«إذا لم يتوصَّلوا إلى اتفاق، فسيكون هناك قصف لم يروا مثيله من قبل» تصريح لافت أدلى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإحدى القنوات التليفزيونية الأمريكية مؤكداً فيه على أن بديل عدم إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران هو مواجهة قصف عسكري غير مسبوق لمنشآتها النووية، بينما جاء الرد الإيراني على لسان المرشد الأعلى علي خامنئي بالقول «بأن أي هجوم أميركي أو إسرائيلي سيُواجه بضربة انتقامية قاسية»، وواقع الأمر أنها ليست المرة الأولى التي نشهد فيها خطاباً حاداً بين مسؤولي الولايات المتحدة الأمريكية ونظرائهم من إيران، إلا أن الأمر الجديد هذه المرة يتمثل في متغيرين مهمين للغاية أولهما: تزامناً مع الخطاب الأمريكي الحاد تجاه إيران تم الإعلان عن إرسال حاملة طائرات أمريكية للمنطقة لتضاف إلى أخرى موجودة بالفعل، بالإضافة إلى 6 قاذفات بي 2 لديها القدرة على حمل قنابل تزن 30 ألف رطل مخصصة لاستهداف الأهداف التي تقع في أعماق كبيرة، فضلاً عن الوجود العسكري التقليدي الأمريكي في المنطقة سواء من خلال القواعد العسكرية أو إجمالي عدد الجنود الأمريكيين في الخليج العربي والقرن الإفريقي الذي يبلغ 43 ألفا بما في ذلك القوات الاحتياطية، وعلى الجانب الإيراني بالطبع إيران لديها صواريخ بعيدة المدى وطائرات بدون طيار «الدرونز» متقدمة للغاية ، أما المتغير الثاني فهو تأثير التطورات الإقليمية وهي أحداث غزة والتطورات في سوريا واستهداف حزب الله والحوثيين على النفوذ الإقليمي لإيران بما يراه البعض فرصة سانحة للولايات المتحدة لإجبار إيران على التفاوض للتوصل لاتفاق بشأن البرامج النووية الإيرانية.
ولست هنا بصدد المقارنة العسكرية والتي لا يجب أن تستند ليس إلى تقديرات رقمية بحتة بل طريقة الحرب ذاتها ورد إيران المتوقع حال استهداف منشآتها النووية والتي لن تكون ردوداً تقليدية ،ولكن في سياق طبيعة الأزمة و بمفهوم الأزمات نحن لانزال أمام «أزمة التلاعب» والتي يختبر فيها كل طرف قدرات الآخر ولم نشهد بعد تطورات ذلك الوضع نحو مراحل متقدمة وهي التوريط وحافة الهاوية والانفلات، ولكن من منظور واقعي فإن المفاوضات النووية هذه المرة إن حدثت ستكون في ظل ظروف بها من الضغوط ما يفوق الفرص، فلن يكون بمقدور إيران انتهاج استراتيجية شراء الوقت كما كان عليه الحال من قبل في ظل تلك الحشود العسكرية، بالإضافة إلى عدم فاعلية الدور الأوروبي حالياً إذ تشهد علاقات أوروبا مع الولايات المتحدة توتراً ملحوظاً، صحيح أن شراكات إيران مع الصين وروسيا مهمة ،ففي تصريح للمتحدث باسم الخارجية الصينية طالبت الصين الولايات المتحدة «بالعودة إلى طاولة المفاوضات وإظهار النوايا الحسنة» وأن «سياسة العقوبات والتهديدات العسكرية لن تؤدي إلى حل»، أما مسؤول الأمن الاستراتيجي بوزارة الخارجية الروسية فقد قال «أن روسيا ضد الحلول القسرية، وضد العدوان، وضد الضربات و أن الهجمات على البنية التحتية النووية الإيرانية يمكن أن تكون كارثية على المنطقة بأكملها»، إلا أن التساؤل عن مدى الدعم العسكري الذي يمكن أن تقدمه روسيا لإيران حال تعرض منشآتها النووية لهجوم؟ وواقع الأمر أن التاريخ وانخراط روسيا حالياً في الحرب الأوكرانية والمصالح الاستراتيجية لروسيا تعني أنها لن تخوض حرباً من أجل إيران، وكذلك الصين التي تحافظ على توازن دقيق في علاقاتها الدولية.
وعود على ذي بدء فإن التساؤل المهم حول طبيعة ومتطلبات الضربة - إن حدثت- وتداعياتها الإقليمية؟ وهو تساؤل يعني الخبراء العسكريين بالدرجة الأولى ولكن مجمله هو هل تعرف الاستخبارات الأمريكية على وجه التحديد أماكن وجود المنشآت النووية الإيرانية؟ فقبيل إبرام إدارة الرئيس أوباما الاتفاق النووي مع إيران تعالت أصوات في الإدارة الأمريكية آنذاك مطالبة بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية فطلب الرئيس تقريراً لمواقع تلك المنشآت فكانت النتيجة تقديم 16 موقعا مفترضا؟ بما يعنيه ذلك من أن الضربة العسكرية إن لم تكن وفق تقديرات استخباراتية دقيقة لن تكون ذي فائدة ملموسة للقضاء على طموح إيران النووي، ومن ناحية ثانية فإن الطائرات التي سوف تقوم بتلك الضربة ربما تحتاج لإذن مرور إما من العراق أو تركيا، فضلاً عن معارضة دول الخليج العربي غير ذي مرة العمل العسكري ضد إيران، بل أنها أدانت الهجوم الإسرائيلي على إيران في أكتوبر 2024 على خلفية أحداث غزة، ومن ناحية ثالثة تثار التساؤلات حول الهدف من تلك الضربات هل القضاء على البرامج النووية الإيرانية أم تأجيلها؟ فالبرامج النووية الإيرانية ليست منشآت نووية فحسب بل علماء وكميات من اليورانيوم المخصب ومختبرات، ومن ثم ما هي الضمانات أن تؤدي تلك الضربة للقضاء على مكونات تلك البرامج النووية جميعها؟ فليس من المعقول أن إيران لم تستفيد من تجربة الإطاحة بالنظام العراقي عام 2003 من خلال إجراءات احترازية من بينها تأمين منشآتها النووية فوفقاً لخبراء أنها مزودة بصواريخ بعيدة المدى ذاتية الإطلاق حال تعرضها لهجوم، ومن ناحية رابعة فإن الطبيعة الجغرافية لإيران ومساحتها الشاسعة تتيح لها قدراً كبيراً من المناورة على عكس القوات المعادية.
ويبقى التساؤل حول طبيعة الرد الإيراني، فإذا عدنا للتاريخ نجد أن إيران في كافة الصراعات التي خاضتها تحتفظ بقواتها للحظة الأخيرة وتثار توقعات منها إمكانية استهداف القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة والتي تبلغ وفق تصريح مسؤول بالحرس الثوري الإيراني 10 قواعد و50 ألف جندي، فضلاً عن إمكانية زيادة وتيرة تهديد الملاحة البحرية سواء في مضيق هرمز من خلال الحرس الثوري أو من خلال مضيق باب المندب عبر الحوثيين، صحيح أن إيران لن تقدم على إغلاق مضيق هرمز فلم تقم بذلك حتى في ذروة الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات حتى لا تكون في عداء مع العالم بأسره ولكن هناك سبل أخرى ، بالإضافة إلى دعم إيران للجماعات المسلحة في المنطقة على الأقل للحوثيين أمر ذو دلالة في خضم ذلك الصراع.
ولا شك أن المصالح الحيوية لدول الخليج العربي ستكون محل تهديد وخاصة محطات تحلية المياه على الخليج العربي والمنشآت الحيوية الأخرى مما يتطلب اتخاذ إجراءات احترازية بل ومساعي حميدة لنزع فتيل ذلك الصراع.
وعلى الرغم من نبرة الحديث الحادة المتبادلة بين الولايات المتحدة وإيران لاتزال هناك فرص لجهود الوساطة إذ توجد لدى الطرفين النية لتوقيع اتفاق نووي جديد، ولكن المعضلة ليست في الاتفاق من عدمه ولكن في آليات التفتيش الدولية على البرامج النووية عموماً ومجمل ملفات الوضع الإقليمي التي تحتاج إلى تسوية بعيداً عن خيار المواجهات المسلحة والتحالفات العسكرية في منطقة بها ما يكفي من تحديات أمنية غير مسبوقة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك