لا تُبنى المجتمعات القوية على المؤسسات الرسمية وحدها، ولا على المبادرات الأهلية فقط، بل حين يتلاقى الطرفان، تبدأ معادلة الاستدامة في التكوين.
انطلاقا من توجيهات صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة، رئيسة المجلس الأعلى للمرأة، عقد في الشهر المنصرم لقاء جمع بين الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة، الأستاذة لولوة صالح العوضي، والاتحاد النسائي البحريني برئاسة الأستاذة أحلام أحمد رجب، تأكيدا على أن بناء مجتمع أكثر شمولا وازدهارًا يقوم على تكاتف جميع الأطراف.
ان توقيع مذكرة التفاهم بين الجانبين لم يكن خطوة تقليدية، بل تحركا مدروسا لتوحيد الجهود حول قضايا جوهرية، شملت تعزيز الإرشاد الأسري، مكافحة العنف ضد المرأة، تبادل الدراسات والإحصاءات، والعمل المشترك على إدماج احتياجات المرأة في سياسات وخطط التنمية الوطنية. مثل هذه المبادرات تبني أرضية صلبة لأي مجتمع يتطلع إلى الاستدامة، حيث تتكامل الأدوار، ويتعزز الشعور بالمشاركة الفاعلة في صياغة المستقبل.
لكن إذا كان التعاون بين الرسمي والأهلي يؤسس لحاضر أكثر اتساقا، فإن السؤال الذي لا بد من طرحه هو: ماذا عن المستقبل؟
رغم الإنجازات المهمة التي حققتها مؤسسات المجتمع المدني، يواجه هذا القطاع اليوم تحديات صامتة تتعلق بتراجع انخراط الشباب، نتيجة تغير أنماط المبادرة والانتماء في الأجيال الجديدة. فجيل اليوم يتطلع إلى مساحات تتيح له الابتكار والمشاركة الفاعلة، بمرونة تتناسب مع طبيعة العصر. وهو ما يستدعي التفكير في تطوير آليات العمل المجتمعي بما يحافظ على أصالة الرسالة، ويواكب تطلعات الشباب، لضمان استمرار الحضور الفاعل لهذه المؤسسات في المستقبل.
التجديد هنا لا يعني التخلي عن القيم المؤسسة، بل القدرة على التكيف. فمن خلال تطوير طرق العمل، وتبني منهجيات أكثر انفتاحا، واستحداث برامج يقودها الشباب أنفسهم، يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تظل حية ومتجددة. وهذا ليس ترفا فكريا، بل ضرورة عملية لضمان استمرارية الرسالة التي نشأت عليها هذه المؤسسات العريقة.
تضمنت مذكرة التفاهم الأخيرة إجماعا متقاطعا بتفعيل دور المجتمع وتعزيز التعاون المؤسسي، في إشارة إيجابية إلى وعي مشترك -رسميا وأهليا-بأهمية إشراك جميع الفئات، وخصوصا الأجيال الجديدة، في مسار العمل الوطني المنظم.
وفي هذا السياق، يمكن استلهام عدد من التجارب الوطنية التي نجحت في دمج الطاقات الشبابية ضمن مشاريع مدنية مرنة، بدءًا من لجان العمل التطوعي في الجامعات، وصولا إلى المبادرات الرقمية التي أطلقها شباب بحرينيون في مجالات البيئة، وريادة الأعمال، والثقافة المجتمعية.
هذه المبادرات لم تنشأ بديلة عن مؤسسات المجتمع المدني، بل مثلت امتدادًا ديناميكيا لها، مما يؤكد أن العمل المدني ليس قالبا ثابتا، بل فضاء متحركا يتشكل بحسب حاجات المجتمع وتطلعات أبنائه. ومن هنا تبرز أهمية فتح النوافذ أمام الأجيال الجديدة، لا لتكرار الأدوار، بل لإعادة تصورها بطريقة تعيد إلى العمل الأهلي نبضه الشعبي وتجذره الواقعي.
الخطوة التالية ينبغي ألا تتوقف عند توقيع الاتفاقيات، بل أن تمتد إلى تحويل هذه الرؤية إلى برامج عملية تفتح الأبواب أمام مشاركة الشباب، وتمنحهم الثقة والمساحة لإعادة تشكيل العمل المجتمعي، بطريقة تحترم أصالة الفكرة، وتواكب روح العصر.
من المؤشرات الإيجابية أن مؤسسات المجتمع المدني البحريني، برغم كل التحديات، أثبتت مرونة لافتة في التعامل مع المتغيرات. ومع ذلك، تظل هناك حاجة ملحة إلى استكمال هذا الحراك بتطوير الهياكل، وإعادة تعريف الأدوار، وربما خلق منصات جديدة أكثر اتصالا بالعصر الرقمي وثقافة المبادرة السريعة.
ما بين الحاضر والمستقبل، يكمن الرهان الحقيقي: أن تبقى الرسالة التي حملتها مؤسسات المجتمع المدني منذ نشأتها، رسالة مجتمعية نابضة تجمع بين قيم التطوع والانتماء والمسؤولية، وأن تجد هذه الرسالة دائما قلوبا وعقولا شابة تحملها إلى الأمام، بأدوات جديدة، دون أن تفقد جوهرها الإنساني.
ليس الهدف الحفاظ على الهياكل بحد ذاتها، بل الإبقاء على الفكرة حية ومتجددة. وهنا بالضبط تكتسب مثل هذه اللقاءات بين الرسمي والأهلي أهميتها؛ فهي لا تكتفي بتثبيت ما تحقق، بل تفتح أفقا لتجديد الحلم الوطني بلغة الأجيال القادمة.
ولعل من المهم، في خضم هذا الحراك، ألا نغفل عن الإرث العميق الذي تمثله الكيانات التطوعية البحرينية، والتي شكلت لعقود طويلة صماما للحراك الأهلي والنسائي. إن المحافظة على هذا الرصيد التاريخي لا تعني الجمود، بل تستدعي بعثه في وجدان الأجيال الجديدة، ليواصل أداء رسالته بروح الحاضر، وعين على المستقبل.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك