانحياز الأمريكي التاريخي لصالح إسرائيل في سياساتها الخارجية، ولمسار العسكرة المستمر في منطقة الشرق الأوسط.
وفي واقع الأمر، لا تقتصر هذه الديناميكية في العالم الغربي على الولايات المتحدة فحسب، إذ شهدت الدول الأوروبية، منذ بداية حرب إسرائيل على غزة في أكتوبر 2023، موجة واسعة من الاحتجاجات الحاشدة، إضافة إلى تقديم طعون قانونية ضد السياسات الحكومية التي تواصل دعمها لتحركات ونيات ائتلاف بنيامين نتنياهو المتطرفة. وتصدّر مطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية قائمة مطالب المحتجين، الذين دعوا حكوماتهم -بما في ذلك بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا- إلى اتخاذ موقف واضح في هذا الشأن. ومع ذلك، لم تعترف هذه الحكومات بالدولة الفلسطينية.
وعلى الرغم من ذلك، فقد تغيرت هذه الحسابات بعد زيارة ماكرون، إلى مصر في أوائل أبريل 2025، حيث أعلن عزمه المضي قدمًا في الدفع نحو اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية خلال الأشهر المقبلة، مؤكدًا أنه لا يوجد سبيل آخر سوى الحل السياسي، مشددا على دعمه للحق الشرعي للفلسطينيين في دولة وسلام، تمامًا كما أدافع عن حق الإسرائيليين في العيش بسلام وأمن.
وكتب باتريك وينتور، في صحيفة الجارديان، أن تصريحات الرئيس ماكرون، شكّلت ضغطًا دبلوماسيًا واضحًا، على المملكة المتحدة لتحذو حذوه. ودفع هذا عددا من نواب البرلمان البريطاني إلى مطالبة حكوماتهم بالانضمام إلى هذه الخطوة، ومن بينهم إميلي ثورنبيري، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، حيث أيدت اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية، قائلة: «إنه في الوقت الذي يجلس فيه العديد من الدول الأخرى في موقع الانتظار، ينبغي على لندن، أن تتخذ هذه الخطوة جنبًا إلى جنب مع الأصدقاء».
وفيما يتعلق بسياسة الحكومة البريطانية بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، سجل وينتور، كيف أن ديفيد كاميرون -وزير الخارجية السابق- قدم سياسة بلاده بشكل هامشي، عندما صرح بأن الاعتراف لا يجب أن يأتي في نهاية عملية تؤدي إلى حل الدولتين. وعلى الرغم من اعتراف إسبانيا، والنرويج، وجمهورية أيرلندا بالدولة الفلسطينية في مايو 2024؛ لتعزيز السلام والعدالة والاتساق -كما جاء على لسان بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا– فإن حكومة ريشي سوناك، لم تحرك ساكنًا آنذاك.
وفي سياق حملته الانتخابية لمنصب رئيس وزراء المملكة المتحدة، دعا ستارمر، زعيم حزب العمال إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، واصفًا هذا الاعتراف بأنه غاية في الأهمية. إلا أن جو ميدلتون، في صحيفة الاندبندنت، أشار إلى أنه بعد فوزه في الانتخابات منتصف عام 2024، قرر تأجيل خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خشية أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بعلاقة بريطانيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
من جانبهم، حثّ النواب البريطانيون وزير الخارجية ديفيد لامي على وضع جدول زمني للاعتراف رسميًا بدولة فلسطينية مستقلة. وفي يناير 2025، سألته باولا باركر، من حزب العمال عما إذا كان سيتحلى بالشجاعة، والجرأة لضمان ألا نبقى هنا بعد 25 عامًا نناقش حل الدولتين.
ووافق السير فنسنت فين، القنصل العام السابق للمملكة المتحدة في القدس على أن اعتراف بريطانيا بدولة فلسطينية لا يتعلق بالانحياز؛ بل يتعلق بـالتكافؤ، والعدالة والمسألة التاريخية، معبّرا عن أسفه لأن لندن ينبغي أن تقود، لا أن تتبع، في مثل هذه القرارات الدبلوماسية المهمة، معترفًا بأنها تتحمل مسؤولية تاريخية، نابعة من الوعود الناقصة في وعد بلفور، وسوء إدارتها لفترة الانتداب على فلسطين حتى عام 1948، حيث لا يمكنها الاستمرار في إعلان دعمها لحل الدولتين، بينما ترفض الاعتراف بإحدى هاتين الدولتين.
ورغم تأكيد فين، أنه لا يوجد أي عائق قانوني يمنع الاعتراف بدولة فلسطين، مستشهدًا بتصريح وزير الخارجية البريطاني الأسبق ويليام هيغ عام 2011، بأن (تُحقق فلسطين المعايير المعتمدة دوليًا لتكون دولة مستقلة)؛ إلا أن السياسة المؤيدة لإسرائيل داخل بريطانيا -كما هو الحال في الولايات المتحدة وفي أوروبا- لا تزال تشكل عقبات تمنع الحكومات من إظهار القيادة الأخلاقية اللازمة لتجاوزها.
ولا يزال صراع النفوذ السياسي داخل بريطانيا بشأن القضية الفلسطينية، قائما، كما يتضح من الطريقة التي تفاعلت بها كيمي بادينوك، زعيمة حزب المحافظين المعارض، مع واقعة منع إسرائيل للنائبين البريطانيين ابتسام محمد، ويوان يانغ من دخول الضفة الغربية وترحيلهما، حيث كانا في مهمة روتينية لتقصي الحقائق لصالح البرلمان البريطاني في الضفة الغربية المحتلة، ضمن وفد نظمه مجلس التفاهم العربي البريطاني بالتعاون مع منظمة المعونة الطبية للفلسطينيين. ورغم ذلك، أبدت بادينوك، دعمها لإجراءات إسرائيل، بدلاً من تضامنها مع البرلمانيين البريطانيين، ودعم مهمتهما الهادفة إلى التحقيق وإبلاغ الحكومة البريطانية بما يتعرض له الفلسطينيون من انتهاكات على يد الاحتلال الإسرائيلي.
وكتب كريس دويل، من مجلس التفاهم العربي- البريطاني، أن المزاعم التي قدمتها إسرائيل، بأن زيارة محمد، ويانغ، تروج لخطاب كراهية ضد إسرائيل، هي مزاعم باطلة بكل بساطة، مؤكدًا أن جميع أعضاء الوفد حصلوا مسبقًا على إذن للسفر، ما يعني أن السلطات الإسرائيلية كانت تعلم بقدومهم، وبالهدف من زيارتهم، مشددا على أن هذه الحادثة، تمثل سابقة تاريخية تقوم فيها الحكومة الإسرائيلية بترحيل نائبين منتخبين من البرلمان البريطاني، رغم أن المجلس قد سهل زيارات لـ161 نائبًا بريطانيًا إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1997.
وفي حين أدانت ثورنبيري، هذا السلوك بوصفه إهانة لبريطانيا، فقد دافعت بادينوك، عن القرار الإسرائيلي، معتبرة أن لإسرائيل الحق في التحكم بحدودها، وهي التصريحات التي أثارت موجة من الانتقادات الحادة داخل الأوساط السياسية البريطانية، ووصفها وزير الخارجية ديفيد لامي، بـالموقف المخزي، واعتبرها إد ديفي، زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي، سوء تقدير لا يُصدق.
وفيما يتعلق بالاعتراف البريطاني المحتمل بالدولة الفلسطينية خلال الأشهر المقبلة، وفي ظل تعاون محتمل مع حكومات أوروبية أخرى، ومع تأكيد ماكرون، أن مؤتمر حل الدولتين -المزمع عقده في نيويورك في يونيو2025 بمشاركة دول الخليج خاصة السعودية- يجب أن يكون حاسمًا؛ كتب فين، أنه ينبغي على حكومة ستارمر، دعم هذا النهج، باعتباره أفضل وسيلة للوفاء بالمسؤولية التاريخية لبريطانيا تجاه الشرق الأوسط، ولالتزامها المعلن بدعم القانون الدولي.
وفي هذا السياق، تساءل وينتور، عن تأثير العلاقات القوية حاليًا بين فرنسا، وبريطانيا، معتبرًا أنه سيكون من الصعب على الخارجية البريطانية، مقاومة أي تحرك فرنسي قوي للاعتراف بفلسطين، خصوصًا إذا تم النظر إلى ذلك، كجزء من مبادرة سلام أوروبية-خليجية. ورغم اعترافه، بأن هذه الخطوة قد تثير غضب، إدارة ترامب؛ إلا أنه أشار إلى أن أي مشاركة نشطة من قبل دول الخليج، قد تدفع واشنطن، إلى إعادة النظر في دعمها لنتنياهو، وربما عدم عرقلة اعتراف أوروبي أوسع بالدولة الفلسطينية.
وتثير هذه الاحتمالية سؤالًا جوهريًا.. وهو إلى أي مدى يمكن أن يُحدث الاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية مستقلة، فرقًا في ظل الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة والأراضي المحتلة؟ وعلى الرغم من أن 148 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، قد اعترفت رسميًا بفلسطين، فإن أياً من الدول الغربية الأعضاء في مجموعة العشرين لم تقدم على هذه الخطوة حتى الآن، بل والتزمت كلها الصمت حيال سلسلة جرائم الحرب التي ارتُكبت منذ أكتوبر 2023. ورغم قيادة ماكرون، للدفع نحو الاعتراف بفلسطين داخل أوروبا، فقد رفضت حكومته المذكرة التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، لاعتقال نتنياهو، بحجة أنه يتمتع بالحصانة الدبلوماسية.
ومع تصعيد حكومة نتنياهو، المتطرفة لعمليات تدمير غزة، وتسريع وتيرة ضم الضفة الغربية والقدس الشرقية، مدعومة من واشنطن؛ حذرت ثورنبيري، من أنه ما لم تتخذ الدول الغربية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، إجراءات عاجلة، فلن تبقى هناك فلسطين يمكن الاعتراف بها.
وبناءً على ذلك، وكما خلص فين، فإن الإمبراطورية البريطانية أسهمت في رسم حدود الشرق الأوسط الحديث، بما ترتب على ذلك من عواقب وخيمة على الشعب الفلسطيني، وفي عام 2025، أصبحت حكومتنا اليوم تملك فرصة للمساهمة في إعادة تشكيل مستقبل شعوب الشرق الأوسط، وإن تحقيق ذلك يتطلب أن تكون بريطانيا مستعدة لقيادة المرحلة المقبلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك