العدد : ١٧١٩٧ - الأربعاء ٢٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩٧ - الأربعاء ٢٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

نجاحات وإخفاقات العولمة في ضوء تحولات النظام الدولي

بقلم: د. مأمون أبو رعد

الخميس ٢٤ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬خضم‭ ‬الصدمة‭ ‬التي‭ ‬واجهها‭ ‬العالم‭ ‬بسبب‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬تكررت‭ ‬كثيرا‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كورونا‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬قبلها‮»‬،‭ ‬وينسب‭ ‬كثيرون‭ ‬أي‭ ‬تحول‭ ‬منتظر‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬العالم،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬العولمة‭ ‬ذاتها،‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأزمة‭ ‬المستجدة‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬استشراف‭ ‬مستقبل‭ ‬العولمة‭ ‬يتطلب‭ ‬رؤية‭ ‬أعمق‭ ‬وأوسع‭ ‬من‭ ‬ربطه‭ ‬فقط‭ ‬بوطأة‭ ‬أزمة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬ضرورة‭ ‬قراءة‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وظواهره‭ ‬الشاملة‭ ‬بهدوء‭ ‬وموضوعية،‭ ‬ونقطة‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تكون‭ ‬بإجراء‭ ‬مراجعة‭ ‬وكشف‭ ‬حساب‭ ‬للنجاحات‭ ‬والإخفاقات‭. ‬

ورغم‭ ‬ما‭ ‬للعولة‭ ‬من‭ ‬سلبيات،‭ ‬وما‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬منظومة‭ ‬ارتباطات‭ ‬وتفاعلات‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وتحكمت‭ ‬فيه‭ ‬بقسوة‭ ‬بالغة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬نجاحات‭ ‬وإنجازات‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬أولتها‭ ‬العولمة‭ ‬اهتمامًا،‭ ‬مثل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬العصب‭ ‬والمقوم‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬انطلقت‭ ‬منه‭ ‬فكرة‭ ‬العولمة،‭ ‬واستطاعت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني‭. ‬

أولا‭- ‬نجاحات‭ ‬محددة‭ ‬

انصب‭ ‬اهتمام‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬البعد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭ ‬الأخرى‭ ‬البيئية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬وحتى‭ ‬عند‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذه‭ ‬الأبعاد،‭ ‬كان‭ ‬المنطلق‭ ‬دائما‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬أيضًا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬العولمة‭ ‬تحقق‭ ‬نجاحات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬إذ‭ ‬قدمت‭ ‬سرعة‭ ‬الاتصال‭ ‬والتبادل‭ ‬المعلوماتي،‭ ‬والحجم‭ ‬الهائل‭ ‬للتجارة‭ ‬الافتراضية‭ ‬قوة‭ ‬دفع‭ ‬كبيرة‭ ‬للعولمة،‭ ‬جعلتها‭ ‬تسهم‭ ‬بدورها‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬عجلة‭ ‬الاعتمادية‭ ‬المتبادلة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬زيادة‭ ‬الإنتاجية‭ ‬والقدرة‭ ‬التنافسية‭ ‬للشركات‭ ‬متعددة‭ ‬الجنسيات،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تغذية‭ ‬مرتدة‭ ‬متواصلة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تحول‭ ‬علامات‭ ‬تجارية‭ ‬شهيرة‭ ‬إلى‭ ‬عنصر‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬مستلزمات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للفرد‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭. ‬

لم‭ ‬تقتصر‭ ‬المردودات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الإيجابية‭ ‬للعولمة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أسهمت‭ ‬تقنية‭ ‬المعلومات‭ ‬كأحد‭ ‬مخرجات‭ ‬العولمة،‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬مجالات‭ ‬الصناعة‭ ‬وتطويرها،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬التخطيط‭ ‬مرورًا‭ ‬بالتنفيذ،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الرقابة‭ ‬والمتابعة،‭ ‬فقد‭ ‬تمت‭ ‬أتمتة‭ ‬المصانع،‭ ‬وتحديث‭ ‬الإدارة‭ ‬وتسهيل‭ ‬عملية‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المعلومات‭ ‬بطريقة‭ ‬منتظمة‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬التصميم‭ ‬والإنتاج‭ ‬والتسويق‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬كان‭ ‬للعولمة‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬التكنولوجي‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬المالي‭ ‬والمصرفي،‭ ‬حيث‭ ‬تطور‭ ‬أداؤه‭ ‬بشكل‭ ‬ملموس،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاعتماد‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬التقنيات‭ ‬المعلوماتية‭ ‬الحديثة‭ ‬والمتطورة‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمات‭ ‬المصرفية،‭ ‬وإنجاز‭ ‬مختلف‭ ‬المعاملات‭ ‬المالية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬إيجابا‭ ‬على‭ ‬سرعة‭ ‬حركة‭ ‬التبادلات‭ ‬التجارية‭ ‬داخليًا‭ ‬وخارجيًا،‭ ‬بما‭ ‬مهد‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬حجم‭ ‬التجارة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬لتحظى‭ ‬بنصيب‭ ‬وافر‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭. ‬

لم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬فقد‭ ‬حققت‭ ‬العولمة‭ ‬إيجابيات‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة‭ ‬للفرد،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬الصحة‭ ‬والتعليم،‭ ‬ففي‭ ‬مجال‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬أسهمت‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬الوقاية‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬الجديدة‭ ‬والسيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬وتأمين‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬المريض‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬مع‭ ‬تطوير‭ ‬أساليب‭ ‬مواجهة‭ ‬الأوضاع‭ ‬الطارئة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬ظهور‭ ‬أمراض‭ ‬معدية‭ ‬خطيرة،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يتطلب‭ ‬جمعًا‭ ‬سريعًا‭ ‬للمعطيات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمريض،‭ ‬ونقلها‭ ‬إلى‭ ‬مختبرات‭ ‬طبية‭ ‬أو‭ ‬مراكز‭ ‬صحية‭ ‬عامة‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬وتبادل‭ ‬النصائح،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حاليًا‭ ‬مع‭ ‬تفشي‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭. ‬

وفي‭ ‬مجال‭ ‬التعليم،‭ ‬أسهمت‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬فرص‭ ‬التعليم،‭ ‬إذ‭ ‬سمحت‭ ‬بتخطي‭ ‬العراقيل‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬الحواجز‭ ‬الجغرافية،‭ ‬كما‭ ‬أثرت‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زيادة‭ ‬وتطوير‭ ‬كم‭ ‬ونوعية‭ ‬المواد‭ ‬التعليمية‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أفاد‭ ‬كثيرًا‭ ‬الطلاب‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬ودراسات‭ ‬علمية‭ ‬كان‭ ‬يصعب‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭. ‬

في‭ ‬السياق‭ ‬ذاته،‭ ‬جاء‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالبعد‭ ‬العسكري‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مردوداته‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وانعكاساته‭ ‬الأمنية،‭ ‬حيث‭ ‬شهدت‭ ‬صناعة‭ ‬السلاح‭ ‬وغزو‭ ‬الفضاء،‭ ‬واستخدام‭ ‬الأقمار‭ ‬الصناعية،‭ ‬وتطوير‭ ‬الصناعات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬والتطوير،‭ ‬وأنفقت‭ ‬الميزانيات‭ ‬المالية‭ ‬الضخمة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬مردودات‭ ‬اقتصادية‭ ‬للبلدان‭ ‬صاحبة‭ ‬الريادة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجالات،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تعزيز‭ ‬مكانتها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭.‬

الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالثقافة‭ ‬الاستهلاكية،‭ ‬كونها‭ ‬محركًا‭ ‬مهمًا‭ ‬للاقتصادات‭ ‬المتقدمة،‭ ‬وأنها‭ ‬مصدر‭ ‬رئيسي‭ ‬لتراكم‭ ‬الأموال‭. ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بث‭ ‬إعلانات‭ ‬بالصور‭ ‬والألوان‭ ‬المبدعة،‭ ‬والكلمات‭ ‬الرنانة،‭ ‬وإعداد‭ ‬برامج‭ ‬تجارية‭ ‬عالية‭ ‬التكلفة‭ ‬للإغراء‭ ‬على‭ ‬الاستهلاك‭ ‬لمنتجات‭ ‬الشركات‭ ‬دولية‭ ‬النشاط‭. ‬بعبارة‭ ‬أكثر‭ ‬تحديدًا،‭ ‬خضعت‭ ‬الثقافة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة،‭ ‬لقوانين‭ ‬العرض‭ ‬والطلب،‭ ‬واضعة‭ ‬بذلك‭ ‬المنفعة‭ ‬المادية‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬منفعة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭. ‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬العولمة‭ ‬هو‭ ‬تعزيز‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نشر‭ ‬المعلومات‭ ‬وتدفقها‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الحكومات‭ ‬أكثر‭ ‬اهتماما‭ ‬بالرأي‭ ‬العام‭ ‬وتوجهاته،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أكثر‭ ‬جدية‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬منظومات‭ ‬الفساد،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ضمان‭ ‬فاعلية‭ ‬الخدمات‭ ‬الحكومية،‭ ‬بما‭ ‬عزز،‭ ‬بدوره،‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬المحاسبة‭ ‬والشفافية‭. ‬

ثانيا‭- ‬إخفاقات‭ ‬متعددة‭ ‬

رغم‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬العولمة‭ ‬من‭ ‬نجاحات‭ ‬تركزت‭ ‬بصورة‭ ‬رئيسية‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬كونه‭ ‬عصبها‭ ‬الرئيسي،‭ ‬فإن‭ ‬جائحة‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬إخفاقات‭ ‬عدة‭ ‬أصابت‭ ‬العولمة،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاقتصادي‭ ‬ليدفع‭ ‬ذلك‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬العولمة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلا‭ ‬نجاحًا‭ ‬هشًا،‭ ‬سقط‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬أزمة‭ ‬عالمية‭. ‬

بشكل‭ ‬عام،‭ ‬يمكن‭ ‬رصد‭ ‬بعض‭ ‬الإخفاقات‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭: ‬

1-‭ ‬فشل‭ ‬الاعتمادية‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها،‭ ‬حيث‭ ‬كشفت‭ ‬الجائحة‭ ‬أن‭ ‬الاعتمادية‭ ‬الدولية‭ ‬المستهدفة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المركزية‭ ‬العالمية‭ ‬لدى‭ ‬الفواعل‭ ‬الدولية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتدخل‭ ‬حينما‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬أمورا‭ ‬تستوجب‭ ‬ذلك‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬يكون‭ ‬تدخلها‭ ‬ثنائيًا،‭ ‬وليس‭ ‬جماعيًا،‭ ‬حيث‭ ‬كشفت‭ ‬الأزمة‭ ‬الوبائية‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬دور‭ ‬ومكانة‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬والإقليمية‭ ‬في‭ ‬حسم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬والأزمات‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬تطلبت‭ ‬تنسيقًا‭ ‬دوليًا‭ ‬في‭ ‬مواجهتها،‭ ‬لكنه‭ ‬تم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬ثنائي،‭ ‬عبر‭ ‬دبلوماسية‭ ‬المساعدات‭ ‬والمعونات‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭. ‬

2-‭ ‬فشل‭ ‬اعتماد‭ ‬اقتصادات‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد‭ ‬العالمية‭ ‬المعقدة،‭ ‬حيث‭ ‬أدى‭ ‬حظر‭ ‬السفر،‭ ‬والقيود‭ ‬على‭ ‬التصدير‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬حركة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬حالة‭ ‬ركود‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يدفع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشركات‭ ‬نحو‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬المصادر‭ ‬العالمية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬إنتاجية‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬وأكثر‭ ‬محلية‭. ‬

3-‭ ‬كشفت‭ ‬الجائحة‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬فكرة‭ ‬العولمة‭ ‬ذاتها‭. ‬فعند‭ ‬حدوث‭ ‬ركود‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬والقوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الرئيسية،‭ ‬تلعب‭ ‬بعض‭ ‬الاقتصادات‭ ‬دور‭ ‬القاطرة‭ ‬لبقية‭ ‬أجزاء‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الركود،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬الصين‭ ‬بالفعل‭ ‬عند‭ ‬وقوع‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬العالمية‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬وهذا‭ ‬لن‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬اقتصادات‭ ‬العالم‭ ‬كافة‭.‬

4-‭ ‬كشف‭ ‬الجائحة‭ ‬عن‭ ‬إخفاق‭ ‬رؤية‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬نحو‭ ‬تحقيق‭ ‬التنمية‭ ‬للبلدان‭ ‬النامية‭ ‬والأقل‭ ‬نموا‭ ‬بفضل‭ ‬تشجيع‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسهم‭ ‬هذه‭ ‬الاستثمارات‭ ‬في‭ ‬النهوض‭ ‬باقتصادات‭ ‬تلك‭ ‬الدول،‭ ‬عبر‭ ‬تشجيع‭ ‬الاستثمارات‭ ‬المحلية،‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬المتقدمة،‭ ‬أوجدت‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬أضعفت‭ ‬قدراتها‭ ‬التنموية،‭ ‬نتيجة‭ ‬تعطيل‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭ ‬وسيطرة‭ ‬الاستثمار‭ ‬الأجنبي‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬نسب‭ ‬البطالة‭ ‬وزيادة‭ ‬الفقر،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬حرمان‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬مستحقاتها‭ ‬الضريبية‭ ‬على‭ ‬الشركات‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬أرباحها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭.‬

5-‭ ‬أكدت‭ ‬الجائحة‭ ‬صحة‭ ‬ما‭ ‬خلص‭ ‬إليه‭ ‬‮«‬توماس‭ ‬بيكتي‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الأخير‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬حول‭ ‬انعدام‭ ‬العدالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬كأحد‭ ‬إخفاقات‭ ‬العولمة،‭ ‬إذ‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العولمة‭ ‬وما‭ ‬ارتبط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬لسيادات‭ ‬الدول‭ ‬الوطنية،‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬انعدام‭ ‬العدالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لمصلحة‭ ‬أقلية‭ ‬معولمة‭ ‬ثرية‭.‬

6-‭ ‬كشفت‭ ‬الجائحة‭ ‬عن‭ ‬إخفاق‭ ‬التقدم‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬للدول‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬مواجهة‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬القاتل‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬عجز‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬آثاره‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ودمرها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬بخطورة‭ ‬ما‭ ‬أحدثته‭ ‬الصناعات‭ ‬العسكرية‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬ملوثة‭ ‬للبيئة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬ومؤدية‭ ‬إلى‭ ‬الدمار‭ ‬في‭ ‬مقوماتها‭ ‬الطبيعية‭ ‬والبشرية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تكاثر‭ ‬الأوبئة،‭ ‬والتلوث‭ ‬والمجاعات‭ ‬والهجرات‭ ‬غير‭ ‬الشرعية‭ ‬بتداعياتها‭ ‬على‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬المستقبلة،‭ ‬وضياع‭ ‬فرص‭ ‬التقدم‭ ‬والتنمية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الطاردة‭. ‬

في‭ ‬سياق‭ ‬متصل،‭ ‬كشفت‭ ‬الأزمة‭ ‬عن‭ ‬هشاشة‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الثقافي،‭ ‬إذ‭ ‬أهملت‭ ‬الدراسات‭ ‬والبحوث‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بأدواتها‭ ‬التحليلية‭ ‬والتفسيرية‭ ‬والمستقبلية،‭ ‬وأولت‭ ‬اهتمامًا‭ ‬بالتحليلات‭ ‬الكمية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬أنسب‭ ‬الفروض‭ ‬العلمية‭ ‬لتطبيقها‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬فروض‭ ‬علمية‭ ‬جاهزة‭ ‬للتطبيق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬والمشكلات‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬للاختلافات‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والثقافية‭. ‬والاقتصادية،‭ ‬والتباين‭ ‬بين‭ ‬ظروف‭ ‬المجتمعات‭ ‬المختلفة،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬منظومة‭ ‬ثقافية‭ ‬استهلاكية‭ ‬تضاعف‭ ‬البؤس‭ ‬وتفتقد‭ ‬القدرات‭ ‬الخلاقة‭.‬

في‭ ‬بعدها‭ ‬السياسي،‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬نحو‭ ‬المواطنة‭ ‬العالمية‭ ‬والهوية‭ ‬الإنسانية‭ ‬كمنافسين‭ ‬للمواطنة‭ ‬والهوية‭ ‬المحلية،‭ ‬فتضمنت‭ ‬عولمة‭ ‬السياسة‭ ‬تحولاً‭ ‬في‭ ‬تركيز‭ ‬ووعي‭ ‬واهتمام‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬المجال‭ ‬الوطني‭ ‬إلى‭ ‬المجال‭ ‬العالمي،‭ ‬وتولدت‭ ‬عنها‭ ‬حالة‭ ‬اغتراب‭.‬

من‭ ‬ثم،‭ ‬يثار‭ ‬التساؤل‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬التحولات‭ ‬الراهنة‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كورونا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإخفاقات‭ ‬التي‭ ‬تحققت‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬نظرية‭ ‬العولمة‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬نحو‭ ‬نظرية‭ ‬أخرى‭ ‬بديلة؟‭ ‬أم‭ ‬ستنجح‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬تداعيات‭ ‬الأزمة،‭ ‬وفق‭ ‬منطلقاتها‭ ‬الرئيسية‭. ‬وتفعيل‭ ‬أبعادها‭ ‬المتعددة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اختزال‭ ‬أو‭ ‬تركز‭ ‬في‭ ‬بعد‭ ‬واحد؟‭ ‬

من‭ ‬الصعوبة‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬تتراجع‭ ‬العولمة‭ ‬بصورة‭ ‬كلية‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬كشفت‭ ‬عنه‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬أضحى‭ ‬أكثر‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬التعاون‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬الركود،‭ ‬أو‭ ‬لمواجهة‭ ‬الكوارث‭ ‬البيئية‭ ‬والصحية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يصبح‭ ‬التساؤل‭ ‬المطروح‭ ‬حول‭ ‬نمط‭ ‬أو‭ ‬صيغة‭ ‬هذه‭ ‬العولمة‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬تظل‭ ‬العولمة‭ ‬بصيغتها‭ ‬الأمريكية‭ ‬أم‭ ‬سيشهد‭ ‬العالم‭ ‬عولمة‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الصيني؟

 

{ أستاذ‭ ‬مساعد‭ ‬بقسم‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬–‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا