التَّحوُّلات المتسارعة فِي أَنمَاط التَّعْليم، وتزايد التَّحدِّيات المرْتبطة بِتمْوِيل مُؤسسَات التَّعْليم العالي، تَفرِض على مُؤسسَات التَّعْليم العالي اليوْم أن تَبحَث عن نَماذِج جَدِيدَة أَكثَر اِسْتدامة، وأكْثر اِرْتباطًا بِمتطلَّبات الواقع. وجَامِعة البحْريْنْ، بِوصْفِهَا الجامعة الوطنيَّة اَلأُم، مُؤَهلَة لِأن تَتَبنَّى نموذَجًا جديدًا فِي هذَا الاتِّجاه، يَقُوم على تَأسِيس شَركَة تعْليميَّة دَاعِمة تَكُون ذِراعًا مُؤسَّسِيًّا واقْتصاديًّا لِلْجامعة، دُون أن تَخرُج عن رِسالتهَا الأكاديميَّة والْعلْميَّة.
الْفكْرة تَقُوم على تَأسِيس شَركَة مَملُوكة بِالْكامل لِجامِعة البحْرين، تَعمَل وَفْق قَانُون الشَّركات البحْرينيِّ، وتدار بِأسْلوب اِحْترافيٍّ، وتتمَتَّع بِمرونة تشْغيليَّة تُتيح لَهَا التَّفاعل مع سُوق العمَل، وَتقدِيم خدْمَات مُتَنوعَة لِلْقطاعات الحكوميَّة والْخاصَّة والْمجْتمع. هَذِه اَلشرِكة لَا تَهدِف إِلى تَحقِيق الرِّبْح التِّجاريِّ، وَإِنمَا إِلى تَموِيل بَعْض اِحْتياجات الجامعة مِن خِلَال مَوارِد ذاتيَّة، والْمساهمة فِي رَبْط الجامعة بِالْواقع العمليِّ، وَتعزِيز جَودَة التَّعْليم، وَتوسِيع نِطَاق تَأثِير الجامعة خَارِج أسْوارهَا التَّقْليديَّة.
يُمْكِن أن تَتَنوَّع أَنشِطة هَذِه اَلشرِكة لِتشْمل تَطوِير المنصَّات التَّعْليميَّة والْإداريَّة الرَّقْميَّة، وإِنتَاج المحْتوى الإلكْترونيِّ التَّفاعليِّ، وَتقدِيم الاسْتشارات البحْثيَّة والتِّقْنيَّة، وإنْشَاء حاضنَات ومسْرعات أَعمَال لِدَعم مَشارِيع الطَّلَبة والْمبْتكرين. كمَا يُمْكنهَا إِدارة حُقُوق الملْكيَّة الفكْريَّة وَتطوِير الوحدات الإنْتاجيَّة دَاخِل الكلِّيَّات مِثْل المخْتبرات والْمراكز الطِّبِّيَّة، بِالْإضافة إِلى تَنفِيذ بَرامِج تدْريبيَّة تأْهيليَّة تَستهْدِف فِئَات مُختلفَة مِن المجْتمع. ولِتوْسِيع نِطَاق تأْثيرها، يُمْكِن إِضافة وَحدَة مَحَليَّة لِصناعة الأدوات التَّعْليميَّة والتِّقْنيَّة، وإطْلَاق ذِرَاع اِسْتثْماريَّة لِتحْوِيل اِبْتكارات الطُّلَّاب إِلى مُنتجَات قَابِلة لِلتَّسْويق، وَتصمِيم تطْبيقات ذَكيَّة تَعتَمِد على الذَّكَاء الاصْطناعيِّ لِخدْمة المجْتمع. كمَا يُمْكِن إِطلَاق مسارَات تعْليميَّة مَرنَة مُعتَرَف بِهَا رسْميًّا، وبناء شراكَات مع المدارس لِتعْزِيز المهارات الرَّقْميَّة لَدى الطَّلبة، وإنْشَاء بَنْك معْلومات وَطنِي لِلتَّخصُّصات النَّادرة. بِالْإضافة إِلى تَنظِيم مُسابقات إِقْليميَّة فِي الابْتكار والْبَحْث التَّطْبيقيِّ لِتعْزِيز ثَقافَة الإنْتاج المعْرفيِّ.
كمَا يُمْكِن تَطوِير بَرامِج تعْليميَّة مُتَخصصَة فِي المهارات المسْتقْبليَّة مِثْل الذَّكَاء الاصْطناعيِّ والرُّوبوتات، وإنْشَاء مِنَصة لِتوْظِيف الخرِّيجين تَربُطهم بِأصْحَاب العمَل. يُمْكِن أيْضًا تَطوِير بَرامِج تعْليميَّة عَبْر الواقع اَلمُعزز والافْتراضيِّ لِتوْفِير بِيئة تعْليميَّة غامرَة. بِالْإضافة إِلى ذَلكَ، يُمْكِن إِقامة شراكَات مع شركات عَالمِية لِتوْفِير فُرَص تدْريبيَّة لِلطُّلَّاب، وإنْشَاء مِنَصة تفاعليَّة لِلْبحْث اَلعلْمِي لِتعْزِيز التَّعاون الأكاديميِّ. وأخيرا، يُمْكِن تَشجِيع المشاريع البيئيَّة والابْتكارات الخضْراء لِتحْقِيق الاسْتدامة البيئيَّة، مِمَّا يُسَاهِم فِي تَطوِير حُلُول صَدِيقَة لِلْبيئة.
الْمبرِّرات اَلتِي تَدفَع بِاتِّجَاه هذَا المقْترح عديدَةً، أَولُها: أنَّ التَّمْويل الحكوميَّ، مَهمَا كَانَت قِيمته، قد لَا يَكُون كافيًا بِمفْرَده لِتلْبِية تطلُّعَات الجامعات فِي تَحدِيث بِنْيتِهَا الأكاديميَّة والْبحْثيَّة. ثانيا: يُمْكِن لِلْجامعة، مِن خِلَال شَركَة تعْليميَّة مُتخصِّصة، سدُّ الفجْوة بَيْن البرامج المقدَّمة واحْتياجات سُوق العمل عَبْر تَطوِير بَرامِج تدْريبيَّة مَرنَة ومواكبة لِلتَّطوُّرات المسْتمرَّة. ثالثا: تَمتَلِك جامعة البحرين ثَروَة بَشَريَّة مِن الأكاديميِّين والْباحثين والطَّلبة، يُمْكِن توْجيههَا نَحْو مَشارِيع تطْبيقيَّة مُبتكرَة قَابِلة لِلتَّنْفيذ.
والْجدير بِالذِّكْر أنَّ هَذِه المبادرة تَتَناغَم تمامًا مع الرُّؤْية الوطنيَّة الثَّاقبة والاسْتباقيَّة لِحضْرة صَاحِب الجلالة اَلمَلِك حمد بْن عِيسى آل خليفَة، عَاهِل البلَاد المعظَّم، فِي دَعْم مُؤسسَات التَّعْليم العالي وَتعزِيز دوْرهَا كمحرِّكات لِلتَّنْمية الاقْتصاديَّة والْمعْرفيَّة، كمَا تَتَوافَق مع التَّوْجيهات السَّديدة لِصاحب السُّموِّ الملَكيِّ اَلأمِير سَلْمان بْن حمد آل خليفَة، وَلِي العهْد رئيس مَجلِس الوزراء، فِي تَشجِيع الابْتكار، والاسْتثْمار فِي المعْرفة، وَتعزِيز الشَّراكة بَيْن الجامعة والْمجْتمع.
تَجارِب عِدَّة فِي المنْطقة والْعالم أَثبَتت أنَّ هذَا النَّموذج قَابِل لِلتَّنْفيذ، بل وفعَّال. الجامعات اَلتِي أَنشَأت كِيانَات اِقْتصاديَّة شَهدَت تحسُّنًا فِي جَودَة الخدْمات، وتعْزيزًا لِحضورهَا فِي المجْتمع، وَنمُوا فِي قُدراتهَا التَّمْويليَّة، دُون أن تَتَخلَّى عن دوْرهَا التَّعْليميِّ والْبحْثيِّ. الشَّرْط الأساسيُّ فِي هَذِه التَّجارب هُو وُجُود حَوكمَة واضحَة، وَرُؤيَة بَعِيدَة المدَى، وإرادة مُؤسَّسِيَّة تُؤْمِن بِأنَّ دَوْر الجامعة لَا يَنحَصِر دَاخِل القاعات الدِّراسيَّة.
السُّؤال الأهمُّ هُنَا لَيسَ: هل يُمْكِن تَنفِيذ هذَا المشْروع؟ بَلْ: متى تَبدَأ اَلخُطوة الأوْلى؟ فالْقانون البحْرينيُّ يُتيح لِمؤسَّسات الدَّوْلة تَأسِيس شركات تَابِعة لَهَا، ضِمْن شُرُوط واضحَة، وَيمكِن لِجامِعة البحْرين أن تَتَقدَّم بِمقْتَرح مَدرُوس إِلى الجهَات المخْتصَّة، يُوضِّح أَهدَاف الشَّركة، مجالَات عملهَا، آليَّات إِدارتها، وإطارهَا الماليُّ والْقانونيُّ. كمَا يُمْكِن تَشكِيل لَجنَة مُشتركَة مِن دَاخِل الجامعة وخارجهَا لِصياغة رُؤيَة تنْفيذيَّة تُحقِّق أَعلَى دَرَجات الكفاءة والشَّفافيَّة.
مَا هُو مُؤكَّد أنَّ تَأسِيس شَركَة تعْليميَّة تَابِعة لِجامِعة البحْرين لَيْس رفاهيةً، بل ضَرُورَة اِسْتراتيجيَّة لِتعْزِيز اِسْتقْلال الجامعة الماليِّ، وَتحقِيق فَاعلِية مُؤسَّسِيَّة أَكبَر، وفتْح آفاق جَدِيدَة أَمَام البحْث اَلعلْمِي والتَّطْوير اَلمهْنِي والابْتكار الطُّلَّابيِّ. والْأهمَّ، أنَّ هَذِه اَلخُطوة تَعنِي أنَّ الجامعة بَدأَت تُعيد تَعرِيف دوْرهَا فِي المجْتمع، لَا بِاعْتبارهَا جِهة تَمنَح الشَّهادات العلمية فقطْ، بل بِاعْتبارهَا مُؤَسسَة إِنتَاج مَعرفِي وَتنمِية وطنيَّة.
كلُّ عَناصِر النَّجَاح حاضرَةً: الخبْرات مُتوفِّرةً، التَّجْربة واضحَةً، والدَّعْم الوطَنيُّ مُتواصل.. ولذلك فإن جَامِعة البحْريْن قادرة على إحداث هذَا التَّحَوُّل النَّوْعيِّ.
{ أسْتاذ اللُّغويَّات - زميل أكاديميَّة
التَّعْليم العالي البريطانيَّة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك