منذ أن قرر الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، في بداية مارس 2025 تعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا في حربها المستمرة منذ ثلاث سنوات ضد روسيا، بدأ العديد من حلفاء واشنطن الأوروبيين في التأكد من أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد بالكامل على الولايات المتحدة لضمان أمنهم الإقليمي. وظهر هذا في التزام أعضاء «حلف الناتو»، بزيادة إنفاقهم الدفاعي، وتعزيز دعمهم لأوكرانيا، وتقوية التعاون ضمن إطار الردع النووي المشترك.
وبينما يشهد الوضع في أوروبا هذه التطورات، تُطرح التساؤلات حول التزام «واشنطن»، طويل الأمد بأمن شركائها في الشرق الأوسط، بما في ذلك دول الخليج. وأشار «المنتصر البلوي»، من «معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح»، إلى القلق بشأن كيف أن أي «مواجهة مباشرة بين إسرائيل، وإيران»، حول برنامج الأخيرة النووي، قد تتسبب في تحولات كبيرة في أنماط التسلح النووي في المنطقة.
وكما أكد «إيفو دالدر»، من «مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»، فإنه من منظور عالمي، «لا يوجد شيء اسمه انتشار نووي جيد» للأمن الدولي على المدى الطويل. وأضاف «دانيال سيروير»، من جامعة «جونز هوبكنز»، أن «الشرق الأوسط النووي ليس منطقة آمنة»، مما يشكل «تهديدًا حقيقيًا خلال العِقد المقبل أو حتى قبل ذلك»، مع احتمال بروز خمس دول مسلحة نوويا في المنطقة.
وفي تعليقهما على سياسات «ترامب»، وما «أدت إليه من تزايد انعدام الأمن على مستوى العالم، خاصة في مجال الانتشار النووي»؛ أوضح «ديباك داس»، و«راشيل إبستين»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «العالم أصبح مكانًا أكثر خطورة بكثير مما كان عليه قبل أسابيع قليلة من وصوله إلى البيت الأبيض.
وبعيدا عن الرئيس الأمريكي، أشار «البلوي»، إلى أن «التوترات الجيوسياسية، وتهديدات استخدام الأسلحة النووية، وزيادة المخزونات النووية لدى الدول المسلحة نوويًا، وقضايا عدم الامتثال، فضلاً عن عدم إحراز تقدم في الالتزام بالاتفاقيات السابقة»؛ تعد عوامل تؤدي إلى «فقدان المصداقية» في منع الانتشار النووي، مما يعزز القلق الأمني في المنطقة.
وفيما يخص الوضع الحالي للانتشار النووي في الشرق الأوسط، يظل التركيز الغربي منصبًا بشكل رئيسي على قدرات إيران النووية المتقدمة. وأشارت «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، إلى امتلاكها أكثر من 274 كيلوجرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. وفي المقابل، أكد الصحفي البريطاني «جوناثان جورنال»، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المسلحة نوويًا في المنطقة، بمخزون يقدر بحوالي 90 رأسًا حربيًا. ووثق «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، قدرتها على إطلاق هذه الأسلحة عبر الطائرات المقاتلة، والصواريخ الباليستية الأرضية، والصواريخ المجنحة التي تطلقها الغواصات، مشيرًا إلى أن مدى هذه الأسلحة يصل إلى 4500 كيلومتر. ووفقًا لـ«جورنال»، يعتبر حجم مخزونها النووي «ذا ضرر بالغ»، رغم أنه يُعد ثاني أصغر مخزون بين جميع الدول المسلحة نوويًا في العالم.
من جانبه، وثق «سيروير»، كيف أن «قدرات التخصيب، وإعادة المعالجة» النووية في بعض دول المنطقة لا تزال «غامضة إلى حد كبير». وبالنظر إلى أن «معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية»، و«البروتوكول الإضافي» للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ يسمحان للموقعين عليها بإجراء التخصيب، وإعادة المعالجة لأغراض مدنية؛ فقد أشار إلى أنه سيكون «مفاجئًا»، إذا لم تكن الدول التي تمتلك برامج نووية مدنية قد «جرّبت على الأقل كميات صغيرة من اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم»، مضيفا أن وتيرة الانتشار النووي في العالم خلال العقود الماضية كانت «أبطأ مما كان متوقعًا»، وأرجع ذلك جزئيًا إلى «نهج واشنطن»، في تطبيق سياسة عدم الانتشار بقوة»، مع تحذيره من أن «عودة المشهد الجيوسياسي متعدد الأقطاب»، قد «أضر بمصداقية أمريكا في هذا المجال».
من جانب آخر، أشار «توم كولينا»، المؤلف المشارك لكتاب «الزر.. سباق التسلح النووي الجديد وسلطة الرئيس من ترومان إلى ترامب»؛ إلى أن «العواقب الكارثية» لخروج ترامب من الاتفاق النووي الإيراني «مازالت تتراكم»، مؤكدا أنه مع مرور الوقت «أصبحت احتمالات إحياء الاتفاق ضئيلة، حيث اقتربت طهران أكثر من امتلاك القنبلة النووية». ورغم تأكيد «مايك والتز»، مستشار الأمن القومي الأمريكي سعي «البيت الأبيض»، إلى «التفكيك الكامل» لبرنامج إيران النووي، إلا أن الأخيرة لم تلتزم بهذه المطالب، وأظهرت عدم اكتراثها بالمبادرة المفترضة للرئيس الأمريكي لإجراء محادثات نووية جديدة.
وفي واقع الأمر، فإن «واشنطن»، ترسل إشارات متضاربة بشأن الملف النووي الإيراني. ففي الوقت الذي أكد فيه مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، «ستيف ويتكوف»، موقف البيت الأبيض القائل: «لسنا بحاجة إلى حل كل شيء عسكريًا»؛ فقد أشار «والتز»، إلى أن «جميع الخيارات مطروحة»، لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. وأكد «مايكل آيزنشتات»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، إلى أن «الضربة الوقائية»؛ تهدف إلى «تعظيم الأضرار»، التي قد تلحق بالبرنامج النووي الإيراني من أجل «كسب الوقت لإحياء الدبلوماسية النووية»، و«إنشاء ترتيبات إقليمية لاحتواء طهران حاليًا»، مما قد يؤدي إلى صراع مدمر على مستوى المنطقة.
من جانبها، أكدت «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أنه بدون هجوم أمريكي أو إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية، فإن هذه «اللحظة شديدة التقلب»، توفر «مجالًا لسوء التقدير»، وتعرض المنطقة برمتها للأزمة، مضيفة أن هناك نوعا من ممارسة الدبلوماسية النووية وسياسة حافة الهاوية في الوقت الراهن. وأشار «تريتا بارسي»، من «معهد كوينسي للحكم الرشيد»، إلى أن إيران تسعى إلى إظهار قوتها بشكل يحول دون تصديق ترامب لفرضية ضعفها، حتى ان فكرة الاستسلام أصبحت غير واردة بالنسبة لها.
وفي هذا السياق، رأت «فاكيل»، أن «أقصى نقطة نفوذ» لطهران في أي مفاوضات نووية هي «الآن»، وأنها في وضع يسمح لها – بفضل برنامجها النووي – بالحصول على «تنازلات وتخفيف العقوبات»، مقابل التراجع. ومع ذلك، أكدت أنها قد تفقد هذا النفوذ عندما تقوم بتخصيب المزيد من اليورانيوم، واستخدامه لأغراض عسكرية.
ونتيجة لذلك، تتزايد المخاوف بين دول المنطقة من انتشار السلاح النووي. وأشار «مركز صوفان للدراسات»، إلى أن احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي، إلى جانب الاعتداءات الإسرائيلية خلال العام ونصف العام الماضيين، يثير قلقًا عميقًا في المنطقة، وقد يدفع دول الخليج إلى «إعادة النظر في موقفها من تحقيق الردع النووي». وأقر المركز أن «مجرد التصور»، بأن طهران تتجه نحو امتلاك السلاح النووي، قد يُطلق سباق تسلح نووي في المنطقة.
وفيما يتعلق بالضمانات التي تحول دون انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط، أقرّ «سيروير»، بأن تركيا، إحدى الدول المرشحة لامتلاك القدرة النووية، قد «تعهدت صراحة بعدم تسليح» تقنيتها النووية المدنية من خلال تصديقها على «معاهدة حظر الانتشار النووي»، و«البروتوكول الإضافي»، للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يشابه المواقف المصرية والإماراتية، مشيرا إلى أن السعودية أوضحت أنها لن تنضم إلى أي اتفاقيات نووية جديدة، «حتى تتخلى إسرائيل عن أسلحتها النووية». فيما دعت قطر إلى «تكثيف الجهود الدولية» لوضع المنشآت النووية لإسرائيل تحت إشراف «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وتوقيعها على معاهدة حظر الانتشار النووي كدولة غير مسلحة نوويًا.
وعليه، رحّبت «سوزي سنايدر»، من «برنامج الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية»، بهذه الدعوة واعتبرتها «خطوة مهمة»، نحو ضرورة إخضاع القدرات النووية الإسرائيلية للضمانات الدولية، مؤكدة أن «القضاء على الأسلحة النووية الإسرائيلية، وضمان عدم امتلاك أي دولة أخرى في الشرق الأوسط لهذه الأسلحة، سيكون أمرًا حيويًا للأمن الطويل الأمد لجميع شعوب المنطقة»، مضيفة أن انضمام إسرائيل إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، «ينبغي أن يكون الخطوة الأولى، تتبعها دول أخرى في المنطقة للانضمام إلى معاهدة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة النووية»، بالإضافة إلى ضرورة إنشاء «منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى».
وفي ضوء انتهاك ائتلاف «بنيامين نتنياهو»، للقانون الدولي، ومهاجمته للمنظمات الدولية، فمن غير المرجح أن توافق «إسرائيل»، على المراقبة الخارجية لبرنامجها النووي. وهو أمر يتضح من غياب ممثليها عن جلسات الأمم المتحدة التي كلفت بصياغة معاهدة ملزمة قانونًا لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية. وفي هذا السياق، أقرّ «البلوي»، بأن أي اتفاق نهائي بشأن منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، «لن يكون له قيمة تُذكر دون مشاركة جميع دول المنطقة، خاصة التي يُعتقد أنها تمتلك أسلحة دمار شامل».
على العموم، أشار «سيروير»، إلى أن الشرق الأوسط «انزلق إلى دوامة من الصراع» منذ أكتوبر 2023، ورغم وجود العديد من الأسباب التي قد تدفع نحو التعاون الإقليمي من أجل الاستقرار، إلا أن هذا التعاون لم يتحقق بعد، ومن المحتمل أن يستغرق وقتًا طويلًا، وأضاف «مركز صوفان للدراسات»، أن «لخطوط الحمراء» في ديناميكيات الأمن بالمنطقة، التي تم «تجاوزها باستمرار»، خلال العام والنصف الماضيين، قد تسهم في دفع دول المنطقة إلى مزيد من الاستكشاف «للقدرات اللازمة»، لبرامج أسلحتها النووية، بما في ذلك كيفية إنشاء هذه البرامج، و«الحصول على المكونات اللازمة».
كما دفع انعدام ثقة أوروبا في الضمانات الأمنية الأمريكية، العديد من دولها إلى تكثيف حديثها عن ضرورة وجود مظلة نووية محلية؛ فإن سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، والمواجهة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران المسلحتين نوويًا، قد تُثير مخاوف من أن تسعى دول المنطقة إلى امتلاك «ردع نووي»، خاص بها، مما قد يشكل تهديدًا خطيرًا للأمن والاستقرار على المدى الطويل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك