تعد المجموعة الخليجية من أكثر المجموعات الاقتصادية اندماجًا في الاقتصاد العالمي، حيث تمثل صادراتها نحو 53.6% من الناتج المحلي الإجمالي الخليجي البالغ نحو 2.2 تريليون دولار، بينما تمثل الواردات منه 37.5%.
وفي مؤشر حجم التبادل التجاري السلعي يعد مجلس التعاون الخليجي السادس عالميًا، والخامس عالميًا في مؤشر إجمالي الصادرات السلعية، والتاسع عالميًا في مؤشر إجمالي الواردات السلعية، فيما غدت الصين تحتل المرتبة الأولى عالميا في قائمة الشركاء التجاريين الرئيسيين للمجلس في مؤشر التبادل التجاري السلعي، وتأتي الهند في المرتبة الثانية، كما أن الصين هي الأولى عالميًا بين شركاء المجلس في مؤشر حجم الصادرات السلعية وكذلك الواردات.
ومع تركيز التوجهات الاقتصادية الخليجية نحو تنويع مصادر الدخل، والتحرر من هيمنة النفط على قائمة صادراتها، واتجاهها لتعزيز القطاعات غير النفطية، ينشط «مجلس التعاون الخليجي»، في تأمين أسواق جديدة للصادرات السلعية الخليجية، وكذلك الخدمات كالسياحة، وفي تعزيز الوجود الخليجي في الأسواق القائمة، ومن أبرز آلياته في هذا الشأن عقد اتفاقات تجارة حرة مع دول ومجموعات اقتصادية، تفتح الطريق لدخول المنتجات الخليجية محررة من الرسوم والقيود الجمركية، فتستطيع المنافسة في أسواق هذه الدول والمجموعات، كما تعزز الاستثمارات الخليجية لديها، وتحمي حقوق المستثمر الخليجي، وحقوق الملكية الفكرية، وتعزيز جاذبية دول مجلس التعاون الخليجي للاستثمار الأجنبي المباشر.
وفضلاً عن «اتفاقية التجارة الحرة»، بين دول المجلس، و«اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى»، وكلاهما له دوره في تعزيز التجارة والاستثمارات البينية؛ عقد المجلس مع سنغافورة اتفاقية التجارة الحرة في ديسمبر 2008، ومع دول رابطة «الأفتا» الأوروبية (تضم سويسرا والنرويج وآيسلندا ولختنشاين) في يونيو 2009، ومع نيوزيلاندا في أكتوبر 2009، ومع باكستان في سبتمبر 2023 وكوريا الجنوبية في ديسمبر 2023، فيما تستمر مفاوضات مجلس التعاون الخليجي لعقد اتفاقات تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، والصين، والهند، وتركيا، واليابان، ودول المركوسور (الأرجنتين، والبرازيل، وأوراجوي، وبراجوي).
وقد دخلت بعض هذه المفاوضات في مراحلها النهائية، خاصة مع الصين التي عقدت جولتها الأولى مع المجموعة الخليجية في 2004، وهو العام الذي شهد التوقيع بين الجانبين على اتفاق إطار للتعاون الاقتصادي والاستثماري، وهذه الاتفاقية لا تحرر فقط تجارة السلع من الرسوم والقيود الجمركية، ولكنها تفتح آفاقا جديدة؛ كالخدمات، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي والروبوتات، والبنية التحتية، والنقل، والخدمات اللوجستية، والبناء والتصنيع، والسياحة، وعلوم الفضاء، والتصدير.
وفي هذا السياق، أعطت «القمة الأوروبية الخليجية»، التي عقدت العام الماضي -وهي أول قمة منذ بدء العلاقات بين الجانبين في 1989، وشهدت مشاركة أكثر من 33 رئيس دولة ورئيس وزراء– قوة دفع لمفاوضات تحرير التجارة بين الجانبين، أخذًا في الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي والمجموعة الخليجية يشكلان معًا 17.5% من حجم التجارة الدولية. وفي هذا الإطار تأمل حكومة حزب العمال البريطاني الوصول إلى توقيع اتفاقية تجارة حرة مع المنظومة الخليجية قبل نهاية العام الحالي 2025، فيما يبلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 73 مليار دولار سنويًا، فإنها تتوقع أن تسهم هذه الاتفاقية في زيادة التجارة بينهما بنسبة 16.5%.
وفي العام الماضي اختُتمت جولة المفاوضات الأولى لاتفاقية تحرير التجارة بين المجموعة الخليجية واليابان، كما شهدت المفاوضات الخليجية التركية، التي بدأت في 2005، نشاطًا متزايدا، حيث أعطت مشاركة الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، في القمة الخليجية الـ44 في ديسمبر 2023، قوة دفع لهذه المفاوضات. وفيما بلغ حجم التجارة الخليجية التركية 31.5 مليار دولار، تسعى أنقرة إلى جذب الاستثمارات الخليجية خاصة لقطاع البنية التحتية لديها.
وفيما كانت دول الخليج أكبر شريك تجاري للهند في 2022، بحجم تبادل التجاري بلغ 154 مليار دولار، ومع وجود ما يقرب من 8.5 ملايين هندي لدى دول مجلس التعاون الخليجي، فقد أخذت تسرع في الانتهاء من توقيع اتفاقية التجارة الحرة، والتي بدأت مفاوضاتها في 2006، فيما وقعت نيودلهي بالفعل اتفاقية تجارة حرة مع الإمارات، واقتربت من توقيع اتفاقية تجارة حرة مع سلطنة عُمان، التي لديها خامس أكبر عدد من الهنود العاملين بالخارج، وتسعى السلطنة من هذه الاتفاقية أن تحقق وصولاً أفضل لصادراتها من الأسمدة ومنتجات الحديد والصلب وغيرها، وهي ثالث أكبر شريك تجاري للهند بين دول المجلس بحجم تجارة يبلغ 12.5 مليار دولار سنويًا.
ومن المتوقع أن تمنح القمة الخليجية-الآسيوية، المقرر عقدها في مايو 2025، دفعة قوية للمضي نحو اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين، وتعزيز الاستثمارات المشتركة، خاصة بعد أن تجاوز حجم التبادل التجاري بينهما 330 مليار دولار في عام 2023. وتضم «رابطة الآسيان»، دولًا، مثل إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، وتايلاند، إلى جانب بروناي، فيتنام، لاوس، ميانمار، وكمبوديا، بإجمالي سكان يبلغ 689 مليون نسمة وناتج محلي إجمالي يقدر بـ3.7 تريليونات دولار، مما يجعلها سادس أكبر اقتصاد عالميًا.
وفي هذا السياق، تعتزم «ماليزيا»، بدء المفاوضات الرسمية مع مجلس التعاون الخليجي لتوقيع اتفاقية تجارة حرة، بعد أن اختتمت في أكتوبر 2024، مفاوضات الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الإمارات، والتي تضمنت بنودًا خاصة بتحرير التجارة، كما أطلقت دول الخليج جولة مفاوضات مع إندونيسيا نهاية العام الماضي، حيث يُتوقع أن تمتد هذه المباحثات نحو عامين. وفي الوقت ذاته، تواصل الدول الخليجية مفاوضاتها مع تكتل «الميركوسور» (السوق المشتركة لأمريكا الجنوبية)، الذي يضم نحو 250 مليون نسمة، بناتج محلي إجمالي يقارب تريليون دولار، وهو ما يمثل نحو 76% من الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا اللاتينية.
ويتميز التعدد في اتفاقات التجارة الحرة الخليجية، بالتوزيع الجغرافي بين مناطق العالم، ومن ثم يقلل من حدة أزمات سلاسل التوريد، ويكسب المستورد الخليجي مرونة التعامل مع أسواق متعددة واختيار الأفضل، كما يتميز هذا التعدد بقدرته على تفعيل تحويل التجارة، فحين يضيق السوق بمنتج معين، أو يصبح هذا المنتج أقل تنافسية في هذا السوق، يستطيع التحول إلى أسواق أخرى يجد فيها تنافسيته.
في السنوات الأخيرة، تأثرت الصادرات الخليجية إلى الولايات المتحدة بفعل السياسة الحمائية التي تبنتها «إدارة ترامب»، والتي استهدفت جعل السلع المستوردة أكثر كلفة على المستهلكين والتجار الأمريكيين، لدفعهم نحو تفضيل المنتجات المحلية، وتحسين ميزان المدفوعات مع الدول المصدرة، وهي السياسة التي لم تراعِ الاتفاقيات التجارية الحرة التي تربط الولايات المتحدة ببعض الدول، مثل اتفاقية «النافتا» مع كندا والمكسيك.
وتعتمد واشنطن على الاستيراد لتلبية 80%من احتياجاتها من الألومنيوم، حيث تأتي 70% من هذه الواردات من كندا، كما تستورد نحو 25% من احتياجاتها من الصلب، ومعظمها من كندا والمكسيك. وفي هذا السياق، فرضت رسومًا جمركية بنسبة 25% على وارداتها من الصلب والألومنيوم، شاملة المنتجات المعدنية النهائية، دون استثناء لأي دولة، حتى تلك التي تربطها اتفاقيات تجارة حرة معها.
وتقدر الصادرات الخليجية من الألومنيوم إلى السوق الأمريكية بنحو 600 ألف طن سنويًا، حيث تستحوذ الإمارات، والبحرين على الحصة الأكبر. وتحتل الإمارات المرتبة الثانية بين موردي الألومنيوم لها بعد كندا، بينما تأتي البحرين في المرتبة الخامسة. وبلغت قيمة صادرات الإمارات من الألومنيوم إليها نحو1.1 مليار دولار خلال العام الماضي، مقابل 488.7 مليون دولار لصادرات البحرين.
وعلى المدى القصير، قد لا يتمكن الإنتاج المحلي الأمريكي من تعويض غياب الموردين الخليجيين عن السوق الأمريكية، لكن على المدى البعيد، إذا نجحت الاستثمارات الأمريكية في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فستضطر الدول الخليجية إلى البحث عن أسواق بديلة. وهنا تبرز أهمية اتفاقيات التجارة الحرة الخليجية، التي تشكل ضمانة لاستمرارية المنتجات الخليجية عالميًا، وتعويض أي تراجع في تنافسيتها داخل السوق الأمريكي.
ويسهم تنوع اتفاقيات التجارة الحرة في تعزيز قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على التكيف مع التحولات الاقتصادية العالمية والتحديات التي تفرضها، مثل تلك الناجمة عن قرارات ترامب الأخيرة. وتتيح هذه القدرة على التكيف تحقيق استدامة نمو القطاع غير النفطي، الذي يُعوَّل عليه ليصبح المحرك الأساسي للناتج المحلي الإجمالي، خاصة قطاع الصناعة التحويلية. وفي ظل تطلع الدول الشريكة للاستفادة من الموقع الجغرافي الخليجي الاستراتيجي، تشكل هذه الاتفاقيات بوابة لتحويل المنطقة إلى مركز تجاري واستثماري عالمي، يدعم تجارة إعادة التصدير، إذ ترى الصين والهند في الخليج نقطة انطلاق نحو الأسواق الأفريقية.
وفي هذا الإطار، كثفت البحرين جهودها لتطوير قطاع الخدمات اللوجستية، ليصبح أحد القطاعات ذات الأولوية في اقتصادها. فالاستثمار في الموقع الجغرافي قد يحقق للمنطقة مكاسب تفوق ما يتيحه قطاع النفط، كما يتجلى في نموذج سنغافورة، التي رغم افتقارها للموارد الطبيعية، تحولت إلى مركز تجاري عالمي بفضل موقعها الاستراتيجي على مضيق ملقا.
وعلى مستوى الاستثمارات، شهد العام الماضي توسعًا ملحوظًا في الاستثمارات الخليجية الخارجية، خاصة في الصين، حيث ضخت صناديق الثروة السيادية الخليجية 2.3 مليار دولار في الشركات الصينية، بزيادة بلغت 22 ضعفًا عن مستواها في 2022. كما ارتفعت عمليات الاستحواذ والاستثمارات الخليجية في الصين بنسبة تفوق 1000%، لتصل إلى 5.3 مليارات دولار، فيما بلغت الحصيلة الاستثمارية لزيارة الرئيس الصيني إلى السعودية نحو 50 مليار دولار. كما امتد التوسع الخليجي إلى دول الآسيان في قطاعات متنوعة، بالتوازي مع زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة من الشرق إلى الخليج.
على العموم، يشكل توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع الصين والهند والآسيان والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، «تحولًا جوهريًا»، في مسار الاقتصاد الخليجي، نحو نموذج متنوع وأكثر تحررًا من الاعتماد على النفط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك