أدى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أبريل 2025، بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الدول المتعاملة تجاريًا مع الولايات المتحدة، إلى إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد العالمي. وشهدت أسواق الأسهم العالمية، تراجعًا حادًا عقب الإعلان مباشرة، ولم تتمكن من تعويض خسائرها حتى الآن. كما تراجعت أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارًا للبرميل، في حين حذرت منظمة التجارة العالمية من انخفاض متوقع في حجم التجارة العالمية بنسبة 0.2% خلال العام، مقارنة بتوقعات سابقة بنمو يبلغ 2.7%، ما يعكس عمق التأثير السلبي لهذه السياسات على النظام التجاري الدولي.
علاوة على ذلك، شملت التداعيات الاقتصادية حدوث انخفاض ملحوظ في قيمة الدولار الأمريكي، مقارنة بالعملات الأخرى. وفي ظل التوجهات المتسارعة نحو تقليص الاعتماد على الدولار في مجالات التمويل والتجارة الدولية، سارعت وسائل الإعلام الغربية إلى تسليط الضوء على تأثير سياسات ترامب، في تفاقم هذه الديناميكية. وتساءلت صحيفة فاينانشال تايمز، عما إذا كان العالم بدأ يفقد ثقته في الدولار الأمريكي؟ فيما حذرت مجلة الإيكونوميست من أن ترامب قد يتسبب في انهيار الدولار. وأشاد ديفيد لينش، في صحيفة واشنطن بوست، بكون الدولار ضحية مبكرة، لحرب ترامب التجارية ضد العالم.
من جانبها، أشارت كولبي سميث، في صحيفة نيويورك تايمز، إلى أن تراجع الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى؛ يُشير إلى أن المستثمرين قد يبدأون في تجنب الاعتقاد السائد، بشأن اعتباره الملاذ الأكثر أمانًا بالأسواق المالية العالمية، وذلك على الرغم من التوقعات ببقائه القوة المهيمنة في الصرف الأجنبي، وفواتير التصدير، والمعاملات المالية في المستقبل.
ويبقى لسياسات البيت الأبيض، تأثيرها المباشر على عملية إزالة الدولرة، وتنويع العملات. وعلى الرغم من أن هذا من شأنه أن يرقى إلى عمل يجلب ضررا ذاتيا لا داعي له؛ فقد أشار ديفيد لوبين، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، إلى أن دعم جهود خفض الدولرة عالميا من أجل جذب استثمارات محلية على المدى الطويل، هو أمر يكتسب زخمًا لدى الإدارة الأمريكية. ومع عودة ترامب، إلى البيت الأبيض في يناير 2025، أشار الباحث إلى أن هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، بدت مرنة، مع وجود حافز ضئيل، حتى للدول المعادية لواشنطن للتخلي عن الدولار لصالح عملات أخرى قابلة للتحويل، حيث إن اللجوء للآخرين لن يضيف إلى تلك الدول أي حماية جيوسياسية.
ويؤكد هذا الوضع، الحقائق بشأن كون الاقتصاد الأمريكي، يمثل ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ووفقًا لـصندوق النقد الدولي، فإن الدولار الأمريكي يشكل حاليًا أكثر من 57% من جميع احتياطيات العملات الأجنبية، متجاوزًا بكثير أقرب منافس له اليورو (20%). وأضاف المجلس الأطلسي، أن الدولار يمثل 54% من فواتير التصدير، و88% من معاملات الصرف الأجنبي عالميًّا.
وقبل الإعلان رسميًّا عما يُسمى بتعريفات يوم التحرير، التي فرضها ترامب، تناول سميث، كيفية توقع المستثمرين ارتفاع الدولار، عطفًا على أن زيادة الرسوم ستثني الأمريكيين عن شراء السلع المستوردة؛ وبالتالي، تقلل الطلب على العملات الأجنبية. وأشارت صحيفة الإيكونوميست، إلى أنه مع استشعار المستثمرين الخوف في أوقات عدم اليقين، يسارعون عادةً إلى ملاذ الديون الأمريكية، ويعرضون ما بحوزتهم من دولارات، كما فعلوا خلال فترات الركود في سوق الأسهم عامي 2008 و2020، لكن في عام 2025 أشار ديفيد بيج، من شركة أكسا، إلى أن افتقار إدارة ترامب إلى الشفافية من حيث الدوافع، أدى إلى شعور واضح بعدم الارتياح؛ ما كان له تأثير في خفض قيمة الدولار مقابل منافسيه.
وسجل جيان لويجي ماندروزاتو، من بنك إي اف جي، انخفاض قيمة الدولار بنسبة 4% منذ إعلان ترامب رسوما جمركية جديدة، تراوحت بين 10% كحد أدنى، وأكثر من 100% على السلع المستوردة. وتسارع هذا الانخفاض حتى بعد موافقته على تعليق تطبيقها مدة 90 يومًا. وخلال عام 2025 وحتى الآن، انخفضت قيمة العملة بنسبة 10%، وتُتداول الآن عند أدنى مستوى لها في ثلاث سنوات. ويتوقع بنك جولدمان ساكس، استمرار هذا النمط، حيث سينخفض بما يعادل 6% أخرى خلال العام المقبل، مشيرًا إلى أن الاتجاهات السلبية في الحوكمة والمؤسسات الأمريكية، تُضعف الامتياز الباهظ الذي طالما تمتعت به الأصول الأمريكية.
ومع فقدان الدولار لقيمته مقابل منافسيه، بما في ذلك اليورو، والين، والجنيه الإسترليني؛ رأى جورج سارافيلوس، من دويتشه بنك، أنه حتى لو ألغت واشنطن، تعريفاتها الجمركية في الأمد القريب؛ فإن الضرر الذي لحق بالدولار الأمريكي قد وقع، حيث تقوم السوق الدولية الآن بإعادة تقييم الجاذبية الهيكلية لعملة الاحتياطي العالمية التحول، والخضوع بشكل حاسم لعملية إزالة الدولرة السريعة.
وفي سياق هذا التقييم، أشار جريجوري بيترز، من شركة بي جي آي إم، إلى أنه رغم أن أمريكا استفادت من كون الدولار عملة احتياطية عالمية مدة 100 عام؛ إلا أن إدارة ترامب تبدو وكأنها تخلت عن هذا الامتياز خلال أقل من 100 يوم فقط، بسبب سياساتها الاقتصادية التي تضعف مكانة الدولار.
من جهته، عبّر مارك سوبل رئيس منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية، في الولايات المتحدة، عن أسفه لما وصفه بـالحرب التجارية، التي شنها ترامب، معتبرًا إياها مثالًا إضافيًا على ازدراء الإدارة الأمريكية للعالم الخارجي، مؤكدًا أن واشنطن قد تجاهلت أهمية أن تكون شريكًا وحليفًا موثوقًا به.
وعليه، لاحظ جو بروسويلاس، من شركة آر إس إم إنترناشونال، أن المستثمرين المؤسسيين والبنوك المركزية، باتوا مضطرين إلى إعادة النظر فيما إذا كان الدولار الأمريكي، وسوق الخزانة، لا يزالان يشكلان الملاذ الآمن الذي اعتاد العالم الاعتماد عليه.
ورغم الانتقادات التي وجهها اقتصاديون غربيون، ومراقبو الأسواق تجاه سياسات ترامب، وتحذيراتهم من آثارها طويلة الأمد على مكانة الدولار؛ فقد أشار لوبين، إلى احتمال وجود دافع أعمق وراء هذا التراجع. إذ يرى أن بعض أعضاء إدارة ترامب، يعتبرون أن مكانة الدولار -كعملة احتياطية عالمية- تمثل عبئًا على الاقتصاد الأمريكي أكثر من كونها ميزة. ووفقًا لهذا الرأي، فإن إضعاف الدولار أمام العملات الأخرى، يُعد وسيلة علاجية؛ تهدف إلى تقليص العجز التجاري، وتحفيز عودة الصناعات التحويلية إلى داخل الولايات المتحدة. وفي المقابل، رأى أن التفسير الأكثر واقعية لارتفاع قيمة الدولار خلال العِقد الماضي -بالإضافة إلى استمرار العجز التجاري الأمريكي- يعود إلى أن الاقتصاد الأمريكي، كان أكثر حيوية من اقتصادات منافسيه، ما أدى إلى جذب تدفقات رأس المال إلى أسواق الأسهم والعملات.
ومع ذلك، فقد عارض هذا التحليل بعض الشخصيات البارزة في الإدارة الأمريكية الحالية. وسلطت مجلة الإيكونوميست، الضوء على مواقف نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، الذي كان ينتقد منذ أن كان عضوًا في مجلس الشيوخ، الدور الدولي الذي يلعبه الدولار، معتبرًا أن تراكم الأجانب للأوراق المالية الأمريكية، أدى إلى رفع قيمة الدولار بشكل مصطنع. وفي أبريل 2025، تحدث ستيف ميران، رئيس مجلس مستشاري ترامب الاقتصاديين، عن أن وظيفة الدولار كعملة احتياطية، تسببت في تشوهات مستمرة في أسعار الصرف، وأسهمت في خلق عوائق غير عادلة أمام التجارة، مشيرا إلى أنها ألحقت ضررًا كبيرًا بعملية التصنيع الأمريكية.
من جانبه، رأى ستيفن جين، من شركة يوريزون إس إل جيه كابيتال، أن المبالغة في تقييم الدولار كانت أحد العوامل التي أدت إلى تآكل القدرة التنافسية الأمريكية في التجارة الدولية خلال السنوات الأخيرة، واعتبر أن الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضها ترامب، ما هي إلا رد فعل على هذا الواقع المؤلم. وفي السياق ذاته، أشار إلى أن قيمة الدولار الأمريكي مبالغ فيها بنسبة تصل إلى 19%، مقارنةً بالعملات المنافسة، مضيفا أنه في حال قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، خفض أسعار الفائدة، كما هو متوقع، فإن ذلك قد يمثل بداية تصحيح طويل الأمد لقيمة الدولار.
ورغم أن هذه السياسات أثرت على مكانة الدولار عالميًا على المدى القصير، بما في ذلك انخفاض حصته من الاحتياطيات الأجنبية بحوالي 10% خلال العِقد الماضي؛ فإن سوبل، يرى أن الدولار سيظل يحتفظ بدوره العالمي في المستقبل القريب نظرًا لغياب بدائل قابلة للتطبيق. وأيدت صحيفة الإيكونوميست، هذا الرأي، مشيرة إلى أنه رغم أن المستثمرين الأجانب قد يرغبون في تقليل تعرضهم لتقلبات سياسات ترامب، فإنهم يواجهون تحديًا كبيرًا في غياب عملة بديلة واضحة يمكن أن تحل محل الدولار.
ومع ذلك، حذر لوبين، من أن إدارة ترامب، قد تمضي قدمًا في اتخاذ إجراءات، مثل (فرض ضرائب على الحيازات الأجنبية للأوراق المالية الأمريكية، وفرض قيود على الملكية الأجنبية، وفرض متطلبات استثمارية مرهقة)؛ بهدف إضعاف الدولار بشكل متعمد. وذكرت الإيكونوميست، أن مثل هذه العوائق أمام تدفقات رأس المال، قد تدفع العالم إلى الاعتماد على شبكات مالية أقل تطورًا؛ مما قد يؤدي إلى نشوء عالم من الكتل النقدية المتنافسة، بدلًا من نظام نقدي موحد.
وفيما يتعلق بالتأثير الأشمل لسياسات ترامب الاقتصادية، خاصة قراراته بشأن زيادات كبيرة واسعة النطاق في الرسوم الجمركية، فقد أشار براد سيتسر، من مجلس العلاقات الخارجية، إلى أنه من غير المستبعد الآن أن يبدأ بعض المستثمرين الأجانب في إعادة التفكير في مدى جدوى استثمار أموالهم في الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل التقلبات السياسية الشديدة، ومخاطر الركود الاقتصادي.
ورغم التزام إدارة ترامب، إيديولوجيًّا، بإضعاف الدولار، كأداة للحد من العجز التجاري، وتعزيز الصناعة المحلية؛ إلا أن عددًا كبيرًا من الاقتصاديين الغربيين أعربوا عن شكوكهم في صحة هذا النهج، محذرين من آثاره السلبية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء.
واختتم لوبين، ملاحظاته بالتحذير من أن هذه المقاربة يصعب تبريرها اقتصاديًّا، وإذا استمرت واشنطن في تبنيها خلال السنوات الأربع المقبلة، فقد يدخل النظام النقدي الدولي في حالة من الفوضى لم يشهدها منذ أكثر من نصف قرن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك