يعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في 170 دولة ومنطقة حول العالم؛ لتعزيز التنمية البشرية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، والتي تُركز على قضايا الفقر، وعدم المساواة، والحوكمة، والمرونة، والبيئة، والطاقة، والمساواة بين الجنسين.
ومنذ صدور أول تقرير له عام 1990، دأب البرنامج على إصدار تقرير التنمية البشرية بشكل سنوي تقريبًا، مع بعض الإصدارات المزدوجة كما في أعوام (2007-2008، و2021-2022، و2023-2024)، بينما توقّف الإصدار في أعوام (2012، و2017، و2018). وتُعد هذه التقارير مرجعًا رئيسيًا لأحدث نتائج مؤشر التنمية البشرية (HDI)، الذي يعتمد على مزيج إحصائي من أبرز مقاييس التنمية البشرية حول العالم، في مقدمتها متوسط العمر المتوقع، ومستوى التعليم، ونصيب الفرد من الدخل.
ويتناول كل تقرير من تقارير التنمية البشرية محورًا محددًا يُخصص للتحليل وبلورة التوصيات، بدءًا من قضايا الأمن البشري، مرورًا بالنوع الاجتماعي، وآثار الاستهلاك المتزايد، والأمن المائي، والاستدامة، وصولًا إلى التأثيرات البيئية للتنمية البشرية على الغلاف الجوي. ففي تقرير عام 2023/2024، ركّز على أهمية تعزيز التعاون في عالم يشهد تصاعدًا في الاستقطاب والانقسامات.
وفي تقرير عام 2025، تم تسليّط الضوء على قضايا جوهرية، مثل الناس والإمكانيات في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث أثار مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أخيم شتاينر، تساؤلات حول المفارقة بين السرعة التي تتقدم بها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبين جمود مسار التنمية البشرية عالميًا. وتساءل عمّا إذا كنا نقف على أعتاب نهضة يقودها الذكاء الاصطناعي، أم أننا نسير من دون وعي نحو مستقبل يتسم بتفاقم عدم المساواة وتآكل الحريات؟
وفيما يتعلق بأحدث مؤشر للتنمية البشرية، وعلى الرغم من تحقيقه قيمة عالمية إجمالية وصلت إلى مستوى قياسي، فإن نموه خلال العام المنصرم هو الأدنى له منذ 35 عامًا، حيث أظهر أن فجوة التنمية بين البلدان ذات المستوى المرتفع جدًا، والمنخفض آخذة في الاتساع، بدلاً من تقلصها خلال فترة السنوات الأربع الماضية.
وفي أحدث تصنيفات المؤشر، احتلت البحرين، المرتبة 38 من بين 193 دولة، بقيمة (0.899)، بتصنيفها كدولة تحظى بـتنمية بشرية عالية جدًا، لتأتي بجانب جيرانها في مجلس التعاون الخليجي، حيث تبعت الإمارات، والسعودية في قائمة المتصدرين العالميين.
وفيما يتعلق بالتنمية الوطنية، تضع الأمم المتحدة، مقاييس تحسين التعليم، والرعاية الصحية، والوصول إلى الموارد، والمساواة بين الجنسين، كعناصر أساسية، ومن ثمّ، ليس من المستغرب أن تتضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للمنظمة -والتي تسعى إلى تحقيقها بحلول عام 2030- (القضاء على الفقر والجوع في جميع أنحاء العالم، وضمان التعليم الشامل والجيد للجميع، وتمكين النساء والفتيات، وضمان الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي، وتوفير الطاقة بأسعار معقولة وموثوقة، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام)، كل ذلك بالتزامن مع اتخاذ إجراءات لمكافحة تغير المناخ، وتعزيز السلام والعدالة على الصعيد الدولي.
وفي أحدث تصنيفات الدول المتقدمة بالعالم، احتلت الاقتصادات المتقدمة في أوروبا الغربية مكانة بارزة، حيث شغلت أيسلندا المرتبة الأولى بقيمة (0.972)، تليها النرويج وسويسرا (كلاهما 0.970)، والدنمارك (0.962)، وألمانيا (0.959). ومن بين أبرز الاقتصادات العالمية، احتلت المملكة المتحدة المرتبة 13 (0.946)، والولايات المتحدة الأمريكية المرتبة 17 (0.938)، واليابان المرتبة 23 (0.925)، وفرنسا المرتبة 26 (0.920)، بينما جاءت الصين في المرتبة 78، بنتيجة (0.797).
وبإجمالي نقاط (0.899)، احتلت البحرين المرتبة 38 بين دول العالم. وتمت الإشارة إلى أن متوسط العمر المتوقع فيها -البالغ 81.3 عامًا- يُضاهي متوسطات الاقتصادات المتقدمة في أوروبا الغربية. وعلى الرغم من أن عدد سنوات الدراسة المتوقعة حاليًا (15.9 عامًا)، ومتوسط سنوات الدراسة (11.1 عامًا)، أقل من مثيلاتها في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية الرائدة؛ إلا أن الرقم السابق أعلى من الرقم المسجل في الإمارات (15.6 عامًا)، وفي كلا الفئتين، تحتل المملكة مرتبة أعلى من قطر، وسلطنة عُمان، والكويت.
وفيما يتعلق بمقياس نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي كمقياس لتقييم التنمية؛ فإن نسبة البحرين البالغة (52,819 دولارًا أمريكيًا)، تظهر أنها أقل بقليل من درجة المملكة المتحدة (54,372 دولارًا أمريكيًا) وكندا (54,688 دولارًا أمريكيًا)، وأعلى من مستوى كوريا الجنوبية، واليابان (49,726 دولارًا أمريكيًا و47,775 دولارًا أمريكيًا على التوالي). وعلى الصعيد الإقليمي، تحتل أيضًا مرتبة أعلى من السعودية (50,299 دولارًا أمريكيًا)، وعُمان (36,096 دولارًا أمريكيًا).
ويتجلى التقدم المتواصل لمؤشر التنمية البشرية في المملكة من خلال الارتفاع الملحوظ في قيمته، حيث سجّل نموًا من (0.734) في عام 1990، إلى (0.810) مع مطلع الألفية الجديدة، ثم واصل ارتفاعه ليبلغ حاليًا (0.899) بعد مضي خمسةٍ وعشرين عامًا. وبلغ متوسط النمو السنوي للمؤشر منذ عام 1990 وحتى الآن نحو 0.62%، في حين شهدت الفترة بين عامي 2010 و2023 أعلى معدلات التقدم، حيث نما خلالها بمعدل سنوي بلغ 0.81%.
ووفقًا لبيانات اليونسكو، الواردة في تقرير التنمية البشرية ذاته، فإن 46% من خريجي مجالات العلوم والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات في البحرين هم من النساء، وهي نسبة تفوق المتوسط العالمي البالغ 35%، كما تتجاوز هذه النسبة مثيلتها في الإمارات (45%)، وفي عدد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا (28%)، وفرنسا (31%).
وبالنسبة إلى بقية دول الخليج، جاءت الإمارات في المرتبة الـ15 عالميًا بالنسبة إلى مؤشر التنمية البشرية، بدرجة تبلغ (0.946)، متقدمة بذلك على المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، واليابان، وفرنسا. بينما احتلت السعودية المرتبة الـ37 (0.900)، وقطر الـ43 (0.886)، تلتها سلطنة عمان (0.858)، ثم الكويت (0.852). وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كانت إسرائيل هي الأعلى تصنيفًا في المرتبة الـ27، بينما جاءت الجزائر في المرتبة الـ96، كأعلى دولة عربية غير خليجية، بدرجة (0.763)، تلتها مصر، والأردن (كلاهما 0.754)، ثم لبنان في المرتبة 102. أما في ذيل الترتيب العالمي، فقد جاءت فلسطين في المرتبة 133 (0.674)، وسوريا في المرتبة 162، واليمن في المرتبة 184.
ويبلغ متوسط مؤشر التنمية البشرية في الدول العربية (0.719)، وهو أعلى فقط من منطقتي جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. أما فيما يخص مؤشر التنمية البشرية للمرأة، فقد سجلت البحرين، درجة (0.870)، وهي أعلى من الدرجات المسجلة في السعودية، وسلطنة عمان، والكويت، ويبلغ متوسط العمر المتوقع للنساء بها 82 عامًا.
وفيما يخص مؤشر التنمية بين الجنسين، فإن متوسط درجة الدول العربية يبلغ (0.871)، وهو الأدنى على مستوى العالم، وأقل بقليل من متوسط جنوب آسيا (0.872)، ويقل كثيرًا عن مستوى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (0.986).
وتجدر الإشارة إلى أن تقرير التنمية البشرية لعام 2025، يركّز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي وصفها بأنها بطاقة جامحة للتنمية، مشيرا إلى أن التركيز الدولي في تناول هذه التكنولوجيا ينصب على سباقات التسلح، والسياسات المرتبطة بالمخاطر، متجاهلًا الجوانب الإيجابية لها، وعلى رأسها إمكانية تشكيل إمكانياتها من خلال خيارات الناس بصورة منضبطة.
ويؤكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكّل أداة فعّالة لتعزيز التنمية البشرية، وبالتالي فإن السؤال المطروح هو: ما الخيارات التي يمكن اتخاذها لجعل الذكاء الاصطناعي يعمل لصالح الناس؟ وقد علّق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بأن الاعتبارات التنموية تعتمد بدرجة أقل على ما تستطيع هذه التقنيات فعله، وأكثر على مدى تحفيز خيال البشر لإعادة تشكيل الاقتصادات والمجتمعات، وتحقيق أكبر فائدة ممكنة منه.
وفي هذا السياق، أوضح التقرير أن ما يقارب 20% من المشاركين في استطلاع عالمي، يستخدمون الذكاء الاصطناعي بشكل كبير حاليًا، بينما يتوقع ثلثا الأفراد في البلدان ذات التصنيف المنخفض والمتوسط والعالي بمؤشر التنمية البشرية، استخدام هذه التكنولوجيا في مجالات، مثل التوظيف، والتعليم، والرعاية الصحية خلال العام المقبل.
ومع التفاوت الكبير في مستويات جاهزية الدول الـ193، التي شملها تقييم الأمم المتحدة لدمج الذكاء الاصطناعي في مجتمعاتها؛ أوصى تقرير التنمية البشرية بعدد من السياسات التي ينبغي أن يعتمدها صناع القرار. في مقدمتها الدعوة إلى بناء اقتصاد تكميلي، يتفاعل بفعالية مع الذكاء الاصطناعي، ويسهم في توجيه استخدامه، بدلاً من الاكتفاء برد الفعل تجاهه، فضلا عن اعتماد الابتكار بالقصد، حيث يُوظف الذكاء الاصطناعي لدعم وتعزيز العمليات الإبداعية دون أن يحل محلها. وأخيرًا، ضرورة الاستثمار في القدرات الجوهرية، عبر تسخير مرونة الذكاء الاصطناعي في ميادين حيوية كالصحة والتعليم، بما يحفز نشوء نماذج تعاون أعمق بين الإنسان والتكنولوجيا.
ومع تسارع انتشار الذكاء الاصطناعي، وزيادة قدراته وتطبيقاته في مختلف التخصصات، يؤكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن هذه التكنولوجيا تحمل في طياتها فرصًا كبيرة لتعزيز التنمية على مستوى العالم. وفي حالة البلدان المصنفة في فئة التنمية البشرية المرتفعة جدًا، مثل البحرين، يُتوقع أن يكون الوصول إلى تقنياته، محركًا رئيسيًا، لمزيد من النمو الاقتصادي، لاسيما في قطاعي التعليم، والرعاية الصحية، وهو ما سينعكس إيجابًا على مكونات مؤشر التنمية البشرية الثلاثة: متوسط العمر المتوقع، وسنوات التعليم، والدخل القومي الإجمالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك