ثمة كتب ثورية حينما يقرؤها الإنسان فإنه لابد أن يخرج منها بحصيلة فكرية عميقة تزوّده بإضاءات لامعة في تفكيك الإشكاليات الحضارية التي تعاني منها المجتمعات المتأخرة، أي التي لم تطرق بعد باب الحداثة رغم أنها تغترف من ثمارها، بل ـ وهنا تبدو المفارقة ـ في أنها تتباهى بكونها جمعت بين الأصالة والحداثة!.
إن مؤلفات عالم النفس الاجتماعي مصطفي حجازي هي من هذا الطراز الفريد الذي يغير من فكر قارئه ويمتعه بتحليلاته للمجتمع العربي وإشكالياته الكأداء. فمثلا كتابه الشهير «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يعد من أهم الدراسات التحليلية في علم النفس الاجتماعي «فسيكولوجية الإنسان العربي المهدور». يتناول فيه حجازي، بمنهجيته الاستقرائية الدقيقة، ظاهرة «العنف العربي» التي لم تتمكن المجتمعات العربية حتى يومنا هذا من الخلاص منها. لماذا؟
يجيبك حجازي بكلمة السر التي تتنوع مترادفاتها في القاموس الديني والسياسي والاجتماعي، بدءا من الطائفية والعصبية، مرورا بالتحزبية، وانتهاء بالأصولية والدوجمائية، فمثلا دولة كالسودان، منذ أبريل 2023، يعاني شعبها من حرب ضارية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أدت إلى تفاقم الأزمات الطاحنة في بلاده وأطاحت بكل استقرار سياسي فيها وأدخلتها في دوامة لا نهاية لها من النوازل الاقتصادية والإنسانية.
إن السودان يشكو حاليا من أزمة نزوح لا نظير له. فثلث سكانه نازحون مشردون في العراء بلا غذاء ولا ماء ولا مأوى ولا رعاية طبية. امتدت عواقب هذا الصراع المروع بين المتحاربين إلى ما وراء حدود السودان. وحسب تقارير الأمم المتحدة سيرتفع عدد ضحايا الصراع العبثي إلى أكثر من مليون شخص في عام 2025.
أطراف الصراع هم سودانيون!، إن تحليل حجازي لظاهرة العنف في المجتمعات العربية ينطبق برمته على الحالة السودانية عندما يقول: «يعود العنف السياسي الاجتماعي في المجتمعات العربية إلى تفشي العصبيات وترسخها جذريا فيه. فالأنظمة العربية الاستبدادية لم تبنِ مجتمعا مدنيا، إنما راهنت القيادات على العصبيات، والعصبيات في طبيعتها تحتوي على مكوِّن العنف، وهذا العنف يتفجر من العصبيات التي تنمو في أزمنة الصراع ولا تستطيع العيش من دون عدو.
كما ليس بإمكان الأنظمة العرقية الاستمرار خارج نطاق الصراع وصناعة العدو المتخيل أو الفعلي، لكي تتمكن من الحفاظ على ثباتها الداخلي بقوة الجمهور».
ولئن تركز تحليل حجازي على لبنان بوصفه عينة خصبة للطائفية وجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع العربي فقد أراد به الكشف عن الداء العضال الذي لم يبرأ منه هذا المجتمع منذ قرون خلت فأعجزه تماما عن بلوغ الحداثة، إن هذا الداء هو نفسه «جرثومة التخلف» التي تحدث عنها د. مراد وهبة في كتابه الشهير تحت هذا العنوان.
وفي مؤلفه الأخير «النقلات الحضارية الكبرى. أين نحن منها؟» يرى حجازي أن قوى التخلف أو بحسب تعبيره «قوى العطالة في مجتمعاتنا العربية» لا تتمثل فقط في العصبيات وحدها وإنما هي تتجسد في تحالف ثلاثي: العصبيات والتفكير الماضوي والاستبداد الظاهر منه والخفي. هذا التحالف يستخدم سلاحا خطيرا في الإجهاز على أي محاولة تسعى إلى إيقاظ العقل العربي من سباته، آلية هذا السلاح هي: التأثيم والتحريم والتجريم. تكمن فاعليته في أنه يشل طاقات الإنسان العقلية تماما ويدخله في حالة من الانقياد والتبعية والجبرية وفقدان السيطرة على الذات والمصير!.
إن الحداثة التي يحلم بها المجتمع العربي أشبه بطائر العنقاء الذي لا وجود له في الواقع، لأن متطلباتها لم تتوافر فيه بعد.
وتتجلى ازدواجية المجتمع العربي، كما يقول حجازي، في أنه يستورد كل منتجات الحداثة المادية والفكرية من الأمم المبدعة، لكنه لا يملك مشروعا إنتاجيا وطنيا خليقا بأن يحدث فيه نقلة نوعية تتحرر فيها طاقات العقل المبدع وينضج فيها وعيه السياسي. فتحت غطاء الدستور في لبنان مثلا وحكم المؤسسات المقتبس من الغرب تتسم العملية السياسية فيه بالمحاصصة واقتسام النفوذ والغنائم على حساب البلد وكأننا بصدد شركة تجارية بين أطراف مؤسسين يسعى كل منهم إلى زيادة حصته من النفوذ والغنيمة وتحولت النيابة فيه إلى نوع من الوجاهة أكثر مما هي عملية تمثيل بالتفويض من قبل الشعب، فتحول الانتخاب فيه إلى نوع من المبايعة!.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب – جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك