ما يحدث – الآن – في غزة والضفة الغربية ليس حربا بين احتلال إسرائيلي غاشم، ومقاومة فلسطينية تدافع عن الأرض والعرض والشرف، لكنه حرب على الإنسانية وضدها، حرب على المبادئ والأخلاق والقانون والشرائع الدينية، حرب ملوثة بعفن الضمائر الميتة وقسوة وحوش أدمنت سفك الدماء، وخسة محتلين مستعمرين تمكنوا من فلسطين في غفلة من الزمن، وسعوا إلى إبادة أهلها باسم حماية أمن إسرائيل ومنع المخاطر التي تواجهها.
في الظاهر إنهم يحاربون حماس والجهاد وفتح وجبهة التحرير الشعبية وعرين الأسود وكتائب جنين، لكنهم في الحقيقة يحرقون ويدمرون ويقتلون كل مظاهر الحياة وصورها، وكل ما يضمن ألا يبقى الفلسطينيون فوق أرضهم آمنين مستقرين، ما يحدث – الآن – في غزة والضفة الغربية – بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية– يمثل الحلقة الأخطر في مسلسل تصفية القضية الفلسطينية مستغلة –في سبيل ذلك– كل ما لديها من إمكانيات عسكرية وإعلامية وسياسية ودبلوماسية.
منذ النكبة حين أُجبر أهل القرى الفلسطينية على الرحيل تحت وابل النار بدأت الحكاية التي لا تزال فصولها تُكتَب بالدم والحصار، وقتها لم تكن إسرائيل تقاتل – فقط– من أجل الاستيلاء على الأرض، بل من أجل أن تُمحى فلسطين من الخرائط والعقول والقلوب، لذلك زرعت المستوطنات كأشواك في جسد الضفة كما خنقت غزة كمن يلُف الحبل حول عُنُق المدينة، وتحت وطأة الصمت العالمي المقيت، مدت إسرائيل يدها للعواصم العربية كي تصافح علنا قادتها، ثم تبتسم، بينما تواصل البناء فوق ركام البيوت وتوزع الخوف على من يتشبثون بأظافرهم بتراب الوطن كل خطوة كانت نحو نسيان الحق، لم يكن هدف إسرائيل أبدا هو أن تُهزَم فلسطين في المعركة، بل أن تنسى أنها ستكون دولة في يوم من الأيام.
بعد هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023، قررت الأخيرة أن تُسرع من وتيرة محو خريطة فلسطين وتحويلها لمجرد ذكرى يستعيدها من غضوا الطرف عنها، عندما تركوها تُذبَح دون أن يحركوا ساكنا.
لقد بدأت إسرائيل، بعد السابع من أكتوبر 2023، كتابة سجلها الأسود في تحويل قطاع غزة – على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة «أنتوني جوتيريش» – إلى ساحة قتل مفتوحة، غرق فيها السكان ضحايا لدوامات موت لا تنتهي، وفى الوقت نفسه وسعت دائرة الحرب لتشمل الضفة الغربية كي تلقى نفس المصير.
كل المؤشرات تؤكد أن إسرائيل ماضية في تصفية القضية الفلسطينية والاستيلاء على كامل الأرض، وجعلها ملكا خالصا للصهاينة، في يناير 2025، اقترح الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» خطة لنقل سكان غزة إلى مصر والأردن، بزعم تطهير المنطقة وتحويل القطاع إلى ما سماه «ريفيرا الشرق الأوسط» بشرط أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية القطاع وإدارته.
بالطبع، لم يكن موقف ترامب من القطاع سوى نوع من التماهي مع طموحات الإسرائيليين وخططهم وتطلعاتهم، تلك التي تأكدت من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين مرارا وتكرارا، على نحو ما أعلنه وزير المالية «سموترش» الذي دعا فيها إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزة وبناء المستوطنات اليهودية هناك، وفى الضفة الغربية تتكرر نفس التصريحات تقريبا، وتتشابه المواقف، حيث صرح وزير الأمن القومي «إيتمار بن غفير» بضرورة ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وإقامة حواجز دائمة على طرق الضفة الغربية لأن – على حد زعمه– حق الإسرائيليين في الحياة له الأولوية على حرية الفلسطينيين في التنقل.
لم تعد إسرائيل تريد حل الدولتين، ولا تريد دولة واحدة يشاركها فيها الفلسطينيون، هي تريد فلسطين لنفسها على أن يُهجر كل الفلسطينيين طوعا أو قصرا، وقد تصبح موافقة الرئيس الإندونيسي على استقبال 1000 فلسطيني من الراغبين في الهجرة بمثابة مقدمة لانضمام العديد من الدول لتلك المؤامرة التي تُنسج خيوطها في الظلام والنور كي تموت القضية الفلسطينية للأبد.
إن إسرائيل تصر على رفض الدولة الواحدة لأنها تخشى فقدان تفوقها السكاني والسياسي، وترى أن ضم الفلسطينيين إليها يهدد مشروعها القومي ويقوض سيطرتها على الأرض والقرار.
{ كاتب وباحث أكاديمي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك