إن البيئة البحرية ليست مجرد امتداد جغرافي بين اليابسة والماء، بل هي ثروة حضارية ووطنية، وهي أنظمة متكاملة تحتوي على تنوع بيولوجي غني ومقومات طبيعية كــ«الشعب المرجانية والمستنقعات الساحلية، والخلجان»، ووفقًا لما ذكره Lew (2014) & Hall عن السياحة في المناطق الساحلية: ان هذه المناطق تضم أكثر من 60% من سكان العالم، مما يجعلها مناطق شديدة الحساسية بيئيًا واجتماعيا. وكذلك تعتبر السواحل خزانًا للتراث غير المادي من صناعة السفن التقليدية وفنون الصيد والأغاني الشعبية التي تندرج تحت «التراث الثقافي اللامادي» بحسب تصنيف اليونسكو2003) _(UNESCO الذي يشتمل على العادات المرتبطة بالبيئة والمجتمع والمهارات التي يمتلكها السكان في هذه المجتمعات.
وفي دول الخليج العربي، ومنها مملكة البحرين، أصبحت البيئات البحرية والساحلية وجهات سياحية مهمة نظرًا لارتباطها بالتراث البحري الفريد، الذي ارتبط بمهنة الغوص للبحث عن اللؤلؤ الطبيعي، حيثُ شكلّ جزءًا مهمًا من الهوية الثقافية التي اشتهرت بها المملكة. وقد أوضحت دراسة تم تطبيقها على مملكة البحرين أن العديد من عينة الدراسة، وخاصة الوافدين في المملكة يفضلون المواقع الساحلية بسبب المزج بين الحداثة والطابع التقليدي للأنشطة البحرية؛ لذا فإن سواحلنا تشكل في عصرنا الحالي أهم الخطوط الامامية في المعركة البيئية التي نخوضها ضد التهديدات البيئية الأكثر إلحاحًا، بدءًا من التآكل الذي يهدد الشواطئ والسواحل إلى ارتفاع مستويات سطح البحر الذي يهدد بتقليص أجزاء كبيرة من اليابسة للمناطق الساحلية، والتلوث الناتج عن الأنشطة البشرية التي أسهمت في تدهور العديد من الأنظمة البحرية وموائلها. إن المناطق الساحلية والشواطئ تواجه بشكل عام العديد من التهديدات في منطقتنا، وإننا ندرك تمامًا أن صحة سواحلنا لا تقتصر فقط على البيئة فحسب، بل تؤثر على اقتصادنا ومجتمعاتنا بشكل ملحوظ؛ لذا فإن العمل على إشراك المجتمع المحلي في إدارة المشاريع السياحية الساحلية يعزز من شعورهم بالانتماء ويدعم الاقتصاد المباشر للمشروعات، وهذا بدوره يسهم في صون الهوية المجتمعية.
وبين الموج والتراث تمتد سواحل مملكة البحرين كأشرطة من ذاكرتنا الحية التي ارتبطت بجذور هذه الأرض الطيبة، هي ليست مجرد حدود جغرافية أو وجهات سياحية، بل تشكل فضاءً ثقافيًا واجتماعيًا نابضًا بالحياة، حيث تتعانق فيه أصالة تراثنا الوطني مع حركات الأمواج في توليفة فريدة تظهر هوية المجتمعات الساحلية وتروي قصصها المتجذرة في أعماق التاريخ.
ان البيئات البحرية والساحلية اليوم تأتي في قلب القضايا التنموية المستدامة، بوصفها موردًا طبيعيًا وثقافيًا حساسًا لا يحتمل التجاوز والتعدي عليها باعتبارها أهم المقدرات الوطنية. وفي هذا السياق، فإن العمل على تحقيق تنمية متوازنة يتطلب ضرورة الدمج بين الأبعاد والمرتكزات الرئيسية للتنمية المستدامة: البيئية والاقتصادية، والاجتماعية، ومثالًا على ذلك يمكننا تطوير مواقع سياحية ساحلية تقدم خدمات تعليمية وثقافية، وترفيهية تحاكي التراث والواقع المحلي، وتُعرف السياح بالتراث البحري للمنطقة من دون المساس بالبيئة الأصلية، وتكون إدارتها من قبل أفراد المجتمع المحلي، وتسهم السواحل بشكل كبير في تحقيق التنمية المستدامة، بحيث تكون أداة للنمو الاقتصادي مع ضمان المحافظة على الموارد البيئية وصيانتها والهوية المجتمعية.
لذا تعتبر السياحة الساحلية أحد أسرع الأنماط السياحية نموًا في العالم، وذلك وفقًا لتقرير منظمة السياحة العالمية (2022 -UNWTO (، فإن 80% من مجمل الأنشطة السياحية في العالم من الأنشطة السياحية العالمية يتم ممارستها في المواقع الساحلية. ويرجع السبب لعدة عوامل أبرزها: المناظر الطبيعية، والمناخ المعتدل، وتنوع الأنشطة البحرية المرتبطة بالعادات والتقاليد والمهن القديمة، كـ«الغوص، وصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ». ومع تطور مفاهيم السياحة والبيئة، بدأت السواحل تُشكّل مجالًا حيويًا للتنمية السياحية المستدامة القائمة على المرتكزات الأساسية بأبعادها الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وأي تنمية تلغي أحد هذه المرتكزات فإنها لا تعد مستدامة، وما نراه اليوم على سبيل المثال في المشاريع السياحية القائمة على التوظيف الأمثل للبيئات البحرية والساحلية، فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي، والبيئي باعتبار هذه السواحل من أهم البيئات الطبيعية التي ارتبطت بالحياة البشرية منذ العصور القديمة إلى يومنا الحاضر، لما تمثله من مصدرًا للرزق، والتفاعل الثقافي الواسع بين الإنسان والطبيعة في إطار يحافظ على الهوية الثقافية للمجتمعات الساحلية ويصون إرثها التاريخي والحضاري.
إن أحد الجوانب الأساسية لتحقيق هذه التنمية المستدامة هو ضرورة التحركات النيابية والمجتمعية، فقد أثبت المجتمع المدني بالإضافة إلى جهود الكتلة النيابية أن هناك وعيًا جماعيًا بأهمية الحفاظ على السواحل باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية؛ لذا فقد شهدت البحرين تحركات نيابية نشطة لضمان عدم التعدي على هذه السواحل، كما أن العديد من المبادرات المجتمعية قد انطلقت من قبل السكان المحليين، ومن أحد هذه النماذج التي تعكس أهمية السواحل، هو ساحل المالكية، الذي يعتبر أحد أبرز الأمثلة على الصلة العميقة بين أهل البحرين والبحر، لما لهذه المعالم المهمة من أدوار ذات أثر في حياة المجتمعات المحلية، وقد كان سابقًا مصدر رزق للعديد من الأسر البحرينية عبر الأجيال، وفي وقتنا الحاضر وفي ظل التغيرات الحديثة والتطورات العمرانية، باتت هذه السواحل والبيئات البحرية معرضة لخطر التعديات البشرية، مما يستدعي ضرورة الحفاظ عليها وتحقيق التوازن بين التنمية والمحافظة على البيئة.
وفي هذا الصدد، يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال مشروعات سياحية بيئية تخلق فرص عمل للمجتمعات المحلية، وتسهم في تحسين مستوى المعيشة والدخل للأفراد، من دون المساس بالمكونات البيئية والتاريخية لهذه السواحل التي تقف شاهدًا حيًا على التفاعل العميق بين الإنسان والبيئة، حيث إن السواحل كانت منذ القدم محطات للتبادل التجاري والتواصل الحضاري، وقد امتزجت فيها المهن البحرية كالغوص وصيد الأسماك بصور التعبير الفني والتراث الشعبي، لتُكوّن مع مرور الزمن تراثًا معيشيًا يعكس طابعًا اجتماعيًا بحرينيًا متمايزًا.
واليوم، وفي ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها اغلبية دول العالم، تبرز السواحل كـ«أداة استراتيجية لأحداث التنمية السياحية»، لما تمتلكه من مرتكزات طبيعية وثقافية مهمة تجعل منها واجهة للسياحية جاذبة لمختلف الزوار. فالاستثمار السياحي في السواحل لا يقتصر على إقامة المنشآت الترفيهية والفنادق، بل يتعداه إلى إحياء الموروث الشعبي وتعزيز الممارسات الثقافية المحلية، مما يسهم في ترسيخ الهوية المجتمعية لدى الأجيال الجديدة، كما أنّ تطوير السياحة الساحلية بأساليب مستدامة يتيح فرص عمل متنوعة، ويعزز الاقتصاد المحلي من دون التفريط بالموروث الثقافي أو الإضرار بالبيئة البحرية، ومن هنا فإن الرؤية المتكاملة التي توازن بين متطلبات التنمية والحفاظ على الأصالة تشكّل الطريق الأمثل لتعزيز مكانة البيئات البحرية كمرآة للهوية ومورد دائم للتنمية.
وختامًا: إن البيئات البحرية والساحلية ليست فقط فضاءات للترفيه، بل هي ذاكرة حية تعكس عمق المجتمعات الساحلية وتاريخها. والاستثمار فيها سياحيًا لا يجب أن يكون مجرد استثمار اقتصادي، بل استثمار في الثقافة والهوية والمستقبل. ومن خلال تطبيق مبادئ التنمية المستدامة، تصبح هذه البيئات المهمة أداة حضارية تجمع بين الموج والتراث، وتبني جسورًا بين الأجيال. فالموج لا يتوقف، والتراث لا يُنسى، وبينهما تولد إمكانات لا حصر لها لصياغة مستقبل يرتكز على الجذور وينفتح على آفاق أوسع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك