عالم يتغير

فوزية رشيد
ليلة القدر!
{ هي مجرد تأملات: في كل رمضان، وفي العشر الأواخر، يترقب المسلمون المؤمنون الموقنون بليلة القدر، أن يبلغهم الله خيرها العظيم، فهي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن والفرقان، وهي الليلة التي يعتق فيها الرقاب من النيران أكثر من أية ليلة رمضانية أخرى، وحيث ينسى المؤمنون الموقنون في دعائهم كل شيء ما عدا ما أوصى به النبي من دعاء (اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعف عني)، ففي العفو الإلهي علوّ المراتب وغاية الغايات بدخول جنة النعيم. ولكن الذي ربما لا يدركه الكثيرون أن نور هذه الليلة يتوازى فيها النور الداخلي بالنور الخارجي!
وأن ليلة القدر هي ذلك النور الذي في داخلنا، الذي تتسع رقعته ويتسع محيطه ليحيط بالمؤمنين كهالة نورانية، تم تحصيلها بالإيمان واليقين بالآخرة والتوكل على الله في كل شيء، مثلما تم تحصيلها بالأعمال الصالحات التي تدخل فيها كل الفرائض والتكاليف والقيم والأخلاقيات إيمانًا واحتسابًا وسلوكًا ومعاملة! هؤلاء وحدهم يرجون بالدعاء الجنة الموعودة ونعيم الآخرة بعد حياة حافلة بالمكابرات والتحديات والفتن والاختبارات الإيمانية! مثلما يرجوها من شملهم الله برحمته، فهو وحده الخبير بالسرائر والبواطن وإن كان الظاهر لا يشي بحقيقتها!
{ رغم أن ليلة القدر لها علامات يرصدها الراصدون، إلا أنها كحدث تعمّ أنوارها العالم كله في ليلة من الصفاء الروحي الداخلي لمن يبلغها، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه :(إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر) سورة القدر.
وفي هذه الليلة ما يفصل الناس عن بلوغها كمسافة برزخية ومعنوية هي النفس وما تراكم في داخل شيفرة الروح من تزكية لتلك النفس التي ألهمها فجورها وتقواها! فكل فعل نقوم به يتم استنساخه في كتاب لا يُبقى صغيرة وكبيرة إلا أحصاها! ومثقال ذرّة خيرا تره، ومثقال ذرّة شرا تره!
فإن بلغ المؤمن مرتبة صلاح النفس وسموّها وكان الدين أخلاقه أينما حلّ وارتحل وكلنا نرجو ذلك الصلاح فإن نور ليلة القدر في داخله، ويكون قد بلغها!
{ يتفاعل البعض مع ليالي رمضان ومع العشر الأواخر منه، ومع ليلة القدر فيها، وكأنها انتظار لأن يقع «الفانوس السحري» بين يديه، فيحقق له مطالب الدنيا والآخرة معًا، ولا يتأمل في نفسه وهو يترقب الليلة إن كان قد زكى نفسه في رحلة طويلة سابقة، أو أنه قد وقع في مفاسدها وفجورها! وأن نوره الداخلي جرّاء ذلك هو نور خافت لا يبلغ أخمص قدميه! وأن الوصول إلى هذه الليلة المباركة في شهر مبارك، يسبقه الوصول إلى النقاء الروحي بجهد وحصيلة ما تم القيام به وفعله في حياته اعتقادًا والتزامًا وسلوكًا ويقينًا! فالعبادات ليست الشعائر وحدها ولا القيام بالتكاليف، وإنما بمدى تحوّل الإيمان والفرائض والنوافل إلى سلوكيات وأخلاقيات وقيم، وصلة قريبة وعميقة بالله، بحيث يكون حاضرًا في أقوالنا وأفعالنا ونياتنا، وحينها فإن عتق الرقاب من النار هو وعد من الله لنا، وبرحمته وغفرانه لأخطائنا -وكلنا خطاؤون- تكون أرواحنا في المكان الأخروي اللائق بها وهي الجنة!
{ النفوس الغائبة والمتجاهلة لحقيقة وجودها في هذه الدنيا، قد لا تكون معنية بالمقامات والمراتب الروحية، أو بتعاليم الله، بل وتعتبر الدين نفسه تخلفًا وتسخر منه! هذه كما يبدو غير معنية أصلاً لا برمضان ولا بلياليه العشر ولا بليلة القدر، سواء كعبادة أو كمدارج روحية، لأنه لا يفقه فيها كثيرًا أو قليلاً! أما حكاية من يتخيل فانوسًا سحريًا بعد أن حوّله إلى فانوس سحري من نوع آخر، فإن سطوة المطالب والمطامح الدنيوية هي أكثر ما يشغله، وسط حلم باذخ بأن يدخل الجنة، رغم أن كل المفاسد النفسية والروحية هي بأسباب ولأسباب دنيوية، لم يقف طويلاً ليتأملها ويتأمل حقيقتها كمتاع الغرور! وفي ليالٍ معدودة في رمضان تبرز الحاجة إلى التفكرّ في الآخرة وما بعد الموت، وهو التفكرّ الذي لو قام به طوال حياته لصلح حاله وحال من حوله!
{ ليلة القدر يشع نورها في تلك النفوس التي جاهدت نفسها وإن ألمّ بجهادها الأخطاء، فهو وكما قال نبي البشرية عليه الصلاة والسلام، إنه الجهاد الأكبر، وبه ومن خلاله يغفر الله الكثير، إن لم يتم الشرك به، وكل بني آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون، وكل شيء بعد ذلك واقع تحت رحمة الله ومغفرته، وهو العليم ببواطن البشر ومكامن خيرهم وضعفهم، والتوبة والدعاء بإخلاص قد يوصل الإنسان إلى ما يرجوه من الله صفحًا ومغفرة وبلوغًا لنور ليلة القدر روحيًا ومعنويًا، والعتق من النار حقيقة! ونسأل الله لنا وللجميع أن نكون قد بلغنا ليلة القدر في هذا الشهر المبارك.. وكل عام وأنتم بخير.
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك