العدد : ١٧١٧٤ - الاثنين ٣١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٤ - الاثنين ٣١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شوّال ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

ليلة القدر!

{‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬تأملات‭: ‬في‭ ‬كل‭ ‬رمضان،‭ ‬وفي‭ ‬العشر‭ ‬الأواخر،‭ ‬يترقب‭ ‬المسلمون‭ ‬المؤمنون‭ ‬الموقنون‭ ‬بليلة‭ ‬القدر،‭ ‬أن‭ ‬يبلغهم‭ ‬الله‭ ‬خيرها‭ ‬العظيم،‭ ‬فهي‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬أنزل‭ ‬الله‭ ‬فيها‭ ‬القرآن‭ ‬والفرقان،‭ ‬وهي‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬يعتق‭ ‬فيها‭ ‬الرقاب‭ ‬من‭ ‬النيران‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬ليلة‭ ‬رمضانية‭ ‬أخرى،‭ ‬وحيث‭ ‬ينسى‭ ‬المؤمنون‭ ‬الموقنون‭ ‬في‭ ‬دعائهم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬ما‭ ‬أوصى‭ ‬به‭ ‬النبي‭ ‬من‭ ‬دعاء‭ (‬اللهم‭ ‬إنك‭ ‬عفوّ‭ ‬تحب‭ ‬العفو‭ ‬فاعف‭ ‬عني‭)‬،‭ ‬ففي‭ ‬العفو‭ ‬الإلهي‭ ‬علوّ‭ ‬المراتب‭ ‬وغاية‭ ‬الغايات‭ ‬بدخول‭ ‬جنة‭ ‬النعيم‭. ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬الكثيرون‭ ‬أن‭ ‬نور‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬يتوازى‭ ‬فيها‭ ‬النور‭ ‬الداخلي‭ ‬بالنور‭ ‬الخارجي‭!‬

وأن‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬هي‭ ‬ذلك‭ ‬النور‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬داخلنا،‭ ‬الذي‭ ‬تتسع‭ ‬رقعته‭ ‬ويتسع‭ ‬محيطه‭ ‬ليحيط‭ ‬بالمؤمنين‭ ‬كهالة‭ ‬نورانية،‭ ‬تم‭ ‬تحصيلها‭ ‬بالإيمان‭ ‬واليقين‭ ‬بالآخرة‭ ‬والتوكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬مثلما‭ ‬تم‭ ‬تحصيلها‭ ‬بالأعمال‭ ‬الصالحات‭ ‬التي‭ ‬تدخل‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الفرائض‭ ‬والتكاليف‭ ‬والقيم‭ ‬والأخلاقيات‭ ‬إيمانًا‭ ‬واحتسابًا‭ ‬وسلوكًا‭ ‬ومعاملة‭! ‬هؤلاء‭ ‬وحدهم‭ ‬يرجون‭ ‬بالدعاء‭ ‬الجنة‭ ‬الموعودة‭ ‬ونعيم‭ ‬الآخرة‭ ‬بعد‭ ‬حياة‭ ‬حافلة‭ ‬بالمكابرات‭ ‬والتحديات‭ ‬والفتن‭ ‬والاختبارات‭ ‬الإيمانية‭! ‬مثلما‭ ‬يرجوها‭ ‬من‭ ‬شملهم‭ ‬الله‭ ‬برحمته،‭ ‬فهو‭ ‬وحده‭ ‬الخبير‭ ‬بالسرائر‭ ‬والبواطن‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الظاهر‭ ‬لا‭ ‬يشي‭ ‬بحقيقتها‭!‬

{‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬لها‭ ‬علامات‭ ‬يرصدها‭ ‬الراصدون،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كحدث‭ ‬تعمّ‭ ‬أنوارها‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬الصفاء‭ ‬الروحي‭ ‬الداخلي‭ ‬لمن‭ ‬يبلغها،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬محكم‭ ‬كتابه‭ :(‬إنا‭ ‬أنزلناه‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬القدر،‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬ما‭ ‬ليلة‭ ‬القدر،‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬شهر،‭ ‬تنزّل‭ ‬الملائكة‭ ‬والروح‭ ‬فيها‭ ‬بإذن‭ ‬ربهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أمر،‭ ‬سلام‭ ‬هي‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬الفجر‭) ‬سورة‭ ‬القدر‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬ما‭ ‬يفصل‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬بلوغها‭ ‬كمسافة‭ ‬برزخية‭ ‬ومعنوية‭ ‬هي‭ ‬النفس‭ ‬وما‭ ‬تراكم‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬شيفرة‭ ‬الروح‭ ‬من‭ ‬تزكية‭ ‬لتلك‭ ‬النفس‭ ‬التي‭ ‬ألهمها‭ ‬فجورها‭ ‬وتقواها‭! ‬فكل‭ ‬فعل‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬يتم‭ ‬استنساخه‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬لا‭ ‬يُبقى‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭ ‬إلا‭ ‬أحصاها‭! ‬ومثقال‭ ‬ذرّة‭ ‬خيرا‭ ‬تره،‭ ‬ومثقال‭ ‬ذرّة‭ ‬شرا‭ ‬تره‭!‬

فإن‭ ‬بلغ‭ ‬المؤمن‭ ‬مرتبة‭ ‬صلاح‭ ‬النفس‭ ‬وسموّها‭ ‬وكان‭ ‬الدين‭ ‬أخلاقه‭ ‬أينما‭ ‬حلّ‭ ‬وارتحل‭ ‬وكلنا‭ ‬نرجو‭ ‬ذلك‭ ‬الصلاح‭ ‬فإن‭ ‬نور‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬ويكون‭ ‬قد‭ ‬بلغها‭!‬

{‭ ‬يتفاعل‭ ‬البعض‭ ‬مع‭ ‬ليالي‭ ‬رمضان‭ ‬ومع‭ ‬العشر‭ ‬الأواخر‭ ‬منه،‭ ‬ومع‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬فيها،‭ ‬وكأنها‭ ‬انتظار‭ ‬لأن‭ ‬يقع‭ ‬‮«‬الفانوس‭ ‬السحري‮»‬‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬فيحقق‭ ‬له‭ ‬مطالب‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة‭ ‬معًا،‭ ‬ولا‭ ‬يتأمل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬وهو‭ ‬يترقب‭ ‬الليلة‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬زكى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬سابقة،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬مفاسدها‭ ‬وفجورها‭! ‬وأن‭ ‬نوره‭ ‬الداخلي‭ ‬جرّاء‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬نور‭ ‬خافت‭ ‬لا‭ ‬يبلغ‭ ‬أخمص‭ ‬قدميه‭! ‬وأن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬المباركة‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مبارك،‭ ‬يسبقه‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬النقاء‭ ‬الروحي‭ ‬بجهد‭ ‬وحصيلة‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬وفعله‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬اعتقادًا‭ ‬والتزامًا‭ ‬وسلوكًا‭ ‬ويقينًا‭! ‬فالعبادات‭ ‬ليست‭ ‬الشعائر‭ ‬وحدها‭ ‬ولا‭ ‬القيام‭ ‬بالتكاليف،‭ ‬وإنما‭ ‬بمدى‭ ‬تحوّل‭ ‬الإيمان‭ ‬والفرائض‭ ‬والنوافل‭ ‬إلى‭ ‬سلوكيات‭ ‬وأخلاقيات‭ ‬وقيم،‭ ‬وصلة‭ ‬قريبة‭ ‬وعميقة‭ ‬بالله،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬أقوالنا‭ ‬وأفعالنا‭ ‬ونياتنا،‭ ‬وحينها‭ ‬فإن‭ ‬عتق‭ ‬الرقاب‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬هو‭ ‬وعد‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬لنا،‭ ‬وبرحمته‭ ‬وغفرانه‭ ‬لأخطائنا‭ -‬وكلنا‭ ‬خطاؤون‭- ‬تكون‭ ‬أرواحنا‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الأخروي‭ ‬اللائق‭ ‬بها‭ ‬وهي‭ ‬الجنة‭!‬

{‭ ‬النفوس‭ ‬الغائبة‭ ‬والمتجاهلة‭ ‬لحقيقة‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬معنية‭ ‬بالمقامات‭ ‬والمراتب‭ ‬الروحية،‭ ‬أو‭ ‬بتعاليم‭ ‬الله،‭ ‬بل‭ ‬وتعتبر‭ ‬الدين‭ ‬نفسه‭ ‬تخلفًا‭ ‬وتسخر‭ ‬منه‭! ‬هذه‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬غير‭ ‬معنية‭ ‬أصلاً‭ ‬لا‭ ‬برمضان‭ ‬ولا‭ ‬بلياليه‭ ‬العشر‭ ‬ولا‭ ‬بليلة‭ ‬القدر،‭ ‬سواء‭ ‬كعبادة‭ ‬أو‭ ‬كمدارج‭ ‬روحية،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يفقه‭ ‬فيها‭ ‬كثيرًا‭ ‬أو‭ ‬قليلاً‭! ‬أما‭ ‬حكاية‭ ‬من‭ ‬يتخيل‭ ‬فانوسًا‭ ‬سحريًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حوّله‭ ‬إلى‭ ‬فانوس‭ ‬سحري‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬فإن‭ ‬سطوة‭ ‬المطالب‭ ‬والمطامح‭ ‬الدنيوية‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يشغله،‭ ‬وسط‭ ‬حلم‭ ‬باذخ‭ ‬بأن‭ ‬يدخل‭ ‬الجنة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المفاسد‭ ‬النفسية‭ ‬والروحية‭ ‬هي‭ ‬بأسباب‭ ‬ولأسباب‭ ‬دنيوية،‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬طويلاً‭ ‬ليتأملها‭ ‬ويتأمل‭ ‬حقيقتها‭ ‬كمتاع‭ ‬الغرور‭! ‬وفي‭ ‬ليالٍ‭ ‬معدودة‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬تبرز‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التفكرّ‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬وهو‭ ‬التفكرّ‭ ‬الذي‭ ‬لو‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬لصلح‭ ‬حاله‭ ‬وحال‭ ‬من‭ ‬حوله‭!‬

{‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬يشع‭ ‬نورها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬النفوس‭ ‬التي‭ ‬جاهدت‭ ‬نفسها‭ ‬وإن‭ ‬ألمّ‭ ‬بجهادها‭ ‬الأخطاء،‭ ‬فهو‭ ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬نبي‭ ‬البشرية‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬إنه‭ ‬الجهاد‭ ‬الأكبر،‭ ‬وبه‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬يغفر‭ ‬الله‭ ‬الكثير،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الشرك‭ ‬به،‭ ‬وكل‭ ‬بني‭ ‬آدم‭ ‬خطَّاء‭ ‬وخير‭ ‬الخطائين‭ ‬التوابون،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬واقع‭ ‬تحت‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬ومغفرته،‭ ‬وهو‭ ‬العليم‭ ‬ببواطن‭ ‬البشر‭ ‬ومكامن‭ ‬خيرهم‭ ‬وضعفهم،‭ ‬والتوبة‭ ‬والدعاء‭ ‬بإخلاص‭ ‬قد‭ ‬يوصل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يرجوه‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬صفحًا‭ ‬ومغفرة‭ ‬وبلوغًا‭ ‬لنور‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬روحيًا‭ ‬ومعنويًا،‭ ‬والعتق‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬حقيقة‭! ‬ونسأل‭ ‬الله‭ ‬لنا‭ ‬وللجميع‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬بلغنا‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬المبارك‭.. ‬وكل‭ ‬عام‭ ‬وأنتم‭ ‬بخير‭.‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا