تخيل أنك تفتح كتابا وتجد نفسك جالسا مع ابن رشد، تتحاور معه حول العقل والنقل، ثم تنعطف الصفحات لتقودك إلى مجلس الفارابي، يحدثك عن المدينة الفاضلة كما يتصورها. وربما تأخذك الكلمات إلى زاوية هادئة في بطرسبرغ، حيث دوستويفسكي يفتش في أغوار النفس، أو إلى شارع فرنسي حيث فيكتور هوغو يسرد حكاياته عن الثورة والعدالة، قبل أن تتوقف قليلا أمام لوحة بيكاسو، وتفكر معه في ما لم يقال. هذا هو عالم الكتب، حيث لا تحتاج إلى جواز سفر لتنتقل بين العصور والأماكن، وحيث الفكر هو البوصلة الوحيدة.
الكتب بالنسبة إلي، لم تكن يوما مجالا للتسلية فحسب، بل كانت مثل صديق هادئ، دائم الحضور. لا أنسى عندما قرأت أول مرة كتاب «عالم صوفي» للكاتب النرويجي جوستاين غاردر، كيف أوقفني السؤال البسيط: من أنت؟ ظل يتردد داخلي لأيام، كأن الكاتب كان يهمس لي شخصيا. هذا النوع من الكتب لا يغلق بسهولة، بل يترك أبوابه مفتوحة في الذهن.
في إحدى زياراتي لمعرض القاهرة للكتاب قبل أعوام، كنت أتجول بين الأجنحة حين لفتني جناح دار الشروق. توقفت عند رف خاص بإصدارات نجيب محفوظ، وسحبت نسخة من «أولاد حارتنا». جلست على طرف أحد المقاعد، وبدأت أقرأ. وسط الضجيج والحركة، وجدت نفسي منغمسة في عالم آخر. كانت لحظة صامتة وسط كل شيء، شعرت فيها أني عدت إلى غرفتي في الفندق.
لذلك، فإن معارض الكتب ليست فقط أماكن للبيع. إنما هي أماكن تتنفس فيها الكلمة، وتتشكل فيها الصداقات الجديدة، وربما تتغير فيها بعض القناعات. وبصراحة، أحيانا لا نذهب للشراء بقدر ما نذهب للتمشي بين الكتب، نستمتع بتقليب العناوين، وربما نلتقي صدفة بكاتب نقرأ له.
في البحرين، عندنا الرغبة، وعندنا القراء والكُتّاب، لكننا بحاجة إلى مساحة أكبر للاحتفاء بالكتاب والقراءة. معرض يلتفت إلى المحلي دون أن ينغلق، ويستضيف الخارجي دون أن يذوب فيه. معرض يليق بطموح الناس هنا، ويكون على مقاسهم، لا ضخما حد الغرابة، ولا محدودًا حد التكرار.
والحديث هنا ليس عن تنظيم يشبه المهرجانات الكبرى، بل عن شيء بسيط يشبهنا. بشيء من العفوية والصدق. مكان يجد فيه الطفل ركنا للقراءة واللعب، وتجد فيه الجدة كتابا شعريا باللهجة البحرينية، ويجد فيه الكاتب منصة حقيقية للحديث.
في تجارب أخرى، مثل معرض تورينو في إيطاليا، الكتاب هو المحور، لكن الحدث يفتح نوافذه للموسيقى والسينما والناس العاديين. أحب هذا النموذج لأنه لا يضع الثقافة في إطار رسمي، بل يجعلها قريبة من الحياة اليومية.
أحيانا، لا نذهب إلى الكتاب كي نجد الإجابات، بل لنرتب داخلنا الأسئلة. ليس كل كتاب يحكي عن الماضي، بعض الكتب تفتح نوافذ صغيرة على أشياء لم نرها بعد. وربما هذا أكثر ما يعجبني في المعارض الجيدة: إنها لا تكتفي بعرض ما كتب، بل تلمح لما يمكن أن يكتب. تمر أحيانا على عنوان غريب، أو فقرة مقتطعة على غلاف، فتشعر بأن هناك فكرة ما بدأت تتحرك فيك. لا أحد يمليها عليك، لكنك تعرف أنها لن تتركك بسهولة. وهذا ما يجعل القارئ في المعرض ليس متلقيا فقط، بل مشاركا في رسم ملامح الطريق القادم، بطريقته الخاصة.
أتخيل معرض الكتاب في البحرين مساحة دافئة، فيها زوايا للقراءة، وطاولات حوار، وربما عربة قهوة تقف عند الزاوية. لا شيء رسمي جدا. ولا شيء معقد. فقط كتب وناس وفضول مشترك.
أحلم أيضا بمسابقة بسيطة للكتابة من واقعنا المحلي، عن قصص البحر، أو عن البيوت القديمة، أو حتى عن المطبخ. أن نحكي بلغتنا عن أنفسنا. ويمكن حتى دعوة الحرفيين والفنانين المحليين لعرض أعمالهم المستوحاة من كتب، كنوع من الدمج الجميل بين الكلمة والصورة.
قد يكون كل هذا حلما. وقد لا يحدث هذا العام ولا المقبل. لكن لا بأس. الفكرة هنا أن نبدأ من الآن، من أي مكان. من قراءة كتاب، أو من اقتراح صغير، أو حتى من حديث جانبي عن القراءة في مجلس عائلي.
والأهم من كل ذلك، ألا ننسى بأن الكتاب لا يحتاج إلى ديكور فاخر، بل إلى نية طيبة، ويد تمتد نحوه.
أجمل ما في الفكرة أنها لا تحتاج إلى بهرجة كي تترك أثرا، بل إلى روح تؤمن بها، ومساحة تحتضنها بصدق. ما نرجوه هو معرض يحمل هذه الروح، ويمنح الناس فرصة للالتقاء حول ما يجمعهم: الكلمة.
ليس الهدف أن ننافس الآخرين، بل أن نروي قصتنا بطريقتنا، ونفتح أبوابا لمن يحملون الكلمة حبا وشغفا. بعض الأفكار تحتاج فقط إلى من يؤمن بها، ومن يمنحها الضوء الأول. وكل ما نأمله، أن نمنح هذا الحلم وقتا لينمو، ومساحة ليتحقق، فبعض الأحلام حين تنبت هنا، تزهر أبعد مما نظن.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك