في خضم الصدمة التي واجهها العالم بسبب جائحة كورونا، تكررت كثيرا مقولة «عالم ما بعد كورونا ليس كما قبلها»، وينسب كثيرون أي تحول منتظر في أحوال العالم، أو في العولمة ذاتها، إلى تلك الأزمة المستجدة.
غير أن استشراف مستقبل العولمة يتطلب رؤية أعمق وأوسع من ربطه فقط بوطأة أزمة. وهو ما يعني ضرورة قراءة التحولات الكبرى في العالم وظواهره الشاملة بهدوء وموضوعية، ونقطة البدء في ذلك تكون بإجراء مراجعة وكشف حساب للنجاحات والإخفاقات.
ورغم ما للعولة من سلبيات، وما نجم عنها من منظومة ارتباطات وتفاعلات هيمنت على العالم وتحكمت فيه بقسوة بالغة، فقد كان لها نجاحات وإنجازات خاصة في المجالات التي أولتها العولمة اهتمامًا، مثل الاقتصاد الذي يعد العصب والمقوم الأساسي الذي انطلقت منه فكرة العولمة، واستطاعت من خلاله التأثير في المجتمع الإنساني.
أولا- نجاحات محددة
انصب اهتمام العالم على البعد الاقتصادي أكثر من الأبعاد الأخرى البيئية والثقافية والسياسية والاجتماعية. وحتى عند الاهتمام بهذه الأبعاد، كان المنطلق دائما اقتصاديًا أيضًا، وهو ما جعل العولمة تحقق نجاحات كبيرة في هذا المجال، إذ قدمت سرعة الاتصال والتبادل المعلوماتي، والحجم الهائل للتجارة الافتراضية قوة دفع كبيرة للعولمة، جعلتها تسهم بدورها في تعزيز عجلة الاعتمادية المتبادلة على المستوى الدولي، وبالتالي زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية للشركات متعددة الجنسيات، في عملية تغذية مرتدة متواصلة، وهو ما أدى إلى تحول علامات تجارية شهيرة إلى عنصر أساسي من مستلزمات الحياة اليومية للفرد في مختلف بقاع العالم.
لم تقتصر المردودات الاقتصادية الإيجابية للعولمة على ذلك فحسب، بل أسهمت تقنية المعلومات كأحد مخرجات العولمة، في توسيع مجالات الصناعة وتطويرها، بدءًا من التخطيط مرورًا بالتنفيذ، وصولاً إلى الرقابة والمتابعة، فقد تمت أتمتة المصانع، وتحديث الإدارة وتسهيل عملية الحصول على المعلومات بطريقة منتظمة في مراحل التصميم والإنتاج والتسويق.
في هذا الإطار، كان للعولمة في بعدها التكنولوجي دور مهم في القطاع المالي والمصرفي، حيث تطور أداؤه بشكل ملموس، من خلال الاعتماد المتزايد على التقنيات المعلوماتية الحديثة والمتطورة في تقديم الخدمات المصرفية، وإنجاز مختلف المعاملات المالية، وهو ما انعكس إيجابا على سرعة حركة التبادلات التجارية داخليًا وخارجيًا، بما مهد بدوره إلى زيادة حجم التجارة الإلكترونية لتحظى بنصيب وافر في حركة التجارة العالمية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد حققت العولمة إيجابيات في تحسين نوعية الحياة للفرد، وخاصة في مجالي الصحة والتعليم، ففي مجال الرعاية الصحية، أسهمت تكنولوجيا المعلومات في الوقاية من الأمراض المعدية الجديدة والسيطرة عليها، وتأمين التفاعل بين المريض ومؤسسات الرعاية الصحية، مع تطوير أساليب مواجهة الأوضاع الطارئة، إذ إنه في حال ظهور أمراض معدية خطيرة، فإن الأمر يتطلب جمعًا سريعًا للمعطيات المتعلقة بالمريض، ونقلها إلى مختبرات طبية أو مراكز صحية عامة للمشاركة في المعلومات وتبادل النصائح، وهو ما يجري حاليًا مع تفشي فيروس كورونا.
وفي مجال التعليم، أسهمت تكنولوجيا المعلومات في تحسين فرص التعليم، إذ سمحت بتخطي العراقيل التي تفرضها الحواجز الجغرافية، كما أثرت العملية التعليمية، من خلال زيادة وتطوير كم ونوعية المواد التعليمية عبر الإنترنت، وهو ما أفاد كثيرًا الطلاب من الدول النامية في الحصول على مناهج تعليمية ودراسات علمية كان يصعب الوصول إليها.
في السياق ذاته، جاء الاهتمام بالبعد العسكري انطلاقًا من مردوداته الاقتصادية وانعكاساته الأمنية، حيث شهدت صناعة السلاح وغزو الفضاء، واستخدام الأقمار الصناعية، وتطوير الصناعات الإلكترونية مزيدًا من الاهتمام والتطوير، وأنفقت الميزانيات المالية الضخمة في سبيل ذلك، الأمر الذي حقق مردودات اقتصادية للبلدان صاحبة الريادة في هذه المجالات، إلى جانب تعزيز مكانتها في الساحة العالمية.
الأمر نفسه امتد إلى المجال الثقافي، من خلال الاهتمام بالثقافة الاستهلاكية، كونها محركًا مهمًا للاقتصادات المتقدمة، وأنها مصدر رئيسي لتراكم الأموال. وقد تم ذلك من خلال بث إعلانات بالصور والألوان المبدعة، والكلمات الرنانة، وإعداد برامج تجارية عالية التكلفة للإغراء على الاستهلاك لمنتجات الشركات دولية النشاط. بعبارة أكثر تحديدًا، خضعت الثقافة، في ظل العولمة، لقوانين العرض والطلب، واضعة بذلك المنفعة المادية في المقام الأول على حساب منفعة الفرد والمجتمع.
إلى جانب كل ما سبق، يرى البعض أن من أهم ما حققته العولمة هو تعزيز الديمقراطية، من خلال نشر المعلومات وتدفقها على نطاق واسع، وهو ما جعل الحكومات أكثر اهتماما بالرأي العام وتوجهاته، وبالتالي أكثر جدية في محاربة منظومات الفساد، من خلال ضمان فاعلية الخدمات الحكومية، بما عزز، بدوره، من قيم المحاسبة والشفافية.
ثانيا- إخفاقات متعددة
رغم ما حققته العولمة من نجاحات تركزت بصورة رئيسية في المجال الاقتصادي، كونه عصبها الرئيسي، فإن جائحة فيروس كورونا المستجد كشفت عن إخفاقات عدة أصابت العولمة، حتى في المجال الاقتصادي ليدفع ذلك البعض إلى القول بأن ما حققته العولمة لم يكن إلا نجاحًا هشًا، سقط مع أول أزمة عالمية.
بشكل عام، يمكن رصد بعض الإخفاقات في عدد من المؤشرات:
1- فشل الاعتمادية الدولية في تحقيق أهدافها، حيث كشفت الجائحة أن الاعتمادية الدولية المستهدفة لم تكن تعني أكثر من المركزية العالمية لدى الفواعل الدولية الكبرى التي تتدخل حينما ترى أن ثمة أمورا تستوجب ذلك. في هذا الصدد، يكون تدخلها ثنائيًا، وليس جماعيًا، حيث كشفت الأزمة الوبائية عن تراجع دور ومكانة المنظمات الدولية والإقليمية في حسم الكثير من القضايا والأزمات. صحيح أن الأزمة تطلبت تنسيقًا دوليًا في مواجهتها، لكنه تم على أساس ثنائي، عبر دبلوماسية المساعدات والمعونات من دولة إلى أخرى.
2- فشل اعتماد اقتصادات الدول على سلاسل التوريد العالمية المعقدة، حيث أدى حظر السفر، والقيود على التصدير إلى تراجع حركة التجارة العالمية بشكل كبير، الأمر الذي قد يؤدي إلى دخول الاقتصاد العالمي حالة ركود أسوأ من تلك التي عاشها في ثلاثينيات القرن المنصرم، الأمر الذي قد يدفع العديد من الشركات نحو إعادة تشكيل سلاسل التوريد الخاصة بها بعيدا عن المصادر العالمية، من خلال الاستثمار في أنماط إنتاجية أكثر مرونة وأكثر محلية.
3- كشفت الجائحة عن حجم الأزمة في فكرة العولمة ذاتها. فعند حدوث ركود في الدول الصناعية والقوى الاقتصادية الرئيسية، تلعب بعض الاقتصادات دور القاطرة لبقية أجزاء الاقتصاد العالمي للخروج من حالة الركود، وذلك ما قامت به الصين بالفعل عند وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، وهذا لن يتحقق في ظل الأزمة الراهنة التي أصابت اقتصادات العالم كافة.
4- كشف الجائحة عن إخفاق رؤية منظمة التجارة العالمية نحو تحقيق التنمية للبلدان النامية والأقل نموا بفضل تشجيع الاستثمارات الأجنبية، فبدلاً من أن تسهم هذه الاستثمارات في النهوض باقتصادات تلك الدول، عبر تشجيع الاستثمارات المحلية، أو نقل التكنولوجيات المتقدمة، أوجدت نوعًا من التبعية الاقتصادية التي أضعفت قدراتها التنموية، نتيجة تعطيل الإنتاج المحلي وسيطرة الاستثمار الأجنبي. وقد أدى ذلك بدوره إلى تفاقم نسب البطالة وزيادة الفقر، فضلا عن حرمان هذه الدول من نسبة كبيرة من مستحقاتها الضريبية على الشركات الأجنبية التي تحول أرباحها إلى الخارج.
5- أكدت الجائحة صحة ما خلص إليه «توماس بيكتي» في كتابه الأخير رأس المال والأيديولوجيا حول انعدام العدالة الاقتصادية كأحد إخفاقات العولمة، إذ أشار إلى أن العولمة وما ارتبط بها من تراجع لسيادات الدول الوطنية، أدت إلى تفاقم انعدام العدالة الاقتصادية لمصلحة أقلية معولمة ثرية.
6- كشفت الجائحة عن إخفاق التقدم العسكري في حماية الأمن القومي للدول التي وقفت عاجزة عن مواجهة هذا الفيروس القاتل. وهو ما كشف عن عجز العولمة في بعدها العسكري الذي ترك آثاره السلبية على الحياة الإنسانية ودمرها من دون وعي بخطورة ما أحدثته الصناعات العسكرية من حروب ملوثة للبيئة الطبيعية، ومؤدية إلى الدمار في مقوماتها الطبيعية والبشرية، فضلا عن تكاثر الأوبئة، والتلوث والمجاعات والهجرات غير الشرعية بتداعياتها على الأمن والاستقرار في البلدان المستقبلة، وضياع فرص التقدم والتنمية في البلدان الطاردة.
في سياق متصل، كشفت الأزمة عن هشاشة العولمة في بعدها الثقافي، إذ أهملت الدراسات والبحوث الاجتماعية بأدواتها التحليلية والتفسيرية والمستقبلية، وأولت اهتمامًا بالتحليلات الكمية على حساب إعمال العقل والتنقيب عن أنسب الفروض العلمية لتطبيقها بدلاً من اختيار فروض علمية جاهزة للتطبيق على كل القضايا والمشكلات دون مراعاة للاختلافات في البيئة الاجتماعية، والثقافية. والاقتصادية، والتباين بين ظروف المجتمعات المختلفة، في إطار منظومة ثقافية استهلاكية تضاعف البؤس وتفتقد القدرات الخلاقة.
في بعدها السياسي، لم تنجح العولمة في سعيها نحو المواطنة العالمية والهوية الإنسانية كمنافسين للمواطنة والهوية المحلية، فتضمنت عولمة السياسة تحولاً في تركيز ووعي واهتمام الفرد من المجال الوطني إلى المجال العالمي، وتولدت عنها حالة اغتراب.
من ثم، يثار التساؤل هل يمكن أن تؤدي التحولات الراهنة التي يشهدها العالم ما بعد كورونا في ظل الإخفاقات التي تحققت في ضوء نظرية العولمة إلى التحول نحو نظرية أخرى بديلة؟ أم ستنجح العولمة في معالجة تداعيات الأزمة، وفق منطلقاتها الرئيسية. وتفعيل أبعادها المتعددة، من دون اختزال أو تركز في بعد واحد؟
من الصعوبة بمكان أن تتراجع العولمة بصورة كلية في ضوء ما كشفت عنه الأزمة من أن العالم أضحى أكثر حاجة إلى التعاون لإنقاذ الاقتصاد العالمي من الركود، أو لمواجهة الكوارث البيئية والصحية، ومن ثم يصبح التساؤل المطروح حول نمط أو صيغة هذه العولمة هو: هل تظل العولمة بصيغتها الأمريكية أم سيشهد العالم عولمة على النمط الصيني؟
{ أستاذ مساعد بقسم العلوم الاجتماعية – كلية الآداب – جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك