في تصريحات أدلى بها لوسائل الإعلام الأمريكية منذ أسابيع عدة، كشف الرئيس دونالد ترامب عن قيامه بتوجيه رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، عبّر فيها عن رغبته في التوصل إلى اتفاق يضمن عدم امتلاك إيران السلاح النووي، لا الآن ولا في المستقبل، ولوّح فيها بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، إذا لم يتوصل معها إلى هذا الاتفاق خلال شهرين.
ولأن تصريحاته حملت في طيّاتها تهديدا باستخدام القوة، حتى بدت أقرب إلى إنذار عسكري منها إلى دعوة إلى حلّ النزاع القائم بين البلدين بالوسائل السلمية، سارع المرشد الإيراني إلى الرد عليها بتصريحات مضادة، مفادها أن التفاوض مع دولة لا تحترم التزاماتها التعاقدية لا جدوى منه، وأن إيران لن تقبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت تهديد السلاح. حينها، بدت العلاقات الأمريكية-الإيرانية وكأنها تنزلق نحو منعطف خطير. فقبول إيران بالتفاوض تحت تهديد السلاح ليس له سوى معنى واحد، هو القبول بالتعامل معها كدولة مارقة لا يجدي معها سوى استخدام القوة، وتراجع الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها باستخدام القوة ليس له سوى معنى واحد، وهو أن صوتها بات أعلى من قدرتها على الفعل، ومن ثم فلن تؤخذ تهديداتها على محمل الجد بعد الآن.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن ينفتح الباب واسعا أمام جهود الوساطة الرامية إلى نزع فتيل الأزمة المتفاقمة، وهو ما يفسر نجاح الدبلوماسية العمانية في إقناع الطرفين بضرورة إجراء مفاوضات بينهما تستهدف البحث عن مخرج من أزمة تهدد باندلاع صدام عسكري واسع النطاق في المنطقة، وأدى إلى انعقاد الجولة الأولى من هذه المفاوضات في مسقط يوم السبت12 أبريل الماضي
ما يدعو إلى التأمل هنا أن إيران والولايات المتحدة أصرّتا على أن تأخذ المفاوضات التي تم الاتفاق من حيث المبدأ على عقدها شكلاً محدداً، ترى كل منهما أنه الأنسب من وجهة نظرها.
فقبل انعقاد هذه المفاوضات صدرت عن إيران تصريحات تؤكد أنها «لن تمانع في الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة لاستكشاف مدى جدية إدارة ترامب في التوصل إلى اتفاق غير قابل للنقض مرة أخرى»، وذلك في محاولة من جانبها لنفي تهمة الرضوخ للتفاوض تحت التهديد، ولإعطاء الانطباع بأن جولة المفاوضات التي تم التوافق على عقدها في مسقط ستجرى تحت سقف شروطها هي، والتي تتلخص في:
1- أن يقتصر جدول أعمالها على بند واحد، ألا وهو التأكد من سلمية برنامج إيران النووي، في مقابل رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
2- الحصول على ضمانات تكفل عدم انسحاب ترامب أو أي رئيس أمريكي آخر يأتي من بعده من أي اتفاق جديد يتم التوصل إليه. أما الولايات المتحدة فقد أعلنت أن المفاوضات التي تم التوافق على عقدها في مسقط «ستكون مباشرة، وعلى أعلى مستوى، وأن جدول أعمالها سيكون مفتوحاً لبحث كل القضايا التي تهدد استقرار المنطقة»، وذلك في محاولة من جانبها للإيحاء بأن إيران رضخت للتفاوض تحت التهديد، ووافقت على تضمين جدول أعمال المفاوضات القادمة بنوداً تتعلق ببرنامجها الصاروخي وبعلاقاتها الإقليمية في الوقت نفسه.
في نهاية جولة المفاوضات التي انعقدت في مسقط، أصدرت السلطات العمانية تصريحات إعلامية تؤكد الآتي:
1- اتفاق الأطراف على جولة ثانية تعقد يوم 19 أبريل ما يعني نجاح الجولة السابقة في العثور على أرضية مشتركة تسمح بالاستمرار في المسار التفاوضي.
2- أن المفاوضات جرت في غرفتين منفصلتين، وقادها وزير خارجية عمان، ولم تتطرق إلى أي موضوعات أخرى خارج نطاق برنامج إيران النووي والعقوبات، ما يعني رجحان كفة وجهة النظر الإيرانية.
صحيح أن الوفدين الأمريكي والإيراني تقابلا وجهاً لوجه، لكن المقابلة بينهما لم تدم سوى ثوان قليلة، ولدواع فرضتها مجاملات دبلوماسية تقليدية وشجع عليها الاتفاق على مواصلة التفاوض، لكن ذلك لا ينفي احتمال أن يكون الوفد الإيراني قد ألمح إلى استعداد بلاده للدخول مستقبلاً في مفاوضات مباشرة، وربما المساعدة أيضاً في تهدئة الأوضاع الإقليمية في حال استعادة الثقة المفقودة في النوايا الأمريكية.
ومع ذلك، يمكن القول إن ما جرى في مسقط لا يعني أبداً أن عجلة المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بدأت في الدوران وانطلقت إلى الأمام بالفعل، وبالتالي أصبحت غير قابلة للتوقف أو الانتكاس، فالواقع أنها تواجه بتحديات ضخمة قد لا تستطيع التغلب عليها أبداً.
على الصعيد النظري، ليس من المستبعد أبداً إمكانية التوصل إلى صيغة لتسوية أزمة البرنامج النووي، استناداً إلى معادلة مفادها: قبول إيران تقديم الضمانات كافة التي تلزمها بعدم تصنيع السلاح النووي في أي وقت، في مقابل قبول الولايات المتحدة إلغاء العقوبات المفروضة على طهران، مع تمكين إيران في الوقت نفسه من الاستفادة الكاملة من برنامجها النووي في الأغراض السلمية.
فإيران لا تزال طرفاً في اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وبالتالي ملزمة بالوفاء بكل ما تفرضه هذه المعاهدة من أشكال المراقبة والتفتيش على مفاعلاتها النووية للتأكد من سلمية برنامجها النووي، بل وليس من المستبعد أن توافق على العودة إلى الالتزام بالبروتوكول الإضافي الذي انسحبت منه، والذي يتيح للوكالة الدولية للطاقة النووية حق التفتيش المفاجئ على جميع المفاعلات النووية للدول الموقعة على هذا البروتوكول من دون إخطار مسبق.
غير أن هذا الطرح غير قابل للتطبيق على الصعيد العملي، رغم وجود فتوى دينية تحرم على إيران امتلاك أو تصنيع أو استخدام السلاح النووي، وذلك لسببين رئيسيين، الأول: عدم اقتصار القلق الأمريكي من إيران على برنامجها النووي وإنما يمتد ليشمل برنامجها الصاروخي، من ناحية، وعلاقة إيران بالفصائل التي تقاوم المشروع الصهيوني، من ناحية أخرى، والثاني: التزام السياسة الخارجية الأمريكية، وخصوصاً في عهد الرئيس ترامب، بالمصالح الإسرائيلية أكثر من التزامها بالمصالح الأمريكية نفسها. ولأنه يصعب تصور أن توافق إيران على تقييد برنامجها الصاروخي أو على تقليص شبكة علاقاتها الخارجية، يتوقع أن يركز نتنياهو جهده في المرحلة القادمة على بحث السبل الكفيلة بإفشال المفاوضات الأمريكية-الإيرانية في جولاتها القادمة.
حين فوجئ نتنياهو بأن الإدارة الأمريكية قررت الدخول في مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي، وهو ما حرص ترامب على إعلانه بنفسه في ختام زيارة قام بها مؤخراً إلى البيت الأبيض، لم يجرؤ على الاعتراض علناً على هذه المفاوضات، لكن لوحظ أنه لم يتردد في البوح علناً بأنه «يفضل النموذج الليبي في هذه الحالة»، ما يوحي بأنه لن يقبل باتفاق لا يضمن التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني، على غرار ما قام به العقيد القذافي حين قرر في نهاية عام 2003 تسليم الولايات المتحدة المعدات والوثائق المتعلقة بالبرنامج النووي الليبي كافة.
صحيح أنه يدرك استحالة إقدام إيران على خطوة من هذا القبيل، لكن تلك هي طريقته في التعبير عن حقيقة الأهداف التي يسعى لتحقيقها في مواجهة إيران. ولأن نتنياهو يعتقد أن تلك الأهداف لن تتحقق إلا في حالة واحدة فقط، هي سقوط النظام الإيراني، كما يعتقد في الوقت نفسه أن إيران أصبحت الآن في أضعف حالاتها، وخصوصاً بعد سقوط النظام السوري السابق، لا يخامرني أي شك في أنه يفضل خيار تغيير النظام الإيراني بالوسائل العسكرية، وسيعمل لإقناع إدارة ترامب بأن خيار تغيير النظام الإيراني بالقوة العسكرية سيظل هو الخيار الأفضل، وبأن الفرصة المتاحة الآن لتحقيق هذا الهدف قد لا تتاح مرة أخرى، ومن ثم يجب الحرص على اقتناصها.
يرى كثير من المراقبين أن إدارة ترامب تدرك جيداً أن اللجوء إلى العمل العسكري المباشر في مواجهة إيران سيكون محفوفاً بمخاطر أكبر من قدرة الولايات المتحدة على احتمال تكلفتها.
لكن سلوك حكومة نتنياهو إبان الحرب التي أعلنتها على غزة منذ أكثر من عام ونصف العام ولا تزال مشتعلة حتى الآن، وكذلك سلوك إدارة ترامب تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية، لا يشيان بأي نوع من العقلانية أو الرشد. ولأن إدارة ترامب هي أكثر الإدارات الأمريكية ارتباطاً بحكومة نتنياهو، التي هي في الوقت نفسه أكثر الحكومات تطرفاً وعنصرية في تاريخ «إسرائيل»، يجب عدم استبعاد أن ينسقا معاً وبصورة مفاجئة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك