عالم يتغير

فوزية رشيد
العجوز الحكيم والصبي المشاكس!
{ في قياس الأمم فإن كل أمة تقاس ليس فقط بحاضرها إن كان متطورا أو متخلفا في الإطار المرحلي، بل تقاس الأمم أيضا بتاريخها وحضارتها وحجم مساهمتها في التطور الإنساني والحضاري عبر العصور، إلى جانب مساهماتها في ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية وحجم إرثها بكل ذلك في العالم! والصين تعتبر من الدول الثقيلة خاصة في الإطار الفلسفي منذ «كونفشيوس» وتنوعها العقائدي، والديني سواء بما حملته البوذية من فلسفة خاصة مؤثرة بسياقها التاريخي رغم رؤيتنا الخاصة حول البوذية، أو بما حملته الأقليات من سياقات دينية أخرى، بينها الأقلية المسلمة إلى جانب ما تبنته في مرحلة من تاريخها من أيديولوجية شيوعية ذات سمة مختلفة عن شيوعية ماركس – لينين في الاتحاد السوفيتي السباق، ولذلك هي بكل تلك الخلفيات تعتبر كالشيخ العجوز ذي الخبرة الفلسفية والروحية الخاصة!
{ على مدى عقود قبل الآن كانت الصين تعمل بصمت وجدية وبرؤية بعيدة المدى لإعادة بناء الذات بما تملكه من تعداد بشري هائل (مليار و200 مليون نسمة)، ومن عمل دؤوب لتبني فلسفة جديدة بعد الثورة الثقافية التي قامت بها! وبعد دمجها بين الشيوعية والرأسمالية في محاولة صناعة نمط أيديولوجي جديد يوفر لها إمكانيات التنمية، وحيث المهم بالنسبة إليها الأثر الاستراتيجي ذو النفس الطويل الذي يغير لاحقا المعادلات الكبرى في العالم وهذا ما نجحت فيه، وهو ما جعلها تغزو العالم ببضائعها سواء ذات الجودة المنخفضة والرخيصة، أو ذات الجودة المتوسطة والعالية ذات السعر الأعلى! بل اتضح أن كل الماركات العالمية الباهظة الأسعار تخرج في النهاية من مصانعها، كوسيط للغرب التي تعيد تصدير تلك البضائع باعتبارها ماركات عالمية! ولأن العجوز الحكيم يعرف جيدا ما يفعل فإنه انتقل إلى ساحة الاقتصاد العالمي ليكون أقوى ثاني اقتصاد في العالم، ومرشح حاليا لاحتلال أقوى أول اقتصاد عالمي!
{ بالمقابل فإن الولايات المتحدة تواصل سياستها الاستعمارية بعنجهية «الضربات التكتيكية» التي أنتجت الصورة الأمريكية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بميزان قوى جديد، حلت فيه الولايات المتحدة محل بريطانيا العظمى أو الإمبراطورية الاستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك! وعمر الولايات المتحدة عمر قصير زمنيا في تاريخ الأمم الحضارية المعروفة وهي التي قامت منذ أكثر من عدة مئات من السنوات فقط على جماجم السكان الأصليين «الهنود الحمر»! ليصبح شعار «الكاوبوي الأمريكي» ممثلا لها ولنهجها حتى في التعامل الدولي! وليصعد اقتصادها بعد السبعينيات والقائم على قوة الدولار رغم فك ارتباطه بالذهب! لتكون بالبلطجة المالية حيث الدولار تنحصر قيمته في الورق فقط أقوى اقتصاد عالمي منذ عقود! لكنها اليوم تجاهد بكل طريقة للاحتفاظ بموقفها، رغم التوقعات حول قرب انهيارها كإمبراطورية في العالم! وسلوكيات الكاوبوي المستمرة في البلطجة والاستفراد بالعالم والرؤى الاستعمارية التي لا تضع حسابا إلا لنفسها (يجعلها في مكانة الصبي أو المراهق النزق والمشاغب) في مواجهة العجوز الصيني المتمتع بالخبرة الحضارية والحكمة الفلسفية والبناء التنموي الشامل مع دول أخرى في العالم!
{ العالم حاليا يواجه مخاطر المواجهة بين الطرفين، خاصة مع اندلاع الحرب التجارية التي أشعلها المراهق الأمريكي، وهذه المرة متجسدا في سياسات رئيس الولايات المتحدة «ترامب»!
العجوز الصيني الحكيم اعتاد التحدث بصوت هادئ، لا يهدد ولا يحاضر أمام الدول الأخرى في العالم ولا يتدخل في شؤونها الداخلية باسم الحقوق والديمقراطية وغيرها، بل هو يمد يده للجميع برؤية تنموية تكاملية بين دول العالم وبناء اقتصاد عالمي تنموي قائم على نظام دولي جديد يتسم بالتعددية وليس الاستفراد ويستحضر في كل خطواته التنموية الأسس الفلسفية والروحية حول الصبر والحكمة في بناء الذات ومد الجسور مع الدول الأخرى بل يقدم المساعدات للتنمية الداخلية إن طلبت أي دولة تتحالف معها، ولعل خير ما يجسد تلك الرؤى طريق الحرير الجديد، الذي تعمل بكل الطرق على استكماله اقتصاديا وتجاريا وماليا وثقافيا!
{ بالمقابل فإن الصبي الأمريكي المشاكس الذي لم يتوان قط عن خلق وصناعة الأزمات والحروب والصراعات في العالم يتسم بالصوت العالي، والإعلام القائم على تقنيات التلفيق والأكاذيب والتحايل! يهدد طوال وقته ويحاصر ويعاقب ويحاضر من دون وجه حق في الأمم الأخرى حول حقوق الإنسان التي ينتهكها باستمرار! وحول الديمقراطية وتغيير الأنظمة والابتزاز واللعب على الحلفاء وفلسفته قائمة على فلسفة «الكاوبوي» والبلطجة وأنا أولا وأخيرا والحرب على الدول والنهب والاستعمار! وعنجهية التحكم في المساعدات والديون للدول الأخرى عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكل ذلك لضمان الاستفراد بالنظام الدولي الجائر، الذي يعمل على مراعاة مصالح القوى الاستعمارية الغربية والدوس على مصالح دول العالم الأخرى!
{ وباختلاف النموذجين تترشح الصين للصعود واحتلال المركز الأول في العالم اقتصاديا وتجاريا وتنمويا، فيما تترشح الولايات المتحدة للانهيار والسقوط!
وفي الخلاصة لايزال يواجه الشيخ العجوز بالحكمة، شغب ومشاكسة الصبي الأمريكي، الذي لا يستند إلى أي فلسفة دولية عادلة أو فلسفة روحية وأخلاقية أو أي مبادئ وقيم، بعد أن عمل على تحطيمها كلها سواء في بلده أو محاولة تحطيمها في العالم! وهنا مكمن الخطر لأن لا أحد يعرف ما الذي سيفعله المراهق المشاكس، حين يشعر بالحصار وبخسران المكانة العالمية، وإن كان سيتصرف بإشعال حرب عالمية ثالثة بمواجهة عسكرية وبمقولة (أنا ومن بعدي الطوفان)!
فهل ينجح الشيخ العجوز في الجولة الأخيرة في لجم اندفاعات الصبي المراهق غير المحسوبة؟! هذا ما يريد العالم كله أن يعرفه! وكل الاحتمالات موجودة في الحسبان!
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك