العدد : ١٧٢٠٦ - الجمعة ٠٢ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠٦ - الجمعة ٠٢ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

المـجـتـمعات العربية وأزمة الحداثة

بقلم: د. عصام عبدالفتاح {

الجمعة ٠٢ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

ثمة‭ ‬كتب‭ ‬ثورية‭ ‬حينما‭ ‬يقرؤها‭ ‬الإنسان‭ ‬فإنه‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بحصيلة‭ ‬فكرية‭ ‬عميقة‭ ‬تزوّده‭ ‬بإضاءات‭ ‬لامعة‭ ‬في‭ ‬تفكيك‭ ‬الإشكاليات‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتأخرة،‭ ‬أي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تطرق‭ ‬بعد‭ ‬باب‭ ‬الحداثة‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تغترف‭ ‬من‭ ‬ثمارها،‭ ‬بل‭ ‬ـ‭ ‬وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬المفارقة‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬تتباهى‭ ‬بكونها‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة‭!.‬

إن‭ ‬مؤلفات‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬مصطفي‭ ‬حجازي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الطراز‭ ‬الفريد‭ ‬الذي‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬قارئه‭ ‬ويمتعه‭ ‬بتحليلاته‭ ‬للمجتمع‭ ‬العربي‭ ‬وإشكالياته‭ ‬الكأداء‭. ‬فمثلا‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬التخلف‭ ‬الاجتماعي‭: ‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الإنسان‭ ‬المقهور‮»‬‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الدراسات‭ ‬التحليلية‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬‮«‬فسيكولوجية‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬المهدور‮»‬‭. ‬يتناول‭ ‬فيه‭ ‬حجازي،‭ ‬بمنهجيته‭ ‬الاستقرائية‭ ‬الدقيقة،‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬العنف‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬الخلاص‭ ‬منها‭. ‬لماذا؟‭ ‬

يجيبك‭ ‬حجازي‭ ‬بكلمة‭ ‬السر‭ ‬التي‭ ‬تتنوع‭ ‬مترادفاتها‭ ‬في‭ ‬القاموس‭ ‬الديني‭ ‬والسياسي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬الطائفية‭ ‬والعصبية،‭ ‬مرورا‭ ‬بالتحزبية،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالأصولية‭ ‬والدوجمائية،‭ ‬فمثلا‭ ‬دولة‭ ‬كالسودان،‭ ‬منذ‭ ‬أبريل‭ ‬2023،‭ ‬يعاني‭ ‬شعبها‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬ضارية‭ ‬بين‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬السودانية‭ ‬وقوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬الأزمات‭ ‬الطاحنة‭ ‬في‭ ‬بلاده‭ ‬وأطاحت‭ ‬بكل‭ ‬استقرار‭ ‬سياسي‭ ‬فيها‭ ‬وأدخلتها‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬النوازل‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والإنسانية‭.‬

إن‭ ‬السودان‭ ‬يشكو‭ ‬حاليا‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬نزوح‭ ‬لا‭ ‬نظير‭ ‬له‭. ‬فثلث‭ ‬سكانه‭ ‬نازحون‭ ‬مشردون‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬بلا‭ ‬غذاء‭ ‬ولا‭ ‬ماء‭ ‬ولا‭ ‬مأوى‭ ‬ولا‭ ‬رعاية‭ ‬طبية‭. ‬امتدت‭ ‬عواقب‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬المروع‭ ‬بين‭ ‬المتحاربين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬حدود‭ ‬السودان‭. ‬وحسب‭ ‬تقارير‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬سيرتفع‭ ‬عدد‭ ‬ضحايا‭ ‬الصراع‭ ‬العبثي‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2025‭.‬

أطراف‭ ‬الصراع‭ ‬هم‭ ‬سودانيون‭!‬،‭ ‬إن‭ ‬تحليل‭ ‬حجازي‭ ‬لظاهرة‭ ‬العنف‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬ينطبق‭ ‬برمته‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬السودانية‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬يعود‭ ‬العنف‭ ‬السياسي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬تفشي‭ ‬العصبيات‭ ‬وترسخها‭ ‬جذريا‭ ‬فيه‭. ‬فالأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬الاستبدادية‭ ‬لم‭ ‬تبنِ‭ ‬مجتمعا‭ ‬مدنيا،‭ ‬إنما‭ ‬راهنت‭ ‬القيادات‭ ‬على‭ ‬العصبيات،‭ ‬والعصبيات‭ ‬في‭ ‬طبيعتها‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬مكوِّن‭ ‬العنف،‭ ‬وهذا‭ ‬العنف‭ ‬يتفجر‭ ‬من‭ ‬العصبيات‭ ‬التي‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬الصراع‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬العيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عدو‭.‬

كما‭ ‬ليس‭ ‬بإمكان‭ ‬الأنظمة‭ ‬العرقية‭ ‬الاستمرار‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬الصراع‭ ‬وصناعة‭ ‬العدو‭ ‬المتخيل‭ ‬أو‭ ‬الفعلي،‭ ‬لكي‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ثباتها‭ ‬الداخلي‭ ‬بقوة‭ ‬الجمهور‮»‬‭.‬

ولئن‭ ‬تركز‭ ‬تحليل‭ ‬حجازي‭ ‬على‭ ‬لبنان‭ ‬بوصفه‭ ‬عينة‭ ‬خصبة‭ ‬للطائفية‭ ‬وجزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬نسيج‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬فقد‭ ‬أراد‭ ‬به‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الداء‭ ‬العضال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبرأ‭ ‬منه‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬خلت‭ ‬فأعجزه‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬بلوغ‭ ‬الحداثة،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الداء‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬جرثومة‭ ‬التخلف‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬د‭. ‬مراد‭ ‬وهبة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬تحت‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭.‬

وفي‭ ‬مؤلفه‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬النقلات‭ ‬الحضارية‭ ‬الكبرى‭. ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬منها؟‮»‬‭ ‬يرى‭ ‬حجازي‭ ‬أن‭ ‬قوى‭ ‬التخلف‭ ‬أو‭ ‬بحسب‭ ‬تعبيره‭ ‬‮«‬قوى‭ ‬العطالة‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تتمثل‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬العصبيات‭ ‬وحدها‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬تتجسد‭ ‬في‭ ‬تحالف‭ ‬ثلاثي‭: ‬العصبيات‭ ‬والتفكير‭ ‬الماضوي‭ ‬والاستبداد‭ ‬الظاهر‭ ‬منه‭ ‬والخفي‭. ‬هذا‭ ‬التحالف‭ ‬يستخدم‭ ‬سلاحا‭ ‬خطيرا‭ ‬في‭ ‬الإجهاز‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إيقاظ‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬سباته،‭ ‬آلية‭ ‬هذا‭ ‬السلاح‭ ‬هي‭: ‬التأثيم‭ ‬والتحريم‭ ‬والتجريم‭. ‬تكمن‭ ‬فاعليته‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يشل‭ ‬طاقات‭ ‬الإنسان‭ ‬العقلية‭ ‬تماما‭ ‬ويدخله‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانقياد‭ ‬والتبعية‭ ‬والجبرية‭ ‬وفقدان‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬والمصير‭!.‬

إن‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬أشبه‭ ‬بطائر‭ ‬العنقاء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لأن‭ ‬متطلباتها‭ ‬لم‭ ‬تتوافر‭ ‬فيه‭ ‬بعد‭.‬

وتتجلى‭ ‬ازدواجية‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬حجازي،‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يستورد‭ ‬كل‭ ‬منتجات‭ ‬الحداثة‭ ‬المادية‭ ‬والفكرية‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬المبدعة،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬مشروعا‭ ‬إنتاجيا‭ ‬وطنيا‭ ‬خليقا‭ ‬بأن‭ ‬يحدث‭ ‬فيه‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬تتحرر‭ ‬فيها‭ ‬طاقات‭ ‬العقل‭ ‬المبدع‭ ‬وينضج‭ ‬فيها‭ ‬وعيه‭ ‬السياسي‭. ‬فتحت‭ ‬غطاء‭ ‬الدستور‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬مثلا‭ ‬وحكم‭ ‬المؤسسات‭ ‬المقتبس‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬تتسم‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬فيه‭ ‬بالمحاصصة‭ ‬واقتسام‭ ‬النفوذ‭ ‬والغنائم‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬البلد‭ ‬وكأننا‭ ‬بصدد‭ ‬شركة‭ ‬تجارية‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬مؤسسين‭ ‬يسعى‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬حصته‭ ‬من‭ ‬النفوذ‭ ‬والغنيمة‭ ‬وتحولت‭ ‬النيابة‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الوجاهة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬تمثيل‭ ‬بالتفويض‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشعب،‭ ‬فتحول‭ ‬الانتخاب‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المبايعة‭!.‬

{ أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي

‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا