من أجل توضيح الفكرة، لنتخيل، مجرد تخيل، أن هناك توأم أي طفلين في رحم الأم، يقول أحدهما (أ) للآخر (ب): هل تؤمن بحياة بعد هذه الحياة التي نعيشها؟
يرد (ب): بالطبع يجب أن تكون حياة أخرى، فليس من المعقول أن تكون حياتنا محصورة في هذا المكان الضيق، ولكن يجب أن نستعد لها.
يقول (أ): هذه التخاريف غير منطقية، أي حياة تلك التي تعتقد أنها موجودة خارج هذا المكان الذي نحن فيه؟
يرد (ب): لا أعرف نوعية تلك الحياة، ولكن أعتقد أن الحياة ستكون أكثر اتساعًا وجمالاً من هذا المكان، وربما نتمكن من أن نمشي ونجري على أرجلنا، ونأكل بيدنا من غير أن يأتينا الطعام عبر هذا الحبل الذي يربطنا بأمنا، ربما ستكون لدينا حواس لا نفهمها، ربما الحياة ستكون ملونة بهيجة، سعيدة، لا أعرف، ولكن حتمًا ستكون الحياة مختلفة عن حياتنا في هذا المكان.
يقول (أ): بدأت تخرف، أي منطق هذا الذي تتكلم عنه، المشي على أرجلنا والأكل بأفواهنا، وحواس لا نفهمها! (يضحك بسخرية)، الحبل السري يا صاحبي هو رابطنا بالحياة التي تأتينا من الخارج، فالحياة الأخرى التي تتكلم عنها غير منطقية، ولا توجد إلا في مخيلتك.
قال (ب): ماذا لو كان الأمر حقيقة، والحياة خارج هذا المكان مختلفة تمامًا؟ ماذا لو لم نعد نحتاج إلى الحبل السري؟ قال (أ): حسنٌ، دعني أسايرك في هذا الكلام غير المنطقي وأطرح عليك هذا السؤال: لماذا لم يعد أحد من الحياة الأخرى ليحدثنا عما وجده هناك؟ الحياة يا صديقي بعد خروجنا من هناك لا شيء مجرد ظلام وصمت، وخواء وفراغ، لا تضع الكثير من الآمال التي لا وجود لها.
يرد (ب): ربما في الحياة الأخرى سنلتقي بهذه الأم التي تحتضننا في بطنها، وتغذينا، وتهتم بنا.
قال (أ): أي أم وأي والدة، أنت تؤمن بها؟ إن كانت موجودة أين هي الآن؟ من أين جاءت وكيف جاءت؟ هل هي التي صنعتنا، فإن كانت هي فمن صنعها؟
قال (ب): هي التي تحتضننا، ونحن نعيش بداخلها...
ويستمر هذا الحوار، وإن كان هذا الحوار غير واقعي في الرحم، إلا أنه واقعي جدًا على أرض الواقع، فالعقل البشري لا يمكنه أن يتصور ما الذي يجري خلف هذا العالم الذي يعيشه، فهو محصور في هذه الكرة الأرضية، وفي هذا الجزء المادي من هذه الكرة الأرضية، فالحياة بالنسبة إليه، هذه الجزئية فقط، والكثير منا لا يتصور ولا يعتقد بوجود حياة أخرى بعد مرحلة الموت والبرزخ وما إلى ذلك، لأن عقلنا محدود جدًا وضيق التفكير على الرغم من كل هذه الإمكانيات والقدرات. إن وصلنا في جدالنا إلى هذه النقطة، فإنه حتمًا سيأتي السؤال الأزلي والأبدي الذي لا يُعرف له إجابة، وهو: لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى؟ لماذا خلق الله سبحانه الكون؟ هل لمجرد أن نقوم بعبادته، أم أن الموضوع له أبعاد أخرى؟
مبدئيًا، لا إجابات عن هذه التساؤلات، حقيقة لا أحد يعرف الإجابة عن هذه التساؤلات، وذلك بسبب واحد، وهو أن عقلنا يقيس الأمور المادية الخاضعة للقياس وباستخدام المنهج العلمي فقط، وهذا الأمر وهذه التساؤلات لا تخضع لمثل هذه الأدوات والمقاييس، فهي خارجة عن نطاق المألوف الحسي المادي والأدوات العلمية، والعقل البشري.
وجانب آخر، فالله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يعلم، لماذا؟ فهو الخالق والمنشئ، فلا يمكن أن ننازعه هذه المعرفة، فلسنا على قدر معرفته ولا يمكننا أن نتساوى مع قدرته، فهو (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فليس من قدرة البشر وليس من حقهم التطاول على الذات الإلهية، والدخول في خصوصيات الله سبحانه لنسأل عن هذه الرغبة وهذا الفعل، وليس من مهمة الإنسان أن يعرف هذه الحقيقة أو لا يعرفها. أحيانًا ننسى أننا بشر من طين، نجهل أكثر مما نعرف، فما زالت هناك مساحات ضخمة جدّا من أسرار الكون والحياة لا يعرفها البشر، والعلماءُ قبل الجهلاء يقرّون بجهلهم بها.
وأخيرًا، ماذا يستفيد الإنسان إن عرف الإجابة عن هذه التساؤلات؟ هل سيقيم الحياة الراشدة في هذه الدنيا، الخالية من الحروب والكراهية والمجاعات وما إلى ذلك؟ لو عرف الإنسان الإجابة عن هذه التساؤلات، هل كان سيقيم كل تلك الحضارات التي شيدت والعلوم التي انتشرت؟ ربما كان إخفاء الإجابة عن هذه التساؤلات هو الحافز الذي بسببه انطلق الفكر الإنساني المحدود ليبحث في عوالم المعرفة والعمل والفكر والفلسفة، نحن لا نعلم، فالعقول البشرية ذات قدرات محدودة، وعلى الرغم من محدوديتها فإن الإنسان لا يمكنه إلا استغلال 10% منها فقط، لذلك فإنه دائمًا يبحث عن الحلول والإجابات عن المعضلات التي لا يفهمها، وعلى تلك الإجابات تكونت كل هذه المعرفة وهذه العلوم، فلو عرف الإنسان كل شيء لجلس في ظل شجرة من غير أي عمل أو فكر.
فالأصلُ في الإنسان أن يعمل ويفكر ويسعى لمعرفة الإجابات عن الأسئلة التي تؤثّر الإجابة عنها بمسار حياته، أما أن يسعى للإجابة عن السؤال الذي لا يغير من واقعه شيء أو يُبنى عليه أي شيء؛ سيكون حينئذ قد خالف المنطق الفكري والعقلي السليم، وضيع وقت كان من المهم أن يستفيد منه في أمور أفضل.
وعندما نصل إلى هذه القناعات، نجد أن القرآن الكريم يؤسس في بضع آيات لمنهج التفكير الواقعي الذي ينبغي للإنسان أن يتحلّى به، فهي تقول إنك إنسان مخلوق ضعيف، مصنوع من طين وتراب، فلا تَسأل الخالق لمَ فعل هذا ولم يفعل ذلك، وما أسباب خلقه للخلق، وإنما أنت كإنسان مسؤول عما أنت مكلف به، فانشغل بشأنك الذي تيقّنت منه، وهو أنك مخلوق لتعبده وتطيعه دون أن تنسى حظّك من الدنيا، فهذا هو السؤال العملي الواقعي الذي يجب أن نفكر فيه، فنحن لا نعلم من الله عز وجل إلا ما أعلمَنا به في كتابه وعلى ألسنة رسله، وما دام لم يُعلمنا بسبب خلقه للخلق، إلا في حدود ما نحتاجه؛ كالحديث عن الغاية وهي إفراده بالعبادة، أو ذكر الابتلاء والاختبار والاختلاف، فما دام لم يُعلمنا بأكثر من ذلك في هذا الشأن فلا مجال لنعلم ما في نفسه سبحانه مما لم يُطلعنا عليه.
ثم نأتي إلى الموضوع الآخر المرتبط بهذه التساؤلات، وهو موضوع (العبادة والعبودية)، يقول تعالى في سورة الذاريات – الآية 56 (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فهل الله سبحانه محتاج إلى عبادتنا وإلى سجودنا وصلواتنا، أم ماذا؟
يمكننا أن نوضح هذه القضية من خلال المحاور التالية، وهي:
* أنسنة الإله (التشبيه بالإنسان)؛ اعتقد الإنسان وما زال يعتقد أن النموذج الإنساني هو أسمى ما يمكن أن يكون على الأرض، فهو صور الكائنات الفضائية والجن والشياطين وكل ما سمع به ولم يشاهده على هيئته هو وصورته، وحتى عندما جاء وصنع الأصنام ليعبدها صنعها على صورته هو، فالأحباش يروون إلههم أفطس الأنف، والثراديين يعتقدون أنهم زرق العيون وحمر الشعر، وحتى الإغريق واليونانيون عندما رسموا آلهتهم صوروهم كالبشر في الشكل والسلوك وحتى في التصورات والأطماع وكل الصفات البشرية، ولكن الله سبحانه في الإسلام – كما يقول ابن تيمية «لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل، فإن الله تعالى لا مثل له فيقاس به، ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها»، وهذا يعني أنه عندما يطلب الله سبحانه وتعالى من الناس عبادته فإن هذا خارج حدود الفهم والسلوك والأطماع البشرية، فهو غير محتاج وإنما نحن الذين نحتاج.
* العبادة الشاملة ارتقاء بالنفس البشرية؛ نحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى البشر لعبادته، ولكن نحن نحدث هنا عن العبادة بمفهومها الواسع التي يرتقي بأخلاقيات وسلوكيات الإنسان، وترتقي نفسه وتسمو روحه عن الماديات فقط، حينما نعلم أن إماطة الأذى عن الطريق عبادة فهذا يعني أنه من المستحيل أن نقتل أو نسرق، وحينما ندرك أن التغافل وكتمان الغضب عبادة فإن هذا يعني أن أخلاقيات التعامل مع بعضنا البعض ستسمو إلى مراتب عليا من البشرية، فلا ننجرف حتى نصل إلى المناطق المحرمة، وإنما نجد أن الحوكمة والشريعة أتقنت كل تصرفاتنا وحتى مزاحنا وسيرنا في الشوارع والتعامل بالمادة وما إلى ذلك، عندما نفكر في العبادة فإنه ينبغي علينا أن نفكر فيها بعموميتها ولا نغلق أذهاننا في الصلاة والصوم والحج وما إلى ذلك، وإن كانت هذه المظاهر جزء أساسي من العبادة.
* الله سبحانه وتعالى أهل لعبادته؛ فمن يمكن أن يعبد غير الله سبحانه وتعالى الذي أوجد هذا الكون وهذه البشرية، ومن المعلوم أن الإنسان يحتاج إلى شيء يعبده، فبعض الناس يسجد للأبقار، وبعضهم للمادة وبعضهم يعبد نفسه وعقله معتقدًا أنه بلغ من الكمال المستوى الأعلى فهو جدير بالعبادة، وكذلك بعض البشر وبعض الأشياء الأخرى التي هي في ذاتها تحتاج إلى الله سبحانه وتعالى حتى تعبده، فهل من المعقول أن نعيد عبادة الأوثان بكل صورها وأشكالها بعد أن تحررت عقولنا من كل تلك الماديات وذلك الغرور البشري، ولا نعبد الله سبحانه وتعالى الذي صنع كل شيء من عدم ؟ نسأل مرة أخرى وبطريقة أخرى: ما المادة الأفضل للاختيار حتى نعبدها إن لم نرغب في عبادة الله سبحانه؟ وأخيرًا يقول ابن القيم «التعبد آخر مراتب الحب»، أفلا نجد لذة الحب عندما نتقرب إلى الله سبحانه؟
عمومًا، هذه قضية جدلية وستظل جدلية إلى قيام الساعة، ولكن قبل أن نختم يمكننا أن نقول: هل الله سبحانه وتعالى ملزم لتوضيح كل الأمور للإنسان؟ وهل من حق الطفل أن يعرف كل شيء عن أمه قبل أن يولد؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك