في السادس من مايو 2025 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق مع الحوثيين في اليمن لوقف استهدافهم الملاحة البحرية في البحر الأحمر مقابل وقف الغارات الأمريكية على الحوثيين فوراً، ولاشك أنها خطوة مهمة ليس فقط لتحقيق الأمن البحري في مضيق باب المندب والبحر الأحمر ومن ثم قناة السويس، إلا أنه من أجل تقييم تلك الخطوة بشكل صحيح يجب وضعها ضمن الإطار الإقليمي، وقبيل ذلك لوحظ كثرة الجدل حول الربح والخسارة، بمعنى آخر الاتفاق انتصار لمن وخسارة لمن؟ ولكن في تصوري أن تلك الحالة من الصعب الحديث فيها عن الربح والخسارة بمعناها المادي، إذ يمكن اعتباره اتفاق الضرورة، وفيه مصلحة مؤكدة لطرفيه، فالولايات المتحدة التي أسست وقادت تحالف حارس الازدهار في ديسمبر 2023 ويضم العديد من الدول لحماية الملاحة البحرية في تلك المنطقة، أثير جدل على المستويين الإقليمي والعالمي حول مدى فاعلية الجهود العسكرية لحماية الملاحة البحرية بعد مرور 16 شهرا على بدء تلك العمليات، ذلك الجدل الذي أحدث انقساما داخل وزارة الدفاع الأمريكية ذاتها ما بين مؤيد لاستمرار العمليات بل والحديث عن التدخل البري وما بين معارض لاستمرارها لأسباب عديدة من بينها تكلفة الصاروخ التي تبلغ مليوني دولار لإسقاط طائرة مسيرة «درونز» تبلغ تكلفتها عشرات الآلاف من الدولارات، فضلاً عن تزامن الاتفاق مع المفاوضات النووية الإيرانية، والتي تسود بشأنها رؤيتان الأولى لدى الإدارة الأمريكية بضرورة أن يشمل الاتفاق مسألة الصواريخ والثانية إيرانية ترى أنه لن يتم التفاوض بشأن قدراتها الدفاعية بل إنها أعلنت تدشين صاروخ باليستي جديد يعمل بالوقود الصلب، ويبلغ مداه 1200 كيلومتر تزامناً مع توقف المفاوضات مع الولايات المتحدة، من ناحية ثالثة فإن ذلك الاتفاق جاء قبل أيام من الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي لعدد من دول الخليج العربي وبالطبع ستكون الصراعات الإقليمية بما فيها اليمن محل نقاش موسع خلال تلك الزيارة واللقاء المرتقب مع قادة دول الخليج العربي الست في الرياض، وعلى جانب جماعة الحوثي، فلا شك أن التطورات الإقليمية ألقت بظلالها على دوافعها لإبرام مثل ذلك الاتفاق، فنتائج عام ونصف والعام منذ السابع من أكتوبر 2023 كانت عديدة وخاصة على الجماعات دون الدول حماس، حزب الله، بالإضافة إلى التحولات التي شهدتها سوريا ومجملها أن ما كان يطلق عليه محور المقاومة في تراجع بما يعنيه ذلك من عزل الحوثيين عن الإطار والدعم الإقليمي بشكل كبير، من ناحية ثانية ربما يكون الاتفاق فرصة للحوثيين لإعادة تنظيم صفوفهم مجدداً أخذا في الاعتبار وجود تقديرات تشير إلى أن الحوثيين أطلقوا حوالي 1600 صاروخ منذ بدء الحرب في غزة لتهديد الملاحة البحرية وبعضها باتجاه إسرائيل كان آخرها صاروخ باليستي فرط صوتي ويبلغ مداه من 1600- 2000 كم استهدف مطار بن جوريون، مما أدى إلى توقف الملاحة الجوية في المطار مدة ثلاثين دقيقة، وأنه لا يزال لدى الحوثيين عدد مماثل من الصواريخ التي تم إطلاقها.
وبغض النظر عن دوافع الطرفين لإبرام ذلك الاتفاق الذي تم بوساطة عمانية وكان محل ترحيب من جانب أطراف إقليمية ودولية، فضلاً عن الأمم المتحدة التي طالبت أطراف الاتفاق بالالتزام بمضامينه، فإن له انعكاسات إقليمية مهمة، وخاصة أن جماعة الحوثي أعلنت أن وقف الاعتداء على السفن في البحر الأحمر لا يشمل السفن الإسرائيلية بما يعنيه ذلك من استمرار تهديد الملاحة البحرية عموماً، بما يعنيه ذلك من أن ثمة نتائج محدودة لذلك الاتفاق أيضاً على إيرادات قناة السويس التي خسرت حوالي 7 مليارات دولار في عام 2024 بسبب تهديد الحوثي للملاحة البحرية.
وفي تقديري أن الاتفاق يمكن أن يكون مقدمة لإعادة تسليط الضوء على تحقيق الاستقرار في اليمن مجدداً، حيث إن ثمة جهود إقليمية ودولية مطلوبة لمشروع سياسي أمني في اليمن يحول دون تحوله لملاذ آمن لبعض الجماعات التي يمكن أن تستهدف أمن دول الجوار، بل ووقف تدمير البنية التحتية لليمن، حيث إن الاعتداءات لم يكن لها تأثير كبير على الحوثيين مقارنة بتدمير الموانئ والمطارات وبعض المصانع مما زاد من معاناة الشعب اليمني، وبرؤية استراتيجية بعيدة المدى فإن هناك حاجة إلى الحيلولة دون عسكرة الملاحة البحرية وتدويلها في تلك المنطقة الاستراتيجية التي تتقاطع عندها مصالح أطراف إقليمية ودولية حيث إن تعدد القواعد العسكرية في القرن الإفريقي عموماً مؤشرات وإن حققت الأمن على المدى القريب بيد أنها تنذر بمواجهات أيضاً حال حدوث اختلاف في المصالح بين أطرافها، ولا شك أن ثمة مصلحة استراتيجية للدول المشاطئة للبحر الأحمر، سواء بالنسبة إلى مصر واستعادة عوائدها من قناة السويس والتي تسهم بنصيب كبير في الدخل القومي لمصر، والمملكة العربية السعودية ضمن مشروعاتها التنموية على البحر الأحمر لتفعيل الأطر الإقليمية لتأمين الملاحة البحرية في تلك المنطقة وأهمها مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر والذي تأسس بموجب مبادرة سعودية عام 2020 ويضم ثماني دول، ومن ناحية ثانية وبغض النظر عن مبررات الحوثيين لاستمرار هجماتهم فإن هناك ضرورة لنزع فتيل الأزمات الإقليمية في ظل ثلاثة مؤشرات تنذر بعواقب وخيمة على الأمن الإقليمي عموماً مستقبلاً أولها: توظيف التكنولوجيا في الصراعات فالصواريخ والمسيرات هي سبب إطالة الصراع في اليمن والسودان بل والحرب الأوكرانية، والنتيجة واحدة هي أن حدود ومنشآت الدول لم تعد في مأمن، وثانيها: وجود مسارات تصالحية بين دول الخليج العربي وإيران لتغليب معطيات الجغرافيا على اعتبارات السياسة وهي رؤية تعكس أسس تحقيق الأمن الإقليمي، وثالثها: إن الأمن الإقليمي هو حاصل الوحدات المكونة له، ومن الصعب الحديث عن أمن إقليمي في ظل احتدام الصراعات في دول الجوار التي تلقي بظلالها على أمن دول الخليج العربي.
إعادة بناء اليمن وتأمين طرق الملاحة البحرية والحرب في غزة جميعها قضايا ترتبط على نحو وثيق، وفي تقديري أن المدخل الرئيسي لتحقيق الأمن الإقليمي وخاصة من جانب القوى الكبرى هو عدم التعامل مع كل قضية على حدة، فالوضع الإقليمي يزداد توتراً ويجب أن يبقى الصراع منضبطا وعدم خروجه عن السيطرة في ظل سهولة الحصول على التكنولوجيا العسكرية من جانب الجماعات دون الدول، وعدم وجود اتفاق حول الأولويات الإقليمية والدولية وأخيراً فكرة التحالفات والتحالفات المضادة بما يعنيه ذلك من تراجع مضامين الأمن التعاوني لصالح الأمن العسكري الذي وإن أنهى خطرا راهنا ولكن تأثيراته السلبية على الأمن الإقليمي تبقى سنوات، بما يعنيه ذلك من أن نزع فتيل الأزمات أضحى ضرورة استراتيجية للأطراف كافة ضمن قضايا تبدو مترابطة على نحو واضح.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك