أولت الهند ما أسمته «الاتجاه غربا» أي نحو منطقة الشرق الأوسط ومن بينها دول الخليج العربي اهتماما كبيرا وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة منذ عام 2014 ، ذلك الاهتمام وإن كانت وتيرته بطيئة في بدايتها منذ أن أسس لها في عام 2005 مانموهان سينغ(رئيس وزراء الهند آنذاك) ولكن تلك السياسة الآن أضحت تقترب من مستوى اهتمام الهند ذاته بعلاقاتها بشرق آسيا ، وربما أن عقد من الزمان أو أكثر ليس كافياً لتقييم تلك العلاقة ولكن الأمر المؤكد هو أن هناك مؤشرات مهمة لتطور الشراكة الاستراتيجية بين الهند ودول الخليج العربي ومن ذلك أنها تسير في اتجاهين متوازيين الأول: بشكل جماعي من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية والهند ومن ذلك انعقاد الحوار الاستراتيجي الأول بين الجانبين في سبتمبر 2024 ، والثاني: بشكل ثنائي من خلال حرص الجانبين على استمرار الزيارات رفيعة المستوى وكان آخرها الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للمملكة العربية السعودية ولقائه سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي في 22 أبريل 2025 وتعد الزيارة الثالثة لرئيس الوزراء الهندي للمملكة خلال 9 سنوات حيث كانت الزيارتان السابقتان عامي 2016 و2019، فضلاً عن الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الهند ونظرائهم من دول الخليج العربي خلال العقد الأخير والتي أسفرت عن توقيع العديد من مذكرات التفاهم والاتفاقيات الثنائية في عديد من مجالات التعاون المشترك بين الجانبين.
ولا شك أن الشراكات الناجحة لا تأتي من فراغ ولكن من منطلقات تاريخية واعتبارات مصلحية وآفاق مستقبلية، فإذا عدنا إلى التاريخ سريعا نجد أن منطقة المحيط الهندي كانت نموذجا لتبادل تجاري بين شعوب مختلفة، إذ اتسمت بقوة وتنوع اقتصادها حيث لعب المحيط الهندي دوراً رئيسياً في مرور السلع إلى أوروبا وكذلك الخليج العربي وهو ما تضمنه أحد المؤلفات المهمة «كتاب تجارة المحيط الهندي في عصر السيادة الإسلامية للدكتور شوقي عبد القوي عثمان الصادر عن عالم المعرفة بدولة الكويت عام 1990» إذ يقول أيضاً في مؤلفه: « كانت الرحلات العربية إلى الهند ممكنة مرتين أو أكثر خلال العام، وقد لعب المحيط الهندي دورا رئيسياً في مرور السلع إلى أوروبا وكذلك الخليج العربي، وبالإضافة إلى الموقع الاستراتيجي للهند على طرق التجارة في المحيط الهندي فكانت سياسة حسن معاملة الهند للتجار من أسباب الازدهار التجاري في تلك المنطقة»، وهي كلمات ذو دلالة وتعكس أهمية التجارة في تعزيز التعايش بين الشعوب وتقدم علاقات الهند ودول الخليج نموذجاً مهماً في هذا الشأن، أما الاعتبارات المصلحية وهي عديدة ولكن يمكن تحديد ثلاث أولويات للهند كانت محددات لتلك السياسة أولها: قضية أمن الطاقة وحرص الهند على تعزيز شراكاتها مع دول الخليج العربي حيث تعتمد على منطقة الشرق الأوسط ومن بينها دول الخليج العربي لتأمين ثلثي احتياجاتها من الطاقة ولعل الأمر اللافت للانتباه هو استمرار زيادة معدلات استهلاك الهند للطاقة وكان آخرها خلال الأشهر المنقضية من العام الحالي 2025، وثانيها: أن الهند هي إحدى القوى الصاعدة في النظام العالمي ومنطقة الخليج العربي كانت دوماً محلاً لتنافس تلك القوى والتي أعلنت مبادرات عديدة كانت منطقة الخليج جزءا منها مبادرة الصين «الحزام والطريق عام 2013» ومشروع «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا»، الذي تم إعلان خلال قمة مجمـوعة العشـرين في نيودلهي عام 2023، وثالثها: المصالح الحيوية للهند في منطقة الخليج العربي والتي تستضيف جالية هندية تتجاوز 9 ملايين عامل تقترب تحويلاتهم السنوية من 90 مليار دولار وتعد مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومي للهند.
ومع أهمية أسس ومضامين تلك الشراكة وأن «تعاون الجانبين في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، مثل الأزمات المناخية والأمن الغذائي سيكون أساساً لتحقيق استدامة اقتصادية واجتماعية في المستقبل» على حد وصف السيد جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال افتتاح حوار كوتشي 2025، والذي كان بعنوان «سياسة الهند نحو غرب آسيا، الشعب والازدهار» في السادس عشر من يناير 2025 فإن هناك أهمية لتحديد أولويات خلال مسار تلك الشراكة أخذاً في الاعتبار التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج العربي، وفي تقديري أن الأولوية الأولى هي مواجهة تهديدات الأمن البحري ليس فقط لكون الممرات المائية هي شرايين التجارة العالمية ولكنها وسيلة نقل الطاقة من مناطق الإنتاج إلى مستهلكيها وخاصة في آسيا وفي مقدمتهم الهند، صحيح أن الهند قد أولت اهتماماً كبيراً بتلك القضية من خلال تكرار زيارات السفن الهندية لموانئ دول الخليج العربي، وإجراء بعض تمارين مشتركة بين القوات البحرية الهندية ونظيرتها الخليجية فإن ثمة تحديات أخرى يمكن التعاون من خلالها بين الهند ودول الخليج وهي كيفية توظيف التكنولوجيا لمواجهة تهديدات الأمن البحري، بالإضافة إلى التمرينات المشتركة بشأن مواجهة الكوارث البحرية وللهند تجربة مهمة في مكافحة القرصنة في بحر العرب وكذلك قبالة سواحل الصومال من خلال القيام بحوالي 250 عملية تفتيش للسفن في تلك المنطقة، بينما تتمثل الأولوية الثانية في قضية الأمن الغذائي والتغير المناخي، حيث إن الهند هي من بين أكبر ثلاثة منتجين للقمح في العالم ، وأخيراً تعزيز الاستثمارات المتبادلة وتذليل العقبات أمام المستثمرين في الجانبين بالنظر لأهمية الاستثمارات بالنسبة إلى دول الخليج العربي في الوقت الراهن التي تقوم بتنفيذ خطط التنمية المستدامة وجوهرها تنويع مصادر الدخل وهو هدف استراتيجي للهند في الوقت ذاته الأمر الذي يعزز من أهمية مفاوضات التجارة الحرة بين الهند ودول الخليج العربي في الوقت الراهن.
وفي تقديري أن الشراكات الناجحة لا يجب أن تتضمن مسارات رسمية فحسب، بل إن للقوة الناعمة دورها من خلال العلاقات الثقافية والتعليمية التي من شأنها أن تسهم في تعزيز التواصل المجتمعي لترجمة الأبعاد التاريخية والجغرافية إلى واقع ملموس، ولا شك أن مأسسة تلك الشراكة من خلال حوار منتظم من شأنه تحديد الأولويات والتي تؤسس على احتياجات الطرفين بل ووضع أطر زمنية لتنفيذ تلك الأهداف.
إن دول الخليج العربي والتي استطاعت تأسيس عدة شراكات دولية ذات مضامين مختلفة ترى في الهند شريكاً مهماً على الصعد الاقتصادية والتجارية انطلاقاً من عوامل عديدة إلا أنه في ظل حالة التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج العربي بالنظر لاستمرار أهميتها النفطية، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي المهم فإنها تسعى إلى تحقيق مفهوم «القيمة المضافة» في تلك الشراكات في ظل تغير مفهوم الأمن، فضلاً عن تحقيق المصالح الخليجية الجماعية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك