تحدثنا في المقال السابق (أخبار الخليج 18-4-2025) عن إعادة هيكلة الأجهزة الحكومية من حيث رفع مستوى الكفاءة والفاعلية معا. أي ألا يكون التركيز على تقليل النفقات بقدر ما يكون على رفع مستوى الخدمات وشموليتها بما يحقق تطلعات المجتمع والدولة لخلق مجتمع متفاعل، مجتمع منتج، مجتمع أكثر ديناميكية.
لا يختلف المجلس النيابي عن باقي مؤسسات الدولة في حاجته إلى المراجعة ورفع مستوى الأداء بما يتوافق مع تطلعات المجتمع والمهام الموكلة إليه في الميثاق والدستور. وبالتالي فعلى المجلس الآن طرح الأسئلة المحورية: كيف أثر المجلس في حياة الناس؟ وكيف أسهم في تقدم العمل الديمقراطي في الدولة كما وضعه الميثاق والدستور وكما حددته الإرادة الملكية في تلك اللحظة المنيرة من تاريخ البحرين؟ وما المجالات الممكنة للمسيرة المستقبلية؟ وعليه كذلك طرح السؤال: كيف يُقيم المجلس أداءه بموضوعية وما المعايير التي يستخدمها لمتابعة هذا الأداء وتطويره؟
وقبل ذلك، ماذا يعني تقدم المجتمع وازدهاره، وما مساهمة المجلس في ذلك؛ وماذا يعني النجاح بالنسبة إلى المجلس؟ هذه الأسئلة وغيرها لا بد للمجلس التعامل معها، والعمل على رفع إمكانياته للتفاعل معها، وذلك بالعودة إلى المبادئ والأسس والغايات من وجوده وفق الميثاق والدستور وتصور المجتمع.
شهدت تجربتنا البرلمانية تطورًا مهمًا خلال العقدين ونصف العقد الفائت، والآن، تحديات الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتطلعات المواطن والمجتمع تفرض على رئاسة مجلس النواب دورًا محوريًا في رسم مسار جديد يحقق التوازن بين الحاجة إلى تعزيز صلاحيات المجلس وتحقيق أهداف تنموية واقتصادية واجتماعية شاملة ليشارك الحكومة ومنظمات المجتمع المدني في ارتقاء المجتمع وتحقيق أهداف التنمية الشاملة المستدامة، التي تشمل الإنسان كفرد، وكرب أسرة، وكعنصر إنتاج. هذا يعني أنه معني بتقوية أدائه وتطوير قدراته كمجلس وكأعضاء وكجمعيات سياسية وفق المعطيات التي تتفق مع الغاية والأهداف التي وضعها الميثاق والدستور.
لتحقيق ذلك، تبرز عدة متطلبات:
أولا: وضع رؤية استراتيجية وأهداف تحدد الخيارات المهمة والمؤثرة في القضايا الرئيسية والمؤثرة في حياة المواطنين ورفاهيتهم، وفي تقدم المجتمع بشكل عام.
ثانيا: لكي يكون العمل البرلماني مؤثرًا وملموس النتائج في حياة المواطنين وفي الأداء الاقتصادي، ويضيف إلى جهد الحكومة الموقرة، ينبغي وضع منظومة قياس أداء تنطلق من الاستراتيجية لتتابع النتائج والتقدم الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن الرؤية الاستراتيجية.
لقد أثبتت التجارب الدولية (كما أشرنا في مقالنا السابق)، أن وضع منظومة لقياس أداء العمل البرلماني أصبح ضرورة لتوجيه الجهود التشريعية والرقابية نحو تعزيز التنمية الديمقراطية والحوكمة الرشيدة، على أن تشمل هذه المنظومة مؤشرات واضحة لقياس مدى فعالية المجلس في مجالات الرقابة المالية، فعالية التشريعات، الكفاءة التشغيلية، الفاعلية والنتائج، ملاءمة السياسات مع التطلعات.
وتتيح مؤشرات الأداء البرلماني تقييم مدى أثر التشريعات والرقابة في تحسين السياسات الاقتصادية، وكفاءة النظام الضريبي وعدالته في تطوير برامج الرعاية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجا.
كما تسهم مؤشرات الأداء في تعزيز الشفافية والمساءلة الموضوعية، وتساعد رئاسة المجلس على تحديد مكامن القوة والضعف في الأداء، وقد أطلق الاتحاد البرلماني الدولي مؤشرات للبرلمانات الديمقراطية في نوفمبر 2023 يمكن الاستئناس بها.
ثالثا: مراجعة وتطوير التشريعات التي تعزز دور المجلس في الرقابة ومتابعة السياسات الحكومية والتركيز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية ذات التأثير المباشر على الحركة الاقتصادية واستفادة المواطنين من نتائجها. كما تتطلب المرحلة أن تتبنى الرئاسة نهجًا تشاوريًّا مع المجتمع المدني، لضمان توافق التشريعات مع مصالح المجتمع والدولة، وتأثيرها على التنويع الاقتصادي والتكامل الخليجي.
رابعا: سوف يحتاج المجلس إلى معلومات ومسوحات ميدانية تبين طبيعة التطلعات مثل مستوى المعيشة والبحرنة وفعالية الضمان الاجتماعي والتحديات التي تواجه القطاع الخاص وخصوصا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتنويع الاقتصادي والتكامل الخليجي والعربي.
كذلك يتطلب تحديد تحديات التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي وكيف تسهم منظمات المجتمع المدني في التنمية. مثل هذه الدراسات الاجتماعية مهمة يستفيد منها المجلس والدولة في مناقشة السياسات والبرامج التي تطرحها الحكومة ومطالبات المجتمع؟
خامسا: سوف يحتاج المجلس إلى اجراء دراسات حول تأثير الضرائب والرسوم على مختلف فئات المجتمع والسوق بشكل عام. مثل هذه الدراسات تفيد في رفع كفاءة الإيرادات وتحقيق مبدأ العدالة وفق القدرة على المساهمة التصاعدية.
كما يحتاج قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة اهتماما خاصا في منظومة قياس الأداء كونه ركيزة أساسية في الاقتصاد، لذا ينبغي أن تدفع رئاسة المجلس باتجاه مراجعة ومتابعة نتائج السياسات وقياس تأثيرها على تحفيز ريادة الأعمال، وتيسير بيئة الأعمال، وضمان سهولة الحصول على التمويل والوصول إلى الأسواق، وتعزيز الابتكار وتطوير المهارات، ومدى مساهمة منظومة التعليم في تحفيز هذه القدرات الإبداعية، كما ينبغي تقييم الأطر القانونية لتشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي وضمان المنافسة العادلة في السوق، وتكافؤ الفرص بين الشركات الوطنية والأجنبية، ومعالجة فجوة التكلفة بين توظيف البحرينيين والوافدين وتأثيرها على فرص العمل للبحرينيين. كذلك من المهم أن تركز رئاسة المجلس على دعم المبادرات الحكومية والخاصة التي تستهدف تحفيز النمو الاقتصادي خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. ويتحقق ذلك عبر تشريعات تشجع الاستثمار المحلي والأجنبي، وتدعم الابتكار، وتوفر الحوافز الضريبية والمالية للمشاريع الجديدة، مع متابعة تنفيذ الخطط الوطنية لتطوير سوق العمل وضمان استدامة التوظيف للبحرينيين.
الخلاصة ان المسار الذي ينبغي أن يتبعه البرلمان لتقوية المجلس وتمكينه من تحقيق أهدافه، يرتكز على تعزيز الصلاحيات التشريعية والرقابية، وإقرار تشريعات بالتعاون مع الحكومة في تعزيز العدالة الاجتماعية وتحفيز النمو الاقتصادي، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وخلق بيئة تنافسية محفزة للبحرينيين، مع وضع منظومة متكاملة لقياس الأداء في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
بهذه الرؤية، يمكن للبرلمان أن يسهم بفاعلية أكبر في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وخلق فرص العمل، وتحقيق تنمية مستدامة يستفيد منها جميع فئات المجتمع، ويواكب تطلعات القيادة والمجتمع نحو مستقبل أكثر رفاهية وازدهارا.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك