ظاهرة تلوث الهواء يعرفها الإنسان منذ قديم الزمن، ولكن هذه الظاهرة منذ أكثر من 240 عاما، ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية، أصبحت مشهودة أكثر لعامة الناس، وملازمة لحياتهم اليومية، فيراها الجميع أمام أعينهم في المنزل وفي خارج المنزل من الملوثات والأدخنة السوداء التي تنبعث من السيارات، والقطارات، والطائرات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع. وكانت هذه الظاهرة طوال العقود الماضية مقتصرة على الهواء الجوي السفلي، أو ما يعرف بطبقة التروبوسفير من الغلاف الجوي الذي يتعرض لها الإنسان مباشرة، ويتأثر فورياً عند استنشاق هذا المخلوط المعقد والكبير من الملوثات.
ومع الزمن تحولت هذه الظاهرة إلى الهواء في طبقات الجو الأعلى التي لا يتعرض لها الإنسان، وبالتحديد طبقة الأوزون في الاستراتسفير التي توجد على ارتفاع يتراوح بين قرابة 10 إلى 40 كيلومتراً فوق سطح البحر. فقد كان الإنسان يُطلق من على سطح الأرض بعض المركبات الكيميائية التي يستخدمها في تطبيقات عملية يومية لا تعد ولا تحصى، مثل غاز التبريد أو الفريون في الثلاجات والمكيفات وغيرهما (مركبات عضوية تتكون من عنصري الكلورين والفلورين). وهذه المجموعة من المركبات المستقرة كيميائية والخاملة كانت تتحرك مع الوقت إلى السماء العليا فوقنا، وتنتقل إلى الأعلى سنة بعد سنة حتى وصلت إلى مستقرها الأخير وهي طبقة الأوزون العليا. وهناك وفي ذلك العلو، كانت هذه الغازات تلوث بيئة طبقة الأوزون التي كانت تحتوي على غاز الأوزون الذي يحمي الكرة الأرضية من شر الأشعة فوق البنفسجية القاتلة، فتُحلل وعلى مدى عقود طويلة من الزمن هذا الغاز الواقي للإنسان على سطح الأرض، فتسمح بمرو الأشعة فوق البنفسجية إلى أن تصل إلى سطح الأرض، فتؤثر سلبياً في البشر، والشجر، والحجر.
واليوم لوِّث الإنسان الهواء في الفضاء الأعلى على ارتفاعات ومسافات شاهقة لم تخطر على بال أحد، ولم يتصور أي إنسان بأن يديه الفاسدتين تبلغ تلك البيئات العالية جداً، الفطرية العذراء البكر الخالية من أية شوائب وملوثات بشرية.
فالإنسان بدأ غزو واستعمار الفضاء منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في 4 أكتوبر 1957 مع إطلاق أول قمر صناعي من صنع الإنسان، ثم بدأت الرحلات الاستكشافية تزيد سنة بعد سنة، وتتنافس عدة دول متقدمة في تحقيق السبق في هذا المجال العلمي المتقدم، فتمكن الإنسان من الوصول إلى القمر، ثم المريخ، وبعدها بدأ بإطلاق الأقمار الصناعية الضخمة والصغيرة الحجم لأغراض عسكرية ومدنية. وعدد هذه الأقمار الصناعية التي كانت تحوم حول الأرض، وبخاصة في المدار الأرضي المنخفض، لم يزد على ألف قمر صناعي قبل حوالي 15 عاماً، واليوم تفاقم العدد إلى قرابة عشرة آلاف، ومع توافر التقنية لجميع دول العالم، ومع صغر حجم ووزن هذه الأقمار التي لا تتجاوز كيلوجرامات قليلة قد يصل العدد إلى أكثر من 60 ألف قمر صناعي بحلول عام 2040.
فكل هذا الغزو الفضائي، وكل هذه الاستكشافات الفريدة والمتطورة في علوم الفضاء لم تكن من دون مقابل على البيئات في أعالي السماء، وفي الفضاء الواسع السحيق. ولكن الإنسان كعادته في البداية يكون في سباقٍ محتدم وشديد مع الآخرين، فيتجاهل كل القضايا الأخرى التي في نظره ثانوية وهامشية، فلم يفكر في عواقب هذا الغزو الفضائي، ولم يكن لديه الوقت لسبر غور تداعيات هذه الاستكشافات ووجود هذا العدد المهول من الأٌقمار الصناعية والسفن الفضائية حول الأرض. كما أن الإنسان دُهش بحجم هذا الفضاء الواسع الذي لا ينتهي، وظن أن لا شيء يمكن أن يؤثر فيه، أو أن يغير من هويته، كما كان يظن من قبل بأن المحيطات واسعة جداً وعميقة وتستطيع أن تتكيف وتخفف من تأثير الملوثات التي تُصرف في بطنه، وأن الهواء الجوي فوقنا مباشرة أيضاً مساحته عظيمة ولا يمكن للملوثات التي يُطلقها أن تضر بصحته أو بالإنسان نفسه.
ومن أول هذه الانعكاسات هو اكتظاظ الشارع الفضائي الذي تسير فيه كل هذه الأقمار الصناعية المتزايدة يوماً بعد يوم، وبالتحديد في المدار الأرضي المنخفض الذي يتراوح بين 160 إلى 2000 كيلومتر فوق سطح الأرض، فحدث اليوم ازدحام مروري شديد كالذي نشهده في شوارعنا على الأرض، فلم يخطر على بال العلماء أن هذا الفضاء الواسع العميق قد يضيق فيعاني يوماً ما من هذه المشكلة التي نقاسي منها على سطح الأرض. وإضافة إلى هذه الأقمار التي تعمل الآن، فهناك الأقمار الصناعية التي انتهت فترة صلاحيتها وأصبحت لا تشتغل، ولكنها مازالت تدور حول الأرض. فهذا الازدحام المروري لا شك بأنه يولد حوادث وكوارث مرورية تتمثل في اصطدام هذه الأقمار، مما يؤدي إلى تفتتها إلى أجزاء وجسيمات صغيرة تدور أيضاً حول الأرض، ويُطلق عليها الآن بالمخلفات الفضائية، وهذه المخلفات والجسيمات الصغيرة تصطدم أيضاً مع بعض فتولد جسيمات أصغر فأصغر. فهناك اليوم الملايين من الجسيمات والمخلفات الفضائية بمختلف أحجامها وأوزانها تدور بسرعة فائقة وقد تصطدم بالأقمار والسفن السليمة الموجودة في المدار نفسه فتؤدي إلى تحطيمها وتكبد خسائر مالية وتنموية باهظة للإنسان، إضافة إلى تعريض سلامة الإنسان على سطح الأرض، حيث إن بعض هذه المخلفات نزلت على منازل الناس (مقال مجلة «الطبيعة» في 18 مارس 2025 تحت عنوان: «مخلفات الفضاء تسقط من السماء»).
ولعلاج ظاهرة المخلفات الفضائية وتراكم أعداد الأقمار الصناعية المنتهية الصلاحية، قرر الإنسان أن يعيدها إلى الأرض، وبالتحديد إعادة إدخالها في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى اشتعالها في تلك البيئة العليا وسقوطها على الأرض، أي أن الإنسان نفسه زرع مصدراً لتلوث البيئة الفضائية في تلك المنطقة البعيدة النائية.
ولكن حل مشكلة المخلفات الفضائية بحرقها في الغلاف الجوي خلق مشكلة أخرى تتمثل في تدهور جودة الهواء في تلك البيئة البعيدة جداً، وتُغير نوعيتها وهويتها ونظامها الخاص بها، مما قد يسبب عواقب وخيمة مازالت مجهولة للإنسان، ومازال يبحث فيها الآن. ولذلك حاول الإنسان علاج المشكلة، فخلق لنفسه مشكلة أخرى!
وهذه القضية الجديدة لم تعد مقصورة على أهل العلم والاختصاص، ولم تعد سراً يتداوله الخبراء، وإنما وصلت إلى عامة الناس وإلى وسائل الإعلام، حيث نشرت مجلة «الإيكونومست» الاقتصادية العريقة مقالاً في 5 مارس 2025 حول هذه الظاهرة البيئية الخطيرة تحت عنوان: «الأٌقمار الصناعية تلوث الاستراتسفير».
وهناك الكثير من الدراسات العلمية التي غزت الفضاء للاستكشاف أيضاً، ولكن في مجال بحثي آخر هو التعرف من كثب على المردودات السلبية لهذه العمليات البشرية في الفضاء، ودراسة وجود الملوثات الفضائية الناجمة عن إطلاق الصواريخ والأقمار والسفن الصناعية الفضائية على جودة الهواء في الغلاف الجوي في طبقاته الست المعروفة التي يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 20 إلى قرابة 600 كيلومتر. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في مجلة «البيانات العلمية» (Scientific Data) في 3 أكتوبر 2024 حول تلوث الهواء من الأقمار الصناعية واحتراق الصواريخ، ودراسة ثانية منشورة في 10 أكتوبر 2023 في مجلة «وقائع الأكاديمية الأمريكية للعلوم» تحت عنوان: «المعادن من إعادة دخول سفن الفضاء في طبقة الاستراتسفير».
وهذه الدراسات توصلت إلى النتائج التالية:
أولاً: الأقمار الصناعية التي تنتهي صلاحيتها يُعاد إدخالها إلى الغلاف الجوي للتخلص منها لتخفيف الازدحام المروري في مدارات الأرض المنخفضة، فتشتعل وتحترق في الطبقات المختلفة للغلاف الجوي، وتولد أنواعاً كثيرة من الملوثات، حسب نوعية وكمية المعادن التي تدخل في صناعة القمر الصناعي، إضافة إلى نوعية الوقود المستخدم لإطلاق الصواريخ في مراحله المتعددة.
ثانياً: عملية احتراق القمر الصناعي تَنتج عنها أكثر من 25 نوعاً من الملوثات الغازية والصلبة منها غاز ثاني أكسيد الكربون، وأول أكسيد الكربون، وجسيمات الكربون الأسود، وأكاسيد النيتروجين، والكلورين، وبخار الماء، والنحاس، والرصاص، والليثيوم، وأكسيد الألمنيوم، وهيدروكسيد الألمنيوم، والصوديم، والمغنيسيوم، والكروميوم، والنيكل، والفضة، والنيوبيوم (Niobium)، والهافنيوم (Hafnium) والقصدير، وكلوريد الفضة، والفلورين، والحديد، والكادميوم، والبريليوم. وجميع هذه الملوثات تفسد هوية ونوعية مكونات الغلاف الجوي وتؤثر في خصائصه الكيميائية، وتضر بالنظام البيئي في تلك المنطقة من الغلاف الجوي.
ثالثاً: بعد انبعاث هذه الملوثات تحدث سلسلة من التفاعلات بين هذه الملوثات ومكونات الغلاف الجوي. فبعض الملوثات الناجمة عن الحرق مثل الدخان الأسود، أو الكربون الأسود، وأكسيد الألمنيوم، وأكاسيد النيتروجين لها القدرة على تحلل غاز الأوزون في طبقة الأوزون، مما يفاقم من قضية انخفاض غاز الأوزون في تلك الطبقة. فعلى سبيل المثال، أكسيد الألمنيوم يتفاعل مع كلوريد الهيدروجين في طبقة الاستراتسفير فينتج كلوريد الألمنيوم الذي يتحلل بالضوء العالي لينتج الكلورين الذي يحلل غاز الأوزون. كذلك فإن الرماد، والدخان، والجسيمات الدقيقة العالقة في عمود الغلاف الجوي تمتص الضوء فتسبب تغيراً مناخياً لا يعرف أحد نتائجه على الإنسان وكوكبنا، إضافة إلى أن بعض هذه الملوثات قد تؤثر في المجال المغناطيسي للأرض. وعلاوة على ذلك كله فإن هذه الملوثات مع الزمن قد تنزل على الأرض بالترسب الجاف، أو الترسب الرطب من خلال الثلوج والأمطار.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك